إن الثورة لم تأت لتــُغنـّي على أبواب المفتضحة أعمالهم، والساقطة أخلاقهم، والعاجزة عقولهم، والمتخلفة أذهانهم، إنما أتت لتــُزيل الأوساخ من طريق المصريين، وتـُطـَهـِّر وطناً دنسته ألسنةُ وقلوبُ وأقلام ومفاهيمُ خصومـِه!
لكن الأوغادَ يطلبون من الثوار أنْ يرقصوا، ويـُغنـّوا، ويطربوا، ويبتهجوا، في حفل ماجن يقيمه اللصوصُ، وينفق عليه الفلولُ، ويتميـَّز فيه قنـّاصة العيون، ويقرأ فيه من الكتب المقدسة أتباعُ الشياطين، ويشرّعن السرقةَ مــُزايدون يجلبون الغثيانَ لكل شريف وطاهر وعاشق للوطن.
وماذا عن العصيان المدني؟
إنه أرقىَ أنواع الاحتجاج، وأجمل صور النضال السلمي، وأسمىَ تصنيفات مناهـَضـَة الظـُلم، وأفضل تعبير عن بلوغ الغضب فوهة البركان، والخيار الأخير المتاح أمام الشباب ومن بقيَّ من جماهير غير مغـَيـَّبة حتى تتحقق مطالبهم.
العصيان المدني لم تفهمه القوى الدينية ومجلس الشعب والمجلس العسكري وكهنة السلطان وصحافة النفاق بعدما عادت لتؤدّي دورَها العفن في تلميع أحذية الجنرالات، وتبرئة جرائم رجال المخلوع، وتحميل الثوار الأبطال وزر ولوغ السلطة في دماء الأبرياء.
من يسأل شبابَ الثورة عما يريدون، إما أنه جاهل لا يدري كـُنه المشهد المصري، أو أنه أحمق لا يعرف أن هناك ثورة أيقظت المصريين فعادت بهية إلى فراشها تطلب إغفاءة جديدة قد تمتد لثلاثة عقود أخرى.
من يعاتب شبابَ الثورة على العودة إلى الميدان معتصمين مدنياً بدلا من التجمهرات والمظاهرات لا يبحث عن الخير لمصر، إنما يـُقـَدِّم تبريرا لقوىَ البغيّ أن تظل محتفظة بثورة مسروقة حتى لو أطلقوا عليها ثورة مستمرة، فشبابُ مصر البطل يقاوم بدون قيادة، ويـُقـَدِّم الروح هدية لوطن هو أيضا مسروق مقاسمة بين التأسلم والتعسكر والتبلطج!
أوغاد متوحشون بأنياب كقرون الشياطين يــُلقون مواعظهم تماما كما يطلب الذئب من ذات الرداء الأحمر أن تدخل كوخ جدتها فهو آمن، و يحتفلون بنجاح الثورة مع مخلوع يأمر وينهى ويحرك ملياراته وهو راقد في فراش تحمله هليكوبتر يسدد تكلفتــَها في كل مرة دافعُ الضرائب المصري، فيدخل المحكمة العبثية، ويخرج بعدما يرفع مستشار يأتمر بأمر المجلس العسكري الجلسة إلى يوم آخر.
يرفضون العصيان المدني، وهنا يتساوى الأزهر والكنيسة والعسكر والإعلاميون ورؤساء دكاكين الأحزاب القـِزْمية وأصحاب السوابق والهاربون، بأمر السلطة، من السجون والمعتقلات، ولعلنا لا ننسى فاشية دينية ترفع الآذان في مجلس الشعب لتـُحلل لأحذية العسكر الشرعية التي منحهم إياها الطاغية اللعين، وتم توثيقها في اتفاق جنوني بين السلاح والمصحف بعيداً عن رضا الله تعالى!
تتحول مصر تدريجيا إلى التشبه بمكسيكو سيتي وسان خوزيه وسان السلفادور وريو دي جانيرو وجوهانسبرج وبوجوتا، وأجهزة أمن الدولة والأمن القومي والمخابرات والشرطة بقيادة المجلس العسكري يرفضون رفضا قاطعاً القيام بحملة تنظيف وتطهير لجمع آلاف المجرمين وعزلهم عن المجتمع، فالهدف واضح وهو أن يبلغ السيل الزبى، ويلعن المصريون أبناءَهم الثوار، ولاتكترث الجماهير لأرواح الشهداء ومصابي المظاهرات وظلام حالك تعيشه أعين تم قلعـُها، وأخفت السلطة القناصة عن عيون لم يصبها الرصاصُ بعد!
أقرأُ الصحفَ المصرية وأسمع الأخبار وأشاهد ما لا عين رأت من قبل في تاريخ مصر ، فيزداد يقيني بأن الحق الأوحد والمطلق هو مع شباب ثورة 25 يناير حتى لو أخطأوا سبعين خطأ قاتلا في اليوم والليلة، فكل شيء غيرهم مختوم بختم الباطل، وكل صلاة يؤذن لها نائب أو عسكري أو مرشح للرئاسة لن تصل إلى السماء الأولى أو حتى إلى سطح أحد البنايات الحكومية التي يرجم منها الأمن شباب مصر في حماية العسكر.
العصيان المدني الذي ترفضه معظم القوى السياسية والدينية والإعلامية والعسكرية والأمنية هو شرف على جبين كل شاب لا يعرف من الحب غير اثنتين: مصر و .. الشهادة!
مصــّاصو دماء عادوا ليحتفلوا بكل مطالب الثورة التي لم تتحقق، فالأموال لا تزال في الحساب المصرفي للصوص، أما الخارجون عن القانون الذين أفرجت عنهم السلطة، المباركية والمشيرية، فقد أحالوا يوميات المصري إلى جحيم، وحبل المشنقة ينتظر بصبر نافد الالتفاف حول عنق مجرم واحد أو أكثر لكن القضاء يقف للشرف بالمرصاد، والتسويف والتأجيل يحملان اسماً مزيفاً هو العدالة، وقناصو العيون يحصلون على البراءة واحداً تلو الآخر، وصندوق الانتخاب أضاف للحصانة الدينية حصانة برلمانية فالحمقى والساذجون والبسطاء والطيبون ظنوا أن اللهَ، عــزَّ وجل، سيرسل ملائكة لفرز الأصوات ضمانا لنجاح المؤذنين تحت قبة الحرم الديمقراطي!
ومزاد علني يُشهد فيه الجميعُ اللــهَ على ما في أنفسهم، وأكثرهم ألدّ الخصام.
شبكة أخطبوطية يحركها إبليس في بورسعيد ومحمد محمود وماسبيرو ولجان الانتخاب ومنابر يقف فوقها رجل دين إسلامي ومسيحي، وحفارو قبور يفركون أيديهم استعداداً لمذبحة جديدة ستعلن السلطة لاحقاً أن الأيدي الخفية لأصحاب المؤامرة كانت تعبث هناك، وأن مصر مستهدَفة، وأن المشير كهابيل، لئن بسطت إليَّ يدَك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، وأن الثائر الشاب كقابيل يقتل، ويدمر، ويـُخـَرِّب!
المصريون يعودون لكرباج السلطة طواعية، والمنافقون تتفتح لهم أبواب السلطة الرابعة، وشباب الثورة الأنقياء يتعجبون من لذة المازوخية لدىَ الأجيال التي صمتت ثلاثة عقود على عبوديتهم للمخلوع، فيعودون لوضع أقفيتهم تحت كفّ المشير و رجال ( طره ) وَسادية السلطة والفلول.
كل القوى المعارضة للعصيان المدني نزعت من أدمغتها موطن الذاكرة، وتناست عن عمد وقصد وسبق اصرار أن المشير كان الساعد الأيمن للمخلوع لأكثر من عقدين، وأن ما لديه من أسرار تكفي لاستيراد أطنان من الحبال الغليظة لتلتف حول أعناق رجال المخلوع، ومبرري جرائمه، ومزيفي عهده، ومزوري إرادة الشعب.
العصيان المدني الذي ترفضه كل القوى المشاركة في قضم، والتهام، وهضم الكعكة هو القيمة الكبرى، والإيمان الأعمق، والصلاة الخالصة لوجه الله و.. الوطن.
ينجح العصيان المدني لصلابته وقوته وطول فترة تحـَمـُّل الشباب أو يفشل بسبب حماقة الأغلبية الصامتة فإننا سنظل بإذن الله ندعم شبابَ مصر الشرفاء، وثورة 25 يناير حتى آخر ما تبقى من مداد القلم.
العصيان المدني ليس امتناعا عن العمل كما وصفه الجنزوري، لكنه امتناع عن العمل القذر الذي تمارسه الثورة المضادة بأضلاعها العسكرية والبلطجية والفاشية الدينية.
إن الله تعالى يقف مع شباب الثورة حتى لو صلـّىَ وصام واعتكف في المساجد والأديرة والثكنات والغــُرَز والعشوائيات والمحاكم ومكاتب مدراء تحرير الصحف الكبرى وأمام كاميرات ماسبيرو كــلُّ المنتسبين إلى الثورة المضادة.
ستنتصر ثورة 25 يناير بإذن الله إنْ عاجلا أو آجلا، وستنكشف وجوه القــُبح التي تتصدر المشهدَ المصري اليوم، وسينحلّ مجلس الشعب قبل أنْ تدمر الطائفية والكراهية والجهلُ ملامحَ مجتمعٍ يحكمه ويسيطر عليه حُسـْن النية في كبارِه، فإذا هم الأصغر والأبعد والأشرس والأكذب.
ينجح العصيان المدني أو يفشل فالشباب الذي تعــَلــَّم الغضبَ لله وللحق وللوطن سيعودون مرة و .. مرات حتى يختفي آخر صفِّ من فلول العهد الأغبر لعائلة مبارك وكلابه.
والله أكبر والعزة والنصر والشرف والجنة لنور عيوننا .. شباب الثورة الحقيقيين.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 9 فبراير 2012
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)