العفريت.. في يده كبريت.. وامرؤ القيس.. يشرب الكأس
من مقامات مجنون العرب
تحير امرؤ القيس حيرة شديدة.. فإما أن يذهب إلى بلاد اليمن السعيدة.. لكي يعود ومعه رجال.. يساعدونه في مواجهة خصومه أثناء القتال.. وإما أن يتوجه غربا إلى القيصر.. لكي يطلب إمداده بحشد من العسكر.. وظل امرؤ القيس متحيرا بعض الوقت.. إلى أن خلع عباءة التردد والصمت.. فقد أيقن ان النظام العربي ضعيف.. وأن الزمان لا يقابل الضعفاء بوجه لطيف.. وهكذا حسم الأمر.. استعدادا ليوم الثأر.. وقرر أن يدرأ عنه الهموم.. بالذهاب إلى قيصر الروم.
تخوف المجنون مما قد يواجهه امرؤ القيس من مصير.. وناشده بألا يسير.. وقال لامريء القيس.. أخشى أن تشرب الكأس.. ولابد أن أذكرك بأنك قد قلت بالأمس:
«تطاول الليل علينا دَمُّونْ
دمُّونُ.. إنا معشرُ يمانونْ
وإننا لأهلنا مُحبُّونْ»
لم يهتم امرؤ القيس بقول المجنون.. وأكد أن لقاء القيصر سهل ومضمون.. وأن الطريق إليه مأمون.. وهنا قرر المجنون أن يذهب معه.. لعله يستطيع أن ينفعه.. أو أن يسليه في الطريق.. ويخفف عنه بعض الضيق.
على امتداد الطريق شاهد الإثنان.. ما تشيب له الولدان.. فقد شاهدا ظلا مخيفا لعفريت.. يمسك بيده اليمنى علبة كبريت.. ويطلق باليسرى سربا من البوم.. وحوله علب ملآنة بالسموم.. كما شاهدا أشلاء فارس قتيل.. بقرب حصان لا يكف عن الصهيل.. وفي السماء كان الرعد.. يقرقع ويشتد.. ويسأل عمن معه وعمن ضد.. تلفت امرؤ القيس إلى المجنون.. وقال: أنا لا أحب الذين يبكون.. فأجابه المجنون بأنه لا يبكي.. لكن أمرأ القيس قال: بل إنك من القلب تبكي.. وهذا ما يضاعف حيرتي وشكي.. وتنحنح الشاعر الفارس الحزين.. ليقول بحزن دفين:
أنا.. أُمرؤ القيسِ الذي عدتُ كي أرى
ينابيع إلهامي.. تُباعُ وتُشتَرى
أمر على الأطلال في ساحةٍ خَلَتْ
ولم يبقَ فيها غيرُ يأسٍ تَسَمَّراَ
أخوضُ الليالي موجةً بعد موجةٍ
ولستُ أرى فجراَ يطلُّ مُبَشَّراَ
وفي الأفْقِ رعدٌ قد تمدد وافترى
ليخفي بسقفِ الليل بدراً منوَّرا
أرى في المدى أشلاءَ من كان فارساَ
وظِلاَّ لعفريتٍ أتى متجبراَ
وكنتُ أرى فيما مضى شمسَ يعربٍ
وواحاتِ نخل تجعلُ التمر سُكَّرا
وكنتُ أرى سلمى وأعشق حُسنَها
وأشهدُ.. لو صخرٌ رآه.. لأثمراَ
فمالي أرى الدنيا تبدَّدَ صفوُهَا
ومستقبلاً وعراً وجيلاً مُحَيرَّا
بغير يقين أهجر الآنَ موطني
أقول لنفسي: قد أعودُ مُظَفَّرا
بكى صاحبي لما رأى الغربَ وجهتي
وأيقنَ أني قد أذِلُّ لقيصرا
.. بمجرد دخوله من بوابة القصر المرمرية.. أجريت لأمريء القيس مراسم استقبال رسمية.. ودخل على القيصر.. ورآه جالسا في هيئة غضنفر.. أما المجنون فقد وضع على رأسه طاقية الإخفاء.. وتذكر على الفور قول أحد الشعراء الحكماء:
«إذا رأيتَ نيوب الليث بارزةً
فلا تظنَّنَ أن الليث يبتسمُ»
حين تهلل وجه امريء القيس.. كان قد شرب الكأس.. فقد وعده القيصر خيرا.. ما دام يريد أن يأخذ ثأرا.. وخرج الشاعر بعد اللقاء.. ليؤكد للصحفيين أنه قد عاد إلى حالة الصفاء.. بعد أن أحس أن النصر سيأتيه دون إبطاء.. فقد وعده القيصر.. بحشد كبير من العسكر.. وفي طريق العودة الطويل.. جاء مبعوث القيصر الجليل.. وسلم لإمريء القيس هدية.. بالقرب من مدينة أنقرة الرومية.. وكانت الهدية بدلة مزركشة.. تغمر من يلبسها بروح الفرح والفرفشة.. وفي الحال ارتدى امرؤ القيس البدلة.. لكن فرحته لم تدم أكثر من ليلة.. وقد أحس المجنون أنها بدلة ملغومة.. وبالفعل فإنها كانت مسمومة.. وهنا بكى المجنون أشدالبكاء.. بينما سقط امرؤ القيس فوق رمل الصحراء.. ورأى قبرا لامرأة من بنات ملوك الروم.. فأدرك أَنْ سيوافيه الأجل المحتوم.. قبل أن يأخذ الثأر... وقبل أن يتحقق له ما كان يرجوه من نصر.. وهكذا اندفع قائلا لمن تسكن في القبر
«أجارتناَ إن المزار قريبُ
وإني مقيم ما أقام عسيبُ
أجارتنا إنَّا غريبان ها هنا
وكل غريبٍ للغريبِ نسيبُ»
التعليقات (0)