العفاريت .. قتلوا المهندس!
».. في العالم النامي نعرف أن الإنسان يصاب بنوعين من الأمراض عضوية ونفسية، بينما العالم المتقدم يعرف نوعاً إضافيا هو الأمراض الروحية.. وهو ما نطلق عليه هنا العفاريت..«.
في منتصف شهر يناير ٦٨٩١.. في تلك الليلة كان الطقس شديدة البرودة وعند عودتي قبيل الفجر بوقت قليل.. لاحظت من بعيد وقوف سيارة شرطة بالقرب من منزلي، مع اقترابي تعرفت علي السيارة، فقد كانت سيارة وحدة مباحث قسم شرطة الزاوية الحمراء، واقتربت أكثر وأكثر فوجدت الرائد محمد كمال زكي معاون مباحث القسم يجلس بجوار السائق، اقتربت منه وألقيت عليه بالتحية، ففوجئت به ينزل مسرعاً، وبعد أن تصافحنا قال: ياعم.. دوختني عليك، أنا مستنيك من أكتر من ساعة ونص.. انته كنت فين؟
في ذلك الوقت لم تكن التليفونات المحمولة قد اكتشفت بعد، كان التليفون الثابت هو الوسيلة الوحيدة للاتصال بين البشر.
قلت: ابداً .. كنت مرافقا لقوة من مباحث مكافحة المخدرات خلال مهاجمتها لأحد أوكار تجارة المخدرات في منطقة مصر القديمة.
سألت : خير.
قال وهو يدفعني للدخول إلي كابينة السيارة: أدخل بسرعة، وفي الطريق أنا هافهمك كل حاجة، وأشار للسائق للاطلاق بالسيارة وقال: اطلع علي القسم يابني.
>>>
بينما كانت السيارة تنطلق، قال الرائد محمد كمال زكي: عندنا موضوع غريب والدنيا مقلوبة في القسم.. المديرية والنيابة، وقاللولي لازم أجيبك فوراً.
قلت: قتل ولاسرقة.
قال: لا ده ولاده.
قلت: أمال.. ايه؟
قال: عفاريت.
وسكت تماما، ولم ينطق بكلمة!
فقلت: عفاريت؟
قال : أيوه عفاريت.
وقلت مستنكراً : ياباشا.. عفاريت إيه ياعم، ما عفريت إلا بني آدم.
قال: ما أنا كنت بأقول زيك كده، لحد ماشوفت بعيني.
قلت: شوفت إيه ياباشا؟.
قال: شوفت العفاريت.
قلت: ياعم الله يهديك، واحدة واحدة عليا.. قوللي بس إيه الحكاية من الأول.
قال: النهارده الساعة ستة بعد المغرب، جالنا بلاغ بوفاة مهندس زراعي في منزله، عاينا الجثة لقيناها طبيعية، ومفيش عليها أي آثار لعنف.. أشقاء المهندس وكانوا ثلاث فتيات وشابين، سألناهم عن ظروف الوفاة، أجمعوا كلهم علي حكاية واحدة.. قالوا ان أخيهم المتوفي كان ومنذ فترة طويلة يعاني من أمراض نفسية قاسية، وانهم قاموا بعرضه علي كثير من الأطباء وجميعا اتفقوا علي تشخيص واحد وهو انه لايعاني من أي امراض عضوية، ولم تخرج الأدوية التي
وصفوها له عن بعض الحبوب المنومة والمهدئة، كان يتعاطاها ولكن من دون ان تتقدم حالته، بل بدأت حالته تسوء بشدة، وتزايدت بشدة النوبات الانفعالية الشديدة التي كانت تصيبه وبدت تصيبه في اليوم الواحد أكثر من مرة، بعد ان كانت تتكرر كل عدة ايام، وهو ماحدث اليوم هاجمته واحدة من هذه الأزمات ولما فشل أشقائه في تهدئته بكل الوسائل، أوصاهم بعض الجيران بضرورة الاستعانة ببعض المعالجين بالقرآن الكريم.
وبالفعل استعنا بإثنين من الشباب الملتحين معروف عنهما ممارسة العلاج بالقرآن الكريم، وبمجرد ان شاهدا المهندس الزراعي- والكلام علي لسان الرائد محمد كمال زكي نقلا عن أشقاء المهندس المتوفي -شخصا حالته وقالا انه »ملبوس بعفريت«!!، وبدآ في التعامل مع العفريت، استمرا لعدة دقائق في قراءة بعض آيات من القرآن
الكريم، وبينما كانت تلاوتهما للقرآن تتواصل صمت المهندس تماماً وبدا الأمر وكأنه مشاحنة عنيفة بين الشابين وبين العفريت الذي يسيطر علي المهندس.
احد الشابين يصرخ في وجه المهندس طالباً من »العفريت« ان يخرج من جسده بينما المهندس يرد بالصوت المختلف بانه لن يخرج، ويرد عليه الشاب بانه لابد ان يخرج، ويكرر المهندس بصوت العفريت رفضه الخروج، وتطور الأمر بان بدأ الشاب الآخر في التدخل بصفع المهندس علي وجهه صفعات متلاحقة، بينما الشاب الثاني يطلب من العفريت الخروج ويقول له.. اخرج من قدمه، ويرد العفريت سأخرج من عينيه، فتتزايد حدة نبرة صراخ الشاب ويقول للعفريت .. لا انك تريد ان تصيبه بالعمي، اخرج من قدمه بل اخرج من اصبعه الصغير..
ومع تصاعد حدة المشاحنة ، قال العفريت للشابين ، اذا لم تتركاني سأقوم بخنقه -يقصد المهندس- وبالفعل أحكم المهندس علي رقبته بكلتا يديه، مادعا الشابان إلي الاسراع بالتدخل ومحاولة فك يدي المهندس من علي رقبته، ولكن المهندس كان ممسكاً بشدة برقبته، وبعد شد وجذب سقط المهندس فاقدا الوعي إلي أن اكتشف الجميع وفاته!
> > >
وصلنا أمام قسم شرطة الزاوية الحمراء، فنزل الرائد محمد كمال من السيارة وتبعته ، وخلال صعودنا لوحدة المباحث، قال محمد كمال إنني سأعرف باقي الحكاية من قيادات المباحث التي توافدت علي القسم بعد الإبلاغ بوقوع الحادث.
في مكتب رئيس المباحث وجدت العقيد عبدالجواد أحمد عبدالجواد مفتش المباحث آنذاك - حكمدار القاهرة حاليا- وبصحبته المقدم طاهر نصر الدين عاصم رئيس مباحث القسم مدير العلاقات الإعلام والعلاقات بمديرية أمن القاهرة حاليا- وكانت تبدو علي وجهيهما امارات اضطراب لم اعهدها فيهما من قبل، فهما من ضباط ا لمباحث الأكفاء، وكثيراً ما شهدت وعاصرت صولات وجولات لهما في كشف غموض كثير من الجرائم، علمت انهما أعدا محضرا بالواقعة، ضمناه كافة التفاصيل والملابسات، بما فيها قصة العفريت، وأخطرا النيابة، حيث انتقل أحمد هاني رئيس نيابة الحوادث بشمال القاهرة وقتها إلي مبني القسم للتحقيق في الواقعة وفوجئنا به يستخف بما احتواه المحضر، رافضا التسليم بقصة العفاريت، وطلبت استدعاء أشقاء المهندس المتوفي، لمناقشتهم قبيل بدء التحقيق الرسمي.. وبمجرد أن دخل أشقاء المتوفي إلي غرفة التحقيق، صرخ فيهم رئيس التحقيق طالبا منهم الحقيقة وراء مقتل شقيقهم وظل يتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم يقولوا الحقيقة، ففوجئ بواحدة من شقيقات المهندس المتوفي، تتبدل ملامحها وتتحدث بصوت رجل،، تبين إنها ملبوسة بـ»عفريت« هي الأخري.. استبد الرعب برئيس النيابة، ولم يجد بدا من الاستعانة بالشابين المعالجين بالقرآن، اللذين تم استدعاءهما الي غرفة التحقيق، وظلا يقرآن العديد من آيات القرآن الكريم لفترة حتي تمكنا من إعادة الهدوء إلي شقيقة المتوفي، فأنهي رئيس النيابة تحقيقاته بتوجيه تهمة ضرب أفضي إلي موت إلي الشابين المعالجين بالقرآن وأمر بجدمهما علي ذمة التحقيقات.
> > >
»العفاريت.. قتلوا المهندس«.. كان هو العنوان الذي وضعته للخبر الذي قدمته للجريدة عن هذه الواقعة، ونشر في مكان بارز في الصفحة الأولي وبعد لحظات من طبع عدد الجريدة، وبينما كنت في صالة التحرير، رن جرس التليفون وكان المتحدث علي الناحية الأخري الاستاذ سعيد سنبل رئيس تحرير الأخبار وكان معروفاً عنه دماثة الخلق والالتزام بالعقلانية الشديدة في مناقشاته، قال: إيه يازهار.
قلت : نعم يافندم.
قال: بتوع الشرطة ضحكوا عليك.
قلت: ليه؟
قال: ياراجل.. فيه حاجة اسمها عفاريت.
قلت: أيوه فيه..!.
قال : دي كلها خزعبلات وتخاريف.
قتل: لا صدقني.
قال: ياراجل بلاش كلام فارغ.
قلت : طيب ممكن استأذن حضرتك، اعمل تحقيق صحفي مع متخصصين ونشوف الرأي العلمي، والفقهي في الموضوع.
قال: موافق.
سعيت بكل جدية إلي اعداد التحقيق الصحفي، وعلمت أن هناك جمعيات عالمية للبعض منها فروع في مصر متخصصة في العلاج الروحي، وكان من بينها جمعية يرأسها الدكتور رؤوف عبيد استاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق جامعة عين شمس وكان من بين نخبة من أبرز فقهاء القانون تعلمت علي يديهم حينما كنت طالباً بذاتا لكلية.
حدد لي موعداً لزيارته في فيللته الخاصة بشارع مصر والسودان بمنطقة حدائق القبة، بعد أن شرحت له غايتي.
بعدما استقبلني في غرفة مكتبه سألني عن اسم الجريدة التي أعمل بها، فقلت له اسم الجريدة، فقال مستفسراً.. سعيد سنبل هو رئيس تحرير الجريدة بتاعتكوا فقلت نعم فقال سلم عليه وقوله الدكتور رؤوف زعلان منك وهو ها يفهم وعلمت انه يمت بصلة قرابة مباشرة لحرم الاستاذ سعيد سنبل.
أوجز لي الدكتور رؤوف الأمر، قائلا إننا في العالم النامي نعرف أن الإنسان يصاب بنوعين من الأمراض عضوية أو نفسية، بينما العالم المتقدم يعرف إضافة إلي هذين النوعين نوعا ثالثا هو الامراض الروحية، وهو مانطلق عليه هنا العفاريت بينما هم يطلقون عليه علميا »الباراسيكولوجي« وترجمتها الي العربية »المس والاستحواذ« وبعد ان أفاض في شرح الظاهرة وسبل العلاج ، اهداني مجموعة كبيرة من مؤلفاته حول هذه الظاهرة وكان أبرزها مؤلف من مجلدين حمل عنوان »الإنسان روح لاجسد« وضمنت التحقيق الصحفي رأياً لاحد رجال الدين وأحد الأطباء المتخصصين في العلاج النفسي، وأدلي كل منهما بدلوه في الأمر وأسرعت بالتحقيق الصحفي مستكملاً من جميع جوانبه للاستاذ سعيد سنبل وأبلغته رسالة الدكتور رؤوف عبيد فأبتسم وقال والله ليه حق يزعل مني، وقال موجها كلامه لي بعد أن قرأ التحيق الصحفي بعناية: وانته كمان ليك حق، وأمر بنشر التحقيق علي كامل مساحة الصفحة الثالثة من جريدة الأخبار.
التعليقات (0)