العقاب بالديموقراطية
كمال غبريال
يقولون لي حنانيك، فأنت تطلق سهام النقد في كل اتجاه، تطلقها على صدور مَن مِن المفترض أن تنتمي إليهم وإلى جبهتهم، وأن هذا ليس أوان انتقاد رفقاء الدرب، وإنما هو أوان التكاتف من أجل "كشف الغمة وإنقاذ الأمة"، وبعدها يمكن أن يكون لكل حادث حديث. . لكن بغض النظر عن أن انتماء ومشاركة مثلي لن تكون في جميع الأحوال إلا عبر التخصص في النقد والمراجعة الدؤوبة المدققة، فهذا هو دوري الذي أراه لنفسي، فلا أراني أداة دعاية آلية عمياء لأي مشروع مهما كانت طبيعة هذا المشروع، فإن الأهم هو أن الأولوية لدي الآن هي سقوط أفكار الجهل والجهالة في الشارع، ليحتل سقوط رموز الجهل بشخوصهم من على كراسي الحكم الأولوية الثانية، وبئس الأمل المتعجل القائم على محاولة الهروب من تجرع نتائج ما ترسخ بيننا عبر عقود، نحن من اعتنقنا نظرية المؤامرة وكراهية الآخر، وانكفأنا على رؤية دينية مغلقة للحياة ومعادية للحضارة، وتفشت بيننا الفهلوة والنفاق والتسلق والدجل والغيبيات وسائر صنوف الفساد، ثم نأتي الآن وقد نلنا بالديموقراطية ما نستحق عن جدارة، لنصب لعناتنا على طيور الظلام، متصورين أن النجاة هي مجرد الخلاص من هيمنتهم، وما هم في الحقيقة إلا بعض منا.
الشفاء أولاً مما بنا يا سادة، بعدها يمكن أن يكون الأمل في غد أفضل أكثر منطقية وقابلية للتحقق، ولا نرى إمكانية لشفاء حقيقي بغير تلقي العقاب من أنفسنا لأنفسنا، أو فلنقل العقاب عبر الديموقراطية التي باعدت بيننا وبين من قد يدفعوننا في اتجاه خارج نطاق رؤانا وميولنا، فالحكام المستبدون "المفارقون" ينحسرون الآن من عالمنا العربي، ليحل محلهم مستبدون "صناعة محلية" بامتياز، فلا يعتبرني أحد بعد الآن معارضاً لطيور الظلام، بل معارضاً للشعب وللثقافة التي أنتجتهم.
أرجو ألا يأخذني أحد على محمل الجد إذا قلت أنني سعيد بهذا الافتضاح لأخلاق وثقافة كافة مكونات الشعب المصري دون استثناء، ما يتبدى في سائر مظاهر الانحلال والتسيب في كافة مجالات الحياة، ولعل أبسطها وأكثرها وضوحاً وفجاجة حالة الشوارع في المدن المصرية، والتي تختلط فيها تلال القمامة بالحركة العشوائية للسيارات بالباعة الذي يفترشون نهر الطرق، وتجريف الأرض الزراعية وردم نهر النيل ذاته، فما آمله أو حتى أتوقعه أنه بعد مرحلة الافتضاح سيأتي وقت الوعي بحالتنا الحقيقية، المخالفة لكل ما أوهمنا به أنفسنا من احتكار للفضيلة وسط عالم نراه ماجناً ومنحلاً، بعدها ستأتي التوبة عما بنا من بلايا، وبعد التوبة يأتي زمان التطهر، ليلي التطهر تشييد أبنية جديدة على أسس جد مختلفة عن كل العفن والتكلس الذي كان، لهذا بالتحديد أتمنى ألا يسقط الإخوان قريباً، ليتاح لنا المضي في هذه المسيرة الحيوية بالغة الجوهرية لمستقبل الشعب المصري، كما يتاح للإخوان ما يكفي من الوقت لتتحول النيران التي أوقدوها في جسد الوطن الذي يستهينون به إلى مجرد رماد!!
رحلة العقاب الذاتي عبر الديموقراطية كما نتوقع ممتدة أمام الشعب المصري إلى مدى غير منظور، فها قد بدأت الهجمة العنترية المقدسة على الإعلام، بالتوازي مع تهديدات لا نعرف إلى أي مدى ستصل للنشطاء والرموز السياسية، وغني عن الذكر بالطبع أن أغلب هؤلاء هم من فئة "عاصري الليمون"، الذين صوتوا لمرسي باعتباره رمزاً للثورة المصرية، ثم عادوا الآن وبمنتهى البساطة للاعتذار، وكأنهم قد داسوا في الأوتوبيس على رجل سيدة أو طفل!!. . هؤلاء الإعلاميين أيضاً هم من استحضروا "عفريت" شيوخ الإرهاب والتكفير وصيروهم نجوماً وخبراء يحددون للشعب المصري مسيرته ومستقبله. . تدريجياً سوف يسيطر الإخوان على القنوات الفضائية الخاصة، وسوف يضطر الإعلاميون إما للتأخون، أو لتقديم برامج يظهر فيها من يمثلون دور معارضة ديكورية مستأنسة، فالدور الذي يقوم به بعض الإعلاميين الآن على درجة من السخونة في مناهضة مشروع التمكين لا تتناسب مع حجم ظهير يفترض أن يساندهم في الشارع، وقد بدأ هذا الظهير المتمثل في تظاهرات الشباب يخمد شيئاً فشيئاً، ويلجأ للعنف لتعويض ضعف القدرة على الحشد، وربما نكون مقبلين على مرحلة استسلام مؤقت لما حل بنا من قضاء.
لدينا أيضاً من يتنادون استدعاء للعسكر لإنقاذنا، هؤلاء أشبه بمن يريدون إعادة غلق البالوعة المصرية التي انفجرت محتوياتها بأي طريقة كانت، في حين أن من يختارون المواجهة والدخول في أتون التفاعلات السياسية والثقافية كمن يفضلون أن تضرب الشمس والهواء مكوناتها التي طفحت حتى تمام التطهير. . نعم سرعة الخلاص من حكم الإخوان تجنب البلاد ويلات ربما تكون فوق الاحتمال، ولكن علينا أن نتحسب أيضاً من أن هذا التسرع ذاته قد يؤدي بنا إلى أن نقوم بتمهيد الطريق للسلفيين، فتكون الآخرة أشر من الأولى. . هي الفزاعة ذاتها مرة ثانية، ما دمنا سنظل نختار بين بدائل كل منها أسوأ من الأخرى، ونحجم عن الدخول في مراجعة وتغيير حقيقي لما بأنفسنا.
نتلقى الدرس أو العقاب من القطعان التي انطلقت علينا، أو بالأحرى أطلقناهم نحن على أنفسنا، من يتصورون أنهم رسل الإيمان والفضيلة في القرن الواحد والعشرين، هؤلاء الذي يشملهم ما قاله خالد الفكر د. فرج فودة، من أن "زيت الكافور" هو الحل لتهدئة شيوخ الفتنة والكراهية وفتاوى النساء!!. . كثير من تصريحات مشايخ الكراهية تشعرني مثلاً كما لو أن الأقباط دودة تنهش في أمعائهم فيصرخون ويتشنجون محرضين عليها، ويصورون المرأة كشيطان يتربص بفضيلتهم وعفافهم وإيمانهم، في حين أن الشيطان بشهواته المسعورة يسري في دمائهم، وماذا يمكن أن نقول غير ذلك حين يطالعنا أحدهم بفتوى عدم جواز خلوة الرجل بشاب حسن المنظر حتى لا يشتهيه؟!!. . هؤلاء ويا للعجب لا يرون سياسياً فيما يحدث بالساحة من رفض لهم واستجهان وسخرية من أفكارهم، سوى أنهم الفلول والدولة العميقة وأعداء المشروع الإسلامي من يحاربون مشروعهم لأستاذية العالم. . هو إذن العناد وثقافة الإنكار والاستهانة بالوطن ما يظنونه بطولة وصلابة، أما الأمل في أن يبصروا بعيونهم ويتأملوا ما صار إليه أمرنا وأمرهم، فهو ما ينطبق عليه قول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي، وربما مجمل ما يحدث هو فقدان الكثيرين للقدرة على التمييز بين الله وبين الشيطان، ومع ذلك فليس من المتصور أن "عبدة الشيطان" هؤلاء كان يمكن أن يتفوهوا بما يتقيأونه لو لم تكن هناك جماهير غفيرة تطرب لما يقولون، ويوم تكف الجماهير عن الالتفاف حولهم، ولا تعود تعتبرهم دعاة ومجاهدين وعلماء، لابد وأن يبحث هؤلاء عن مهنة شريفة يتكسبون منها قوتهم ويريحون ويستريحون!!
لا تقتصر المعاناة أو الدرس الأليم الذي يتلقاه الشعب المصري على سيطرة رسل الجاهلية هؤلاء، ولكن هي الديموقراطية التي تأتي أيضاً بأصحاب الأيديولوجيات التي لا تقل كثيراً في خطورتها عن فكر الجهل والخرافة، فحيث يسود "فكر الفقر" نجد من يتاجرون ويتشدقون بمقولة "الانحياز للفقراء"، أما حيث يسود "فكر الرخاء والإبداع"، نجد استهداف "الفقر" للقضاء عليه واستئصاله، عبر تحويل "الفقراء" إلى قوة إنتاج تحقق الرخاء لذواتها وللمجتمع ككل، ما لن يتأتى إلا عبر جهود رجال الأعمال الذين يعتبرهم الديماجوجيون والماركسيون أعداء الشعب، فالحقيقة المرة الآن في مصر هي أن أغلب أصحاب الأصوات العالية والحناجر العظيمة لكل من أصحاب اليسار وأصحاب اليمين، متفقون على ذبح رجال الأعمال ونهب ثرواتهم، فإذا كان الإخوان ينتوون ذلك للسيطرة على تلك الثروات لصالح كوادرهم ولاستكمال مشروع التمكين، فهكذا النخبة الناصرية اليسارية ومعهم غالبية في الشعب متشبعة بهلاوس تم حقنهم بها لسنوات طوال يتمنون ذلك أيضاً، تحقيقاً لعدالة اجتماعية توزع الفقر بالتساوي بين كل أبناء الوطن، لنجد أنفسنا وقد دخلنا بالديموقراطية في طريق كارثة اقتصادية حقيقية وليست مجازية، حين نسير بخطى واثقة لذبح كل مصادر وركائز الاقتصاد المصري، سواء بضرب مقومات السياحة وقد صوت سكان المدن السياحة لمن يعتبرون السياحة كفراً وفسقاً وفجوراً، أو بذبح رجال الأعمال رموز البرجوازية والرأسمالية المتوحشة، وكأننا نجري هكذا نحو نهايتنا المفجعة لنحتضنها ونحن نبكي ونولول!!
العقاب الذاتي هو أنجع وأقصر السبل للشفاء، فهو كما يقال "الداء والدواء"، وأقصى ما نتمناه أن يتمكن "الدواء" من شفائنا قبل أن يقضي علينا "الداء" قضاء نهائياً.
kghobrial@yahoo.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات (0)