العطر.. بين فن الرواية وصناعة السينما
بقلم: خليل الفزيع
من قرأ رواية العطر للألماني باتريك سوسكيند سيخرج بانطباع شديد اليقين بأن هذه الرواية يصعب أن لم نقل يستحيل تحويلها إلى فيلم سينمائي، وهذا تصور أكده المؤلف نفسه عندما صرح باستحالة تحويل هذا العمل الأدبي إلى عمل سينمائي، إلى أن تحقق ذلك مؤخرا بعد مضي واحد وعشرين عاما على ظهور هذه الرواية بأحداثها الأقرب إلى المستحيل منها إلى الممكن.
فقد تمكن المخرج توم توكفير من تحويل أنجح رواية ألمانية معاصرة إلى فيلم سينمائي، وليس من السهل على الذين قرأوا هذه الرواية تصور إمكانية التعبير عن الروائح والعطور التي تقوم عليها الرواية، من خلال المشاهد السينمائية ما لم يكن المخرج عبقريا بالفعل.
تتحدث هذه الرواية عن الشخصية الهادئة جان باتيسته غرينوي المولود عام 1738 في المكان ذي الرائحة الأبشع على وجه الأرض، بأحد أحياء باريس القرن السابع عشر، في مزبلة سوق السمك، وتحت طاولة تنظيف السمك، من أم بائسة تعمل في شارع قذر، حيث فضلات الأسماك التي تعمل على تنظيفها تجسد القذارة، وكان في نيتها أن تتركه هناك مع تلك الفضلات كي يموت ويلقى في النهر مع نفايات السوق، وهذا ما فعلته مع أربع ولادات سابقة، لكن افتضاح أمرها، والقدر الذي سيرافق هذا الطفل قد ساقاها إلى الإعدام، أما الطفل الأعجوبة فقد تنقل بين المرضعات اللواتي كن يلفظنه دون أسف عليه، لما يبثه فيهن من الرعب والقشعريرة، ولم تقبل به سوى مرضعة، لا تشم ولا تشعر، وكأنها ميتة من الداخل، كان هذا الطفل يمتلك حاسة شم فريدة، ساعده على تطويرها العطار (بالديني) الذي علم غرينوي كيف يستخلص العطور ويحفظها، واستفاد منه في التخلص من منافسيه، لكن هدف غرينوي كان أبعد من كل تصور، لقد قتل العديد من النساء الشابات ليستخلص منهن خلاصة العطر النقي، عطر الحب، العطر الذي يستطيع السيطرة به على الآخرين، بعد أن بدأ سلسلة جرائمه ببائعة البرقوق التي كانت فاتحة عهده في البحث عن عطر العطور، حتى إذا ما أدين في النهاية بقتل النساء، واستحكمت حوله قبضة العدالة، تحول المتفرجون الحاضرون لمشاهدة عملية إعدامه، إلى عشاق لا أحد يستطيع وصف مشاعرهم غير العبقري سوسكيند، وهم ينظرون بعطف لذلك القاتل الغامض الدموي والعبقري في فظاعته، والبشع ولكن ليس إلى درجة الاشمئزاز؟ وكان انهيار المشاهدين مشهدا غريبا وفريدا، بفعل العطر الذي يشارك غرينوي بطولة الرواية، فهما المحركان الرئيسان لاحداثها، وما يتبع هذه الأحداث من تداعيات مختلفة ومحيرة وقاسية ومقززة.. غرينوي بأفعاله الشيطانية القاسية، والعطر بتأثيره الطاغي والمعربد والعابث بالمشاعر.
ولا عجب أن تتصدر هذه الرواية بعد صدورها لائحة الكتب الأكثر مبيعا لمدة تسع سنوات بلا منازع كما تمت ترجمتها إلى 42 لغة وبيع منها أكثر من 15 مليون نسخة في أنحاء العالم، ولم يكن في نية المؤلف الموافقة على ظهورها في السينما، ليقينه باستحالة هذا الأمر، لكن مبلغ العشرة ملايين يورو التي حصل عليها مقابل ذلك، لعبت دورا في إقناعه.
بعد ثلاث سنوات من الاستعدادات والتصوير تم عرض فيلم (العطر) أو (قصة قاتل) فهل حقق هذا الفيلم من النجاح ما حققته الرواية؟ من شهرة وسعة انتشار؟ إنه رهان صعب يمكن وضعه في سياق العلاقة بين الرواية بكل مضامينها الفكرية والأدبية، والسينما بكل إمكانياتها الفنية والتقنية، والمعني بنتائج كل ذلك ليس المخرج فقط ولا المنتج فقط، ولا المشاركون في التمثيل فقط، ولكنه القارئ والمشاهد أيضا, فمن نجح في هذا الرهان، الرواية أم السينما؟.
التعليقات (0)