- تعريفات عامة، خصائص و قراءات نقدية
- سقراط
- أنتيغونا
- النفس السامية
- مارتن لوثر
- هنري ديفيد
- وسائل و سبل العصيان المدني
- أمثلة عن عمليات مختلفة من العالم
- العصيان المدني شرقياً
- بالحروف
- نار الجسد
- اللغة الممنوعة
- الصوم
أحد سبل المقاومة و المعارضة و الضغط على السلطات و الحكام. و هو سبيل اللاعنف في انتهاك الحقوق و القوانين الرسمية عن دراية و علم تامين، سلمي، هادف، وجداني، جسور، صريح و علني للرأي العام، هادئ و لكنه مؤثر إلى أبعد الحدود يقوم به عدد محدد من الاشخاص المعنيين بالأمر والمؤازرين لهم من أشخاص و مؤسسات و تجمعات تتحمل كل النتائج و العواقب سلبية كانت أم ايجابية. عمليات العصيان المدني بعيدة و منزهة عن الحقد والضغينة والكراهية والانانية. العصيان المدني ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة واضحة للوصول إلى الهدف الأساسي، أ لا و هو الحياة الكريمة و العدالة والإنسانية. هذا تعريفي للعصيان المدني، و قد تختلف التعريفات و تتشعب تفاصيلها وأسلوب الاتيان بها، لكنها من حيث الروح و الجوهر فهي لا تخرج عن إطار التعريف الذي أوردناه للتو!
العصيان المدني كمصطلح، أستخدم أول الأمر في القرن التاسع عشر من قِبل هنري دافيد ثورو(Henry David Thoreau). أما كفعل،فجذوره ضاربة بعمق في التاريخ البشري، رافق المسيرة الانسانية و بقي ملازماً له حتى يومنا هذا. و ستكون ما دام الانسان بحاجة للتعبير عن رفضه و معارضته لأي شيءٍ كان في العالم. استنتجت من دراساتي للعصيان المدني و أمثلته و أعلامه، أن العصيان المدني كفعل و ممارسة مبرمجة هادفة بدأت في اليونان القديمة و بالأخص مع حادثة محاكمة سقراط الفيلسوف و أنتيغون التي واجهت القوانين و دفنت أخاها الثائر على الملك. و بذلك تكون اليونان ملهمة العصيان المدني. أي إن الغرب من أوجد العصيان المدني. حيث نلحظ ترتيب مدهش لقادة و أعلام العصيان المدني. سقراط و أنتيغون، مارتين لوثر كينج، هنري دافيد ثورو و أخيراً و ليس أخراً يضعون الشرقي مهاتما غاندي نهاية القائمة. مع العلم بأن مهاتما غاندي يعد أكبر رائد لأكبر عصيان مدني في العالم. مع أنني لا أرى هذا التصنيف (الغرباوي) لنشأة و ممارسة العصيان المدني في محله حيث أعتبر هذا النوع من المقاومات السلمية نابعة من جوهر الشرق و تحمل كل سماته و خصائصه الروحية الاصيلة، و مع ذلك سأفرد و حسب التصنيف الغربي مساحة لكل من الرواد الذين مرّ ذكرهم، و سأعتمد قدر المستطاع ما أتوا به هم من جميل الكلام و نبيل الفعل و عظيم النتائج و ما تركوه من إرثٍ خالد للعائلة الإنسانية.
عناصر العصيان المدني
المحبة و الحقيقة و الجرأة؛ المحبة تكون بمثابة المركز للتصرفات و السلوك اللاعنيف، فالمحبة و الحقيقة و الجرأة دعائم قوية البنيان في العمليات، ترشدنا طوال حياتنا. فهي تعني الوجود، أي الوصول إلى حياة ممكنة العيش ضمنها... لكل عميلة عناصرها الخاصة بها، و كذلك الأمر بالنسبة لعمليات العصيان المدني فهي مأطرة ضمن قواعد و حاضنة لعناصر أساسية و أخرى فرعية سنأتي على ذكرها جميعاً. الدور الرئيسي لهذه المبادئ هو الحفاظ على سلمية العملية و إيصالها إلى النتيجة المفيدة. و هذه العناصر هي:
- مخالفة القانون و خرقه.
- اللاعنف.
- علانيتها للرأي العام
- تقرب سياسي و أخلاقي مستند لفكرة الحقوق الكونية
- المشاركة في إصلاح و تحسين القوانين-المنتهكة و تحمّل عواقبها
- النفسانية الجماعية للعصيان المدني
- مخالفة القوانين و خرقها:
انتهاك القانون عن علم و تفكير و تخطيط استناداً إلى القيم السامية و الاعراف الانسانية الراقية شرط أساسي من شروط العصيان المدني. الوقوف بوجه بعض القوانين و مواد الدستور و معارضتها يكون من خلال خرقها و انتهاكها(كـعدم تسديد ضريبة خاطئة أخلاقياً و لكنها منصوصة عليها بالقانون)و كذلك الامر بالنسبة(لقنوات الراديو و التلفزيون الغير مرخصة إذا كانت الدولة لا تسمح لها بالبث بسبب بعض القوانين...)
- اللاعنف:
اللاعنف يعد العنصر الاساسي و العلامة الفارقة بين عمليات العصيان المدني و عمليات المعارضة الاخرى. حتى لو تم استخدام العنف من قِبل المعادين ضد نشطي العصيان المدني فلا يجب اللجوء إلى العنف بل أن يفضلوا التعرض للعنف على استخدامه! الشخص الذي لا يلجأ إلى العنف لا يعني بتاتاً بأنه ضعيف و خامل و جبان، بل بالعكس تماماً، فهو شجاع و مِقدام لأنه لا يلجأ إلى سبيل لا حضاري-العنف. و حتى العملية السلمية يجب ألا تلحق الضرر بالصالح العام، ليس مناسباً أن تسد طريق المستشفى للضغط على السلطات.
- الصراحة و العلنية: من العناصر الموجب توفره في عمليات العصيان المدني هي الصراحة و وضوح نوع و هدف و مكان و وقت العملية. و كذلك يجب أن تكون مفتوحة أمام الجميع للمشاركة فيها و كذلك أن لا يقوم القائمون بها بإخفاء هويتهم و تمويه أنفسهم. يحق لكل راغب المشاركة بمثل هذه العمليات العادلة، ليعبروا عن رفضهم و معارضتهم حتى لو لم يكونوا معنيين بالدرجة الاولى بالأمر أو القانون. فمثل هذه العمليات ليست حكراً على فئة او أشخاص او شريحة دون غيرها. هذا لا يعني بأننا نلغي الخصوصيات و نغض النظر عن الاستقلالية.
- القيم الكونية:
تدخل عمليات العصيان المدني على المدار حينما تتعرض القيم الانسانية و الحقوق الكونية المتعارف و المتفق عليها دولياً للانتهاك من قِبل الانظمة و السلطات و الحكومات. كل القيم الإنسانية كالوجدان و الاخلاق و حق التعبير و حق الحياة و الحرية و الحماية و كل ما اُتفق عليها في اللوائح و المعاهدات الدولية، تكون في الوقت عينه مبادئٍ للعصيان المدني و في حال انتهاكها يحق للنشطاء الاعتراض عليها.
- العمل على تحسين القوانين المنتهكة:
اي تحسينها بعد أن يتم تغييرها او تبديلها او حتى إلغاءها. ومن العلامات الفارقة بين عمليات العصيان المدني و عمليات المعارضة الأخرى هي تحمّل العواقب و ما يتمخض عنها من نتائج.وبما فيها التعرض للعقوبات. العصيان المدني ليس عملاً فوضوياً(انارشيست) بل لها أصولها و قواعدها المعلنة. و ما فعله سقراط خير مثال على ذلك.
- السيكولوجية الجماعية للعصيان المدني:
لا يجب غض النظر عن العالم الداخلى للإنسان أو اهماله. حيث تكون جميع التصرفات و المواقف نابعة من إيمانٍ عميق. اعتناق الفرد لأهداف الجماعة ضمن العملية أمر ضروري و مهم جداً. إذا لم يكن الفرد منظماً بكل عنفوان و عميق الإيمان، فلن يكون جريئاً في النضال و لن يضحى في سبيل الاهداف العظيمة. بقدر ما تكون عمليات العصيان المدني امتحاناً اجتماعياً فهي امتحان تشحذ الفرد و تقويه وتطوره.
أول امتحان لنا في بداية العملية يتمثل في الايمان بأهداف نزاعنا. والامتحان الثاني هو محاولتنا قدر المستطاع فهم المعادي و إفهامه بأننا نريد تفهمه و فهم ما يطرحه و يدافع عنه. مثلاً كأن نقول له:" هل تعني أن نفهمك بهذا أو ذلك الشكل؟". يجب أن توضح بأن هذا النزاع او العملية لا يستهدف تعميق الكراهية و تحريض المعادي لإظهار العداوة و الخشونة، بل على العكس كي نبرهن له أن العملية فرصة للتعارف و الجدال معه... أثناء مثل هذه العمليات ترتفع وتيرة التوتر و شدّ الاعصاب و القلق و تزداد الحرارة ضمن الجماعة و تتولد عن كل ذلك طاقة كبيرة جداً. لا يجب أن يترك عقالها بل أن يتم توجيهها بحيث تخدم الهدف الرئيسي للنزاع.
لمن يوجه نشاط العصيان المدني ؟
"إن هدف النشاط هو خلق الحوار بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين الجماهير، بيننا وبين النظام. فالنشاط ليس هدفاً لذاته".
بإدراك المعنى السابق يمكن أن نحدد العدو المستهدف بأنشطتنا، وسيجد الدارس أن هذا العدو هو:
1- النفس
2- المجتمع
3- النظام
- ليس صحيحاً أن"كل ما أُخذ بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة"!
هذا خطأ!
القوة لا تعني العنف و الممارسات الشديدة. فالقوة أوسع و آفاقها أرحب بكثير من التحديد بالعنف. الإصرار قوة، المحبة قوة، المعارضة السلمية و العقلانية قوة، الحوار قوة و العصيان المدني أكبر قوة. يجب أن تكون القوة بجانب الحق و ليس الحق بجانب القوة. إذاً القوة ليست عبارة عن النار و البارود فحسب، حتى ان الرد الوجداني للظلم و العنف تشكل قوة كبيرة. إذاً تبقى مقولة "كل ما أُخذ -بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة" صحيحة و ستبقى.
- يجب احترام القانون و الامتثال له مهما كان:
هذا خطأ!
الاحترام المفرط للقوانين يؤدي بالانسان إلى سن قوانين معادية لنفسه بنفسه. و هذه القوانين تجعل منه مسيّراً لا مخيّراً، أي تجعله آلياً كـ الروبوت. ليس الرضوخ الاعمى للقوانين بل القيام بما يراه الوجدان مناسباً. لأن الوجدان هو القانون الاسمى من كل شيء.
- المال يقويّ الوجدان:
هذا خطأ!
المال، يجعل الانسان يهمل الكثير من الاسئلة التي تحتاج إلى أجوبة و يتركها جانباً. و بالتالي يفقد الفرد وجدانه. لنأخذ ضريبة من الضرائب المفروضة على الشعب. قد تكون ضريبة كيفية جائرة. الفقير لا يمكنه تسديد الضريبة او يصعب عليه ذلك و ينهك كاهله، و لذا تراه يحاكم هذه الضريبة منطقياً و وجدانياً. فهو يتساءل" لمن تذهب هذه الضريبة؟ من المستفيد الرئيسي منها؟ هل تخدمني أو تخدم جماعتي و محيطي؟ و هل بمقدور الجميع تسديد هذه الضريبة؟" فإن وجدها محقة و ضرورية يمتثل لها و إن كانت باطلة و جائرة فأنه يرفضها أو يتهرب منها. أما الغني صاحب المال الكثير فأنه لا يهتم بها كثيراً. فبمقدوره دفعها دون أي تأثر و لا يحمل نفسه عناء التفكير بحقانيتها أو بطلانها. و لا يفكر هل بمقدور جاره الفقير تسديد هذه الضريبة. أي انه لا يجري لها محاكمة وجدانية. و إن عارضها فذلك نابع عن الجشع ليس إلا!
الغاية تبرر الوسيلة:
هذا خطأ!
منطق ٌقاله ميكافلي. يقدم الغاية مهما كلف الأمر، وإنه أشبه بالانتهازية والمصلحية النفعية و لا مجال له في العقل والذكاء العاطفي و الإنساني و بالأخص في الموروث الشرقي الاصيل. فإن كانت الوسيلة عنيفة و دموية فهي تسيء إلى الهدف مهما كان نبيلاً و تفتح جروحاً لا تندمل سريعاً. و إن كانت الوسيلة نبيلة وإنسانية سلمية، فإنها تزيد من حقانية الحق و تقوي ظهر الساعي إليه. فالعنف لا يولد إلا التأخر و تشويه السمعة(كما يقول الإمام الشيرازي). و يقول أوجلان "بقدر ما تكون الغاية نبيلة يتوجب نُبل الوسيلة".
________________________________________
رواد العصيان المدني و الصراع اللا عنيف
سقراط: (470-399 ق م)
لا يختلف الكثيرون و أنا خارجهم، عن أن أولى عمليات العصيان المدني بدأت مع ما قام به سقراط الفيلسوف! لكن ما الذي فعله سقراط ليكون أول عاصي مدني في التاريخ و مثالاً يُتبع إلى يومنا هذا؟
" أثينا كالحصان و أنا ذبابة أظل أطنّ حوله كي أوقظها" سقراطٌ قائلها! فقد كان يتجول في الجادات و الاسواق، يستوقف المارة من العامة و يطرح عليهم أسئلته بديهية ظاهراً و فلسفية باطناً. فقد كان يعرض كل البديهيات و ثوابت المنطق للمساءلة و إعادة النظر بها من جديد. كان يطرح سؤالاً على شخصٍ ما و يتركه في حيرة من أمره... فقد كان"الذبابة" التي تطنّ دائماً لإيقاظ"الحصان" الغافل! كان هدفه الرئيسي محاكمة المنطق العام و إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية بين الطبقات الدنيا و العليا و بين البشر و الآلهة من جديد... فقد كان يرفض المسلمات من الأمور و يعمل على نبش كل ما في المنطق من بديهيات الفكر. كان محور فلسفته معرفة الإنسان لنفسه(أعرف نفسك)آمن به العديد من الشبان و تتلمذوا على أفكاره و اعتنقوا فلسفته. كان الحكام ينظرون إلى سقراط بريبة و هلع و يتوجسون خيفة من فلسفته و محاكماته للمنطق و الثابت في الفكر الجماعي لأثينا و انتقاده للحكم. أتهمه خصومه بالزندقة. أُلقي القبض عليه و أودع السجن بتهمة إخراج الشباب عن طريق الصواب و تضليلهم. جرت له محكمة و تحولت هذه المحكمة إلى مناظرة فلسفية و فكرية تاريخية. لم يدافع سقراط قط عن نفسه ضد التهم الموجهة ضده، بالرغم من أنه كان يعلم بأن عقوبة تضليل الشباب هو الموت حسب قوانين أثينا. كان يدافع عن أفكاره و حوّل المحاكمة إلى منبر دافع من خلالها عن حرية الفكر و التعبير و أهمية الحرية الفكرية لضمان الحياة و حماية للمدينة. صدر بحقه عقوبة الموت و ذلك باجتراع السم. لم يعترض على جزائه و لم يهرب من السجن بالرغم من توفر كافة الظروف لذلك، فقد كان يحترم قوانين مدينته و يعرف بأن المعرفة و الفلسفة بحاجة إلى التضحية و كان مستعداً لذلك. حتى أنه تجرع السم بنفسه ضارباً أروع مثال على العصيان المدني و المعارضة السلمية ضد نظام الحكم و سفسطة السفطاء و جهل العامة. فقد أبلى بلاءً حسناً حين ارتشف السم بنفسه و لم يحتقر جلاديه، فقد بيّن احترامه للقانون و كان تصرفه هذا بمثابة انتقاد أخلاقي و سياسي موجه للنظام. هذا الموقف الجليل بات عماداً من أعمدة العصيان المدني و مبدأ اساسياً فيه.
قد تتساءلون: " كيف هذا و قد بيّنت ضمن تعريفك للعصيان المدني بأنه ينتهك القانون؟ فكيف يكون احترام سقراط للقانون مثالاً يُحتذى به في عمليات العصيان المدني؟ هل يعني هذا أن نحترم القوانين الخاطئة؟" سؤالٌ محق انهمكت لإيجاد جوابٍ شاف له. و النتيجة تتلخص في النقاط التالية:
1- العصيان المدني ليس ضد كل القوانين بل ضد قوانين بحد ذاتها و تنتهكها لتغيره أو إلغاءها. كقانون منع الزنوج من ارتياد بعض الاماكن. انه قانون و لكنه قانون خاطئ و من واجب العصاة المدنيين و بالأخص الزنوج أن يرتادوا تلك المناطق لانتهاك ذلك القانون.
2- لم يكن سقراط معارضاً لقانون" يعاقب كل من يضلّ الشباب عن درب الصواب" و كل من له ضمير لن يقبل تضليل الشباب و خداعهم. و من المعروف بأن سقراط كان محبٍ لمدينة أثينا و محترماً لقوانينها و لذلك لم يعترض على العقوبة الصادرة حسب ذلك القانون أو النص المعني به. فعمليته نابعة من النزاع بين منطق إدارة أثينا و مفهوم سقراط للحرية و المعرفة!
3-رسالة أخرى علينا فهمها من موقف سقراط، أ لا و هي الوقوف بوجه كل من يحاول خداع الشباب و إضلالهم باستغلال عواطفهم و مشاعرهم الفتية.
4-موقف سقراط من العقوبة و شربه للسم بنفسه و عدم فراره من السجن كان بمثابة نداء لمجتمع أثينا فقد ترك أثراً في ضمير المجتمع حتى يومنا هذا. فلو هرب أو ركع للحكام كي يعفوا عنه أو أعلن عن خطأه و طلب المغفرة، لماَعرفنا شيء أسمه سقراط الفيلسوف اليوم و ما كان ليصل إلى يومنا هذا. و شيء آخر يعلمنا إياه فيلسوف المعرفة. و هو أن تكون مستعداً لتقديم كل غالي و نفيس فداء أفكارك و أهدافك العظيمة حتى لو كان الثمن روحك.
أنتيغونا(Antigone):
الفتاة التي واجهت القوانين الظالمة و المتناقضة مع الوجدان الإنساني و القيم الأخلاقية العليا . أنتيغونا هي ابنة أوديب و أخت پولينيس من مدينة طيبة(Thiba) اليونانية. تمرد پولينيس على خاله الملك(Kreon) و حدث بينهم صراع أنتهى بهزيمة پولينيس. قُتل پولينيس في هذا الصراع و بالرغم من موته لم يشف غليل خاله الملك كرون و لذا-كي يعتبر الآخرون- أمر بعدم دفن جسد پولينيس و أقرّ قانوناً أن من يتجرأ على دفنه فسوف يلقى عقوبة الموت تواً؛ و هكذا بقي جثمانه دون دفن. أنتيغون لم ترض بهذا الأمر لِما له من احتقار للقيم و الحس الإنساني و الأخلاقي. فهي لم تنتفض لموت أخيها و لكنها ضربت بالقانون الذي أقره الملك عرض الحائط ووضعت عقوبة الموت نصب عينيها و قامت بدفن جثمان أخيها پولينيس. مما أغضب كرون أيما غضب، خاصةً أنه رأى ذلك هتكاً للقانون و عصيان لأوامره، لم يرضَ السكوت عن فعلة أنتيغونا المنافي لقانون الملك، لذا فقد حكم بالموت عليها. لم تلجأ أنتيغونا لمعارضة الجزاء و لم تدافع عن نفسها. أنتيغونا لم تكن تخشى المنية، لكنها كانت ترفض هتك الحس و الكرامة الإنسانية و القيم الأخلاقية و الوجدانية. فقد رفعت القانون الغير مكتوب، أي الوجدان فوق كل الاعتبارات و الدساتير و القوانين و المصالح. فليس من الأخلاق الإنسانية التشهير بجسد الأموات مهما كانوا عليه من صفات و رغم ما قاموا به من أعمال و ممارسات في حياتهم. يجب احترام الموت و الميّت كيفما و لمن كان.
ما قامت به أنتيغونا يعد مثالاً تاريخياً للعصيان المدني الأخلاقي و الوجداني، وتعد عملية سلمية لم يتضرر منها أحد، وضعت أنتيغونا نصب عينيها العواقب الوخيمة و المنتظرة جراء فعلتها الهاتكة لقانون الملك. كانت أنتيغونا تمكث في الزنزانة قبل تنفيذ القصاص بها، فقامت بعملية عصيان مدني أخرى كإتمام لعمليتها الأولى. فقد نفذت حكم الموت بنفسها و انتحرت في معتقلها و لم تتح لقانون الملك الفرصة بالقصاص منها. ضربت أنتيغونا مثلاً في مدى التمسك بالقيم الكونية في الأخلاق و الوجدان الإنسانى دون أن تضر بأحد.
تعد عمليتي كل من سقراط و أنتيغونا مثالين بارزين للعصيان المدني في اليونان القديمة و في كل أنحاء المعمورة و على مر مئات السنين و كانتا انطلاقة جسورة لرفض الخاطئ و السيئ من القوانين و المنطق.
النفس السامية(مهاتما) غاندي:
موهانداس كرمشاند(1869-1948). من أكبر دعاة السلام و النضال السلمي في العالم. تعرف على العصيان المدني أثناء فترة تعليمه بجامعة إكسفورد. خاض غاندي نضالاً سلمياً مريرا دام ثلاثين سنه حيث توجت جهوده باستقلال الهند عام 1947. يعد غاندي المعلم العصري وفيلسوف النضال السلمي، أي العصيان المدني النابع من الإرادة الانسانية و الأيمان بالقضية و تحمل كل الصعوبات لأجل الوصول إلى لهدف السامي، أ لا وهو الحرية. لم يرفع غاندي سلاحاً بوجه الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس و مع ذلك فقد أجبرها على الجلاء عن وطنه الهند إثر عصيانٍ مدني شامل في الهند كافة. قد يكون مهاتما متأثراً بمبادئ العصيان المدني و النزاع السلمي الخاصة بـ هنري ثورو السابقين من رواد العصيان المدني و لكن هذا لم يمنع غاندي من نسج تعاليمه الفلسفية و العملياتية الخاصة به في العصيان المدني . قام غاندي بمزج مبادئ العصيان المدني السلمي لكل من هنري ثورو و تولستوي مع الموروث الوطني للمجتمع الهندي من أخلاق و قيم روحية، حسب رؤية فلسفية خاصة به و أسماها ساتايغراها(Satyagrahe)هذه الكلمة تعني (اعتصام الحقيقة)أو(تمالك النفس) و قوانينه تُعتبر دليلاً لكل العصاة المدنيين و مناضلي اللاعنف. جوهر ساتياغراه قريب جداً من اسلوب نضال عيسى المسيح. التعاليم الإنسانية و الخلقية و الوجدانية و المحبة تعد أعمدة الاساس للعصيان المدني. و لأهميتها فقد ارتأينا ايراد ملاحظات و تعاليم المهاتما الواردة في ساتياغراه.
معايير غاندي للنزاع
(ملاحظات للمناضل)
النزاع و الهدف
- تحرك على هدى ضوء ايمانك.
- أوضح معنى نزاعك بشكلٍ قاطع.
- أعلن عن أهدافك بشكلٍ واضح.
- حاول فهم أهداف معاديك.
- أكد على أهداف ممكنة الاشتراك و المساومة عليها.
- أفصح عن النواحي الايجابية للنزاع.
- فكّر بأن النزاع وسيلة لمواجهة معاديك.
- أقتنع بأن النزاع سيكون فرصة لإعادة تشكيل المجتمع.
- فكّر بأن النزاع فرصة لإعادة تشكيل شخصك.
فترة النزاع
- لا تلجأ لاستخدام العنف.
- أبتعد عن العمليات الجارحة أو الضارة.
- أبتعد عن الأفكار الجارحة أو الضارة.
- أعمل دائماً على إضافة عنصر التقدم البنّاء إلى النزاع.
- أسلك السبل النضالية المفيدة في إظهار أهداف النزاع.
- لا تتستر، لا تتخفى، تصرّف بوضوح و علنية.
- قم بتوجيه النضال إلى الهدف الرئيسي.
- لا تتعاون مع المؤسسات التي تعمل على إدامة السوء.
- لا تتعاون مع الاشخاص المتخاذلين عن رفض و معارضة السوء.
- لا تتهرب من المعاقبة. - كن مستعداً للتضحية و الفداء بنفسك في الحالات الاستثنائية.
- أبتعد عن فتح جبهات غير ضرورية في النزاع.
- أعلم التفريق بين الخصومة و المعاداة.
- أعلم كيف تفرّق بين الشخص كـفرد وبين مكانته(موقعه).
- اعمل على الشعور بما يحس به معادييك.
- لا تهن احداً و لا تأذن لاحد بإهانتك. - لا توسع من أهداف النزاع.
- أستخدم أكثر سبل النضال ليونةًً في النزاع.
حلّ النزاع
- أوصل بالنزاع للحل و لا تطله.
- جاهد للتحولات الايجابية للمجتمع.
- جاهد للتحولات الانسانية في ذاتك و ذات معادييك.
- لا تصرّ على ما ليس له علاقة بالجوهر، بل على الامور المتصلة بالجوهر ذاته.
- لا تأذن بالمساومة على الجوهر.
- كن مستعداً للمساومة على الامور التي ليست لها علاقة بالجوهر.
- أنظر إلى نفسك على أنها قد تنهزم.
- أقبل أخطاءك بعلنية و صراحة.
- كن ودوداً و متسامحاً مع معادييك. - لا تستغل نقاط ضعف معادييك.
- وفر الاجواء المناسبة لتجعل معادييك مطمئناً. لا تجبره بل اعمل على إقناعه.
- ابحث دائماً عن حلول مناسبة لك ولمعادييك.
- جاهد على إقناع معادييك بما تؤمن به من أفكار.
هذه الملاحظات أو المعايير تؤلف فلسفة حياة و محور التفكير المهاتمي. ليست قوانينً لإرضاخ المعاديين للقبول بما نريده فقط؛ لا بل تعدُّ هذه المعايير بمثابة محاكمة داخلية لضمير ووجدان الإنسان في كل لحظة من الحياة. فهي قبل كل شيء موجهة إلى ذواتنا. أي أنها عمليات سلمية ضد النفس الإنسانية قبل أن تكون ضد الحكّام و السلطات و القوانين! هذه القوانين تندمج كلياً مع الإنسان و تنصر مع أعماقه و توجهه أثناء العمليات. و لن نكون مبالغين إن قلنا بأنها تصبح جزءاً منه و تصل إلى اعماق شخصيته و تتحكم بكل عواطفه و مشاعره.
لعبة الفأر و القطة!
أقرّت سلطات الاحتلال الانجليزي قراراً يقضي بمنع المواطنين الهنود من انتاج الملح. و احتكرت هذه الصناعة لشركاتها. هذا القرار أثّر سلبياً على الكثيرين. و لإجبار السلطات على التراجع عن هذا القرار قام غاندي مع رفقه بتبخير مياه البحر و استخراج الملح منها. و ما هي إلا أيام معدودات حتى حذا الكثيرون حذوه. هذا الأمر أزعجت السلطات كثيراً فما كان منها إلا إلقاء القبض على مهاتما غاندي و المئات من اتباعه. لم يتوقف غاندي في السجن، فقد أعلن إضراباً مفتوحاً عن الطعام، فحذا حذوه كل الهنود في الخارج. أقلق حالة غاندي -المضرب عن الطعام- السلطات الانجليزية التي كانت تخشى موته في السجن و ما سيترتب عن ذلك من عواقب؛ لذا أخُليّ سبيله. عاود غاندي بانتهاك القانون بفعلته بتبخير المياه و استخراج الملح، أٌلقي القبض عليه و أدخلوه السجن و أضرب بدوره عن الطعام و أطلقوا سراحه من جديد، عاد بدوره إلى انتهاك القانون و استخراج الملح، حتى باتت كلعبة الفأر و القطة. اضطرّت السلطات العدول عن قرارها و إلغاءه. كان هذا انتصارا لقوة و إصرار غاندي ومن وراءه الشعب الهندي على رفض القرارات الجائرة.
مارتن لوثر كينغ (M. L. King):1929-1968
الراهب لوثر قاد أكبر حركة عصيان مدني ضد التمييز العرقي(العنصرية)و الديني في أمريكا. أوقد نار الأخوة و المحبة و المساواة بين الجماهير و ناضل في سبيل إلغاء كل القوانين المبنية على أسس العنصرية. سعيه السلمي الحثيث و نضاله لأجل الخير و المساواة جعله يستحق جائزة نوبل للسلام عام 1964.
قُتل سنة 1968. و حتى بعد مقتله أستمر تأثيره الكبير على النضال ضد التمييز العرقي. كان الراهب لوثر يعظ و يخطب في الجماهير قائلاً:"كل الناس مرتبطين بنقاط مشتركة ومن المستحيل التخلص أو الانفكاك منها. أنهم مرتبطين بقدرٍ موحد. فما من أحد تأثراً من أمرٍ ما، حتى يتأثر الآخر بشكلٍ من الأشكال. فإذا لم تمسوا كما يجب أن تكونوا، فلن أمسِ كما يجب أن أكون؛ و ما دمتُ لم أمسِ كما يجب، فلن تمسوا أنتم أيضاً كما يجب"
و من خاطرة له كتبها في واشنطون سنة 1963 نقتطع هذه الجملة و نشارككم اياها" دائماً أحلم و أتخيل. أنه في يومٍ من الأيام يجلس على قمم جورجيا الحمراء أبناء الأسرى و أبناء المأسورين سوياً على مائدة الألفة و الأخوة".ربما لم يتحقق خيال لوثر بشكلٍ كامل و لكن جزء كبير منه أصبح واقعاً معاشاً.
هنري ثورو: (1817-1862)
"كلما تحادثت مع أكثر جيراني تحرراً، أدركت أنه أياً كان ما قد يقولون في سعة المسألة وجدِّيتها، ومهما كان مبلغ اعتبارهم للأمان العام، فإن لبَّ المسألة هو أنهم لا يستطيعون أن يستغنوا عن حماية الحكومة الحالية، وهم يخشون عواقب عصيانها على أملاكهم وعائلاتهم."
يُعتبر ثورو قدوة العصيان المدني-حسب رأي الكثيرين-كان عضواً في مجموعة مكافحة العبودية بقيادة رالف امرسون. و له بعض الآثار حول العصيان المدني و كان أول من أطلق هذا المصطلح و له تأثير لا يستهان به على أفكار و اسلوب عمليات غاندي و مارتن لوثر. نريد أن ننشر نصاً له حول جوهر العصيان المدني:
" 1- توجد قوانين أسمى و فوق كل قوانين أية دولة كانت. ألا و هو"الوجدان". و الوجدان هو الصوت النابع من الداخل.
2- احياناً يتناقض قانون الدولة مع هذا القانون السامي(الوجدان)، حينه يكون وظيفة الفرد الامتثال لهذا القانون و معارضة قانون الدولة عن علم و معرفة و دراية.
3- يتحتم عليه(المعارض)أن يضع نصب عينيه نتائج عصيانه و معارضته للقانون حتى لو ادى به ذلك إلى السجن.
4- ليكن بالعلم أن السجن ليس بالأمر السيئ دائماً كما يُظن! فهو يُفيد في جذب انتباه الطيبين إلى أي قانونٍ سيئ و العمل على مجابهته و إلغاءه."
و في إحدى مقالاته يقول: " يجب أن نكون إناساً و بعدها مواطنون" و في مكانٍ آخر يقول" دائماً يقال بأن (الاكثرية من الشعب ليس متعلماً بما فيه الكفاية). مع العلم بأن الاقلية ليست دائماً أعقل من الاكثرية و لا أفضل منها... يوجد الكثير من القوانين الباطلة. هل علينا الامتثال و الرضوخ له؟ أم العمل على تغييرها؟ يقف الناس حيارى أمام هذه الحالات على النحو التالي:(لننتظر حتى ينضم الجميع لفكرة القيام بتغيير هذا القانون. فقد تولد نتائج أسوء و أخطر من القانون ذاته إذ ما عارضناه)و أنا اقول سائلاً: إذاً لِمَ يُصلب عيسى المسيح؟"
في احدى الايام ذهب ثورو إلى البلدة لقضاء بعض الحاجيات. هناك يوقفه الشرطة و تطلب منه تسديد ضريبة الفرد(الخراج). لكن ثورو يرفض دفع النقود، ليس لطمعٍ في نفسه او إقتار او فقر، لكن لأنه يؤمن بأن دفعه للضريبة تدعم و تسهل عمل دولة عبودية... و نتيجة رفضه يُلقى به في السجن. استفاد من دخوله السجن بجذب الانتباه لقضية العبودية في أمريكا. لم يمكث طويلاً في السجن لأن أحدهم سدد الضريبة بدلاً منه( هذا ازعجه بكل الاحوال) حتى أنهم اخرجوه عنوةً من السجن و بعد خروجه كتب نصا بعنوان "علاقة الفرد بالدولة" وقدمه خلال محاضرة في مدينة كونكورد في شهر كانون الثاني/يناير 1848. ؟ في السطور الاولى من مساجلته يشير الى ان وجود الحكومة لا يجب ان يعني تخلي المواطنين عن الاحتكام الى ضمائرهم. ويؤكد "ان المفروض عليّ تحديدا هو الاحتكام الى فكرتي عن الخير والانسجام معها". و إذا ما سأله احد عن سبب دخوله السجن كان يجيب:" و لِمَ لم تدخله أنت؟"
من أكبر العلامات الفارقة بين منطق ثورو و سقراط هو احترام سقراط للقانون(و هذا موضع نقد) و أما منطق ثورو فيتلخص في الجملة التالية"ليس الطاعة العمياء للقوانين بل القيام و الامتثال لما يراه مناسباً وجدانياً" و يعرّف ثورو العصيان المدني بـ"العملية التي ليس مهماً بتاتاً هل هي فردية أم جماعية. و قرار التحرك بالعملية مأخوذة من وجدان المجتمع. لا تحوي العنف و العنوة، مسالم و لكن مؤثرة جداً".
________________________________________
وسائل و أساليب
العصيان المدني السلمي
للعصيان المدني العشرات من السبل و الوسائل المختلفة جداً و الغنية أيضاً. فهي غير محددة بأسلوب واحد فالابداع يلعب دوره لايجاد سبل جديدة للعصيان المدني. و بشكلٍ عام فإن عمليات العصيان المدني تنقسم ثلاثاً، وهي:
1- أساليب الاحتجاج والإقناع باستخدام اللاعنف (مثل التظاهر والمسيرات السلمية وتوزيع النشرات ووضع ألوان معينة ...)
2- أساليب اللا تعاون (وتعني رفض التعاون مثل الإضرابات والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمؤسسات الدولة.....)
3- أساليب التدخل اللاعنيف (تعطيل الأعمال الاعتيادية واحتلال المكاتب وإنشاء مؤسسات وحكومة موازية ....)
ليس من المعقول أن نسهب في الشرح أو الاتيان بالامثلة على كل نوع من هذه العمليات. و سنكتفي ببعضها، عل و عسى تفي بالتعرّيف على هذا النضال الحضاري.
الإعلام اللاقانوني و العصيان المدني:
كما نعلم بأن لكل دولة أو سلطة أو حزب مبادئ و قوانين خاصة بها تفرضها على اجهزة الإعلام كافة و يعاقب كل مؤسسة تخترق هذه القوانين. دول كـسوريا و إيران و تركيا معروفة جداً بقوانينها الجائرة في المجال الإعلامي. يمنع في تركيا مؤسسات الإعلام من التحدث باللغات غير التركية، كاللغة الكردية مثلاً(رغم السماح بها على الورق) أما في سوريا فممنوع منعاً باتاً إصدار مجلات أو جرائد أو البث الإذاعي من قبل اي جهة غير السلطة، ناهيك عن الإعلام السياسي الحر او الوطني للقوميات غير العربية. و في الايران فالأمر أكثر تراجيدياً حيث تمنع بث و نشر أي شيء خارج أحاديث الملالي و مدائحهم. أي إن هذه الدول لا تسمح بإعلام شبه مستقل و لا تأذن لأحد بذلك. لذا يقوم الكثير من الإعلاميين بنشر مجلات و جرائد و بث قنوات الراديو و التلفاز المحلي دون ترخيص؛ أي"إعلام القرصنة" كما تسميها السلطات. مثل هذه الوسائل لا تتقيد بقيود و قوانين مؤسسة او وزارة الإعلام في تلك الدولة، لا بل تنشر و تبث كل ما تراه مناسباً للجمهور. و كثيراً ما تلجأ السلطات لاعتقال القائمين عليها و توجيه التشويش التقني على محطات البث الإذاعي، و مع ذلك يصر "إعلام القرصنة" على متابعة دربها. يتوفر شروط العصيان المدني في هذه المؤسسات، من حيث السلمية، عدم إيذاء الوجدان و الضمير الجمعي للمجتمع و انتهاك قوانين جائرة. الكثير من دول العالم اضطرت إلى إجراء تعديلات على قوانين النشر و الإعلام في دساتيرها، و قامت على إثرها تلك المؤسسات اللاقانونية بالحصول على تراخيص رسمية للعمل أو حتى وضع نقطة(أنتهى)على إصداراتها و بثها؛ لسبب بسيط، ألا و هو عدم الحاجة لصيرورتها. و لكن أين هي دول الشرق الأوسط(ما عدا العراق)من كل ذلك؟
بعض الأمثلة على عمليات العصيان المدني في العالم
فرنسا: قامت حركة عصيان مدني بالتظاهر السلمي و بشكلٍ مدهش ضد تجارب فرنسا النووية في بحر الباسفيك. فقد قامت المنظمة المعروفة(Greenpeace) بحملة تحت شعار" اضربوه في أضعف نقطه" وقامت بحملة إعلانات و دعاية واسعة النطاق منادية" لا تشربوا الشراب الفرنسي"
الدانمارك: عقب احتلال الجيش النازي للدانمارك، أصدروا قانوناً بوجوب لبس اليهود صدريات عليها نجوم صفراء و ذلك بهدف التعرّف عليهم اليهود بسهولة. لم يرضَ الشعب الدانماركي بهذا القرار اللاإنساني، و لكي يهتكوا هذا القرار و يفرغوه من جوهره فقد قام كل ابناء شعب الدانمارك و بضمنهم الملك كريستيان نفسه بلبس تلك الصدريات المنجمة. بهذا الشكل عسر على النازيين التعرف على اليهود. و لإرضاخ الشعب الدانماركي لقرارات سلطة الاحتلال فقد سجنوا الملك داخل قصره. تمادوا بإثارة و تخويف الشعب بإعلانهم عن أن مرضاً عضالاً قد ألمّ بملكهم. بدل أن ييئس الشعب، بدءوا بالدعاء للملك بالشفاء و إرسال باقات الورود إليه. راح كل الشعب الدانماركي بإرسال الورود إلى قصر الملك. توقفت الحياة في البلاد ما عدا العربات المحملة بالورود المُرسلة للملك(المريض). عطلت الشوارع و شلت الحياة في المدن و الشعب مستمر بإرسال الورود. في النهاية رضخت سلطة الاحتلال لإرادة الشعب العظيمة و اعلنت عن شفاء الملك فجأةً. كان ذلك انتصاراً لإرادة الشعب بكل شرائحه و مذاهبه.
أمريكا: لأمريكا باع طويل في عمليات الاحتجاج السلمي و أكثرها شهرة هي تلك العمليات التي قامت ضد التمييز العنصري و قد تطرقنا إليها إلى جزء منها. كذلك ضد حرب الفيتنام و حرب العراق... فقد قام الشباب المعارضون للحرب الفيتنامية باحراقهم بلاغات الالتحاق بالجندية كاعتراض على الحرب و هذا ما يسمى في الفقه المدني بـ(الرد الوجداني). و أيضاً تبرع الألوف النقود لحركات العصيان المدني بدلاً من تسديد الضرائب، كدعم لحركات العصيان المدني و كرفض للضرائب.
الثورة المخملية: أو ثورة الورد الاحمر و هي حركة العصيان المدني السلمية التي قام بها الشعب الجورجي بقيادة ميخائيل سكاشفيلي ضد الرئيس السابق ادوارد شفاتنيزا. حيث أعتصم المتظاهرون امام مبنى البرلمان و بعدها اقتحموا البرلمان لمنع اداء شفاتنيزا لقسم الرئاسة. رفض الجيش استخدام العنف و العنوة ضد المتظاهرين المسالمين. و بسبب حمل المتظاهرين للورود الحمراء أثناء اقتحام البرلمان فقد سميت عمليتهم بـ(الثورة المخملية) بغض النظر عمن كان خلف هذه الحركة من القوى الدولية. و نفس الشيء حدث في أوكرانيا و لبنان و انتهت بنتائج ترضي الجماهير دون لجوءهم للعنف. أثبتت هذه الحركات قوة الجماهير و مدى تأثير اساليب اللاعنف السلمية أي العصيان المدني على تغيير الانظمة و إجبارها على الاصلاح او التنحي عن السلطة. هذه الاحداث أثبتت أمراً آخر، و هو أن حكومات تلك البلدان لم تكن ديكتاتورية و لا دموية. و خير برهان على ذلك عدم قمعهم و قتلهم للمتظاهرين العزّل كما ألفنا رؤيتها في سوريا و تركيا و الايران و الدول العربية الأخرى! هذا نابع من جبن و خساسة هذه الدول المرعوبة من الشعب، لأن الضعفاء و الجبناء وحدهم يلجئون للعنف ضد مواطنيهم العزّل!
________________________________________
العصيان المدني شرقياً
الذين نهبوا منا التاريخ و المعرفة باتوا يسوقونها لنا معلباً و محوّراً. يعرضونها علينا بكل السبل و كأنهم من أوجدوها. العقلية الغربية الناكرة لجميل الشرق ترى نفسها مركز كل شيء و انطلاقة كل ما هو مفيد للإنسانية. و نحن الشرقيون نسمّر فاغري الفاه، مندهشين و مأخوذون بمدى روعة و عظمة هذه الحضارة، مع أننا نحن مبدعوها و أصحابها الحقيقيون. أوقعوننا في مصيدة رؤية كون كل شيء غربياً. فإن قالوا من ابدع الفن المسرحي، سنقول اليونان! إن قالوا من أوجد العربة، سنقول اليونان. و إن قالوا من أوجد الفلسفة، سنقول اليونان... هكذا الموسيقى و الرواية و الدين و الآلهة الأولى والملاحم... قد تكون اليونان هي انطلاقة الحضارة الغربية و لكن علينا أن لا ننسى بأن الحضارة اليونانية بحد ذاتها وليدة الشرق و طفلة حضارة سومر و فينيق و النيل...
الشيء نفسه يقال عن العصيان المدني على أنه بدعة غربية بحتة و من ثم جاءت إلى الشرق. حيث يدّعون بأن سقراط الفيلسوف هو أول من قام بها و بأن هنري ثورو أول منظريها! هكذا يعلموننا لا بل يبرمجوننا. فالعصيان المدني، أو لنقل النزاع السلمي، الصراع اللاعنيف و كل ما يمثلها من تصرفات و عمليات كالاعتصام و الاحتجاج و الاضراب و الاعتزال...الخ موجودة بكثافة في تراث الشرق الاوسط منذ بدأ التاريخ المكتوب. عندما لم يكن هناك شيء اسمه الحضارة الغربية! و نشكر الرقيمات الطينية و اللوحات المسمارية و الصحاف الجلدية على إيصالها للكثير من الامثلة إلينا. الشرق الاوسط كانت مهد حضارة الامومة و الربات الإناث. و هذه الحضارة مدموغة بالإنسانية و العطف و المحبة و حب الطبيعة و الحيوان و التسامح و الزراعة و تقديس الطبيعة و كل عناصرها. أي أن الشرق الاوسط كان الحامي الاول للبيئة و كان صديقاً للحيوان.
- فالنبي ابراهيم قام بأكبر عصيان مدني و ثورة وجدانية في التاريخ. ألم يحطّم هياكل المستبد نمرود كي يبين للناس حقيقة أنها ليست سوى هياكل حجرية لا تنفع و لا تضرّ؟ و ما تعني تركه و رحيله عن (أورـ فا)؟ ألم يكن عصياناً مدنياً ضد استعباد الانسانية و تأله الملك المستبد؟ فهل أستخدم ابراهيم العنف و السلاح ضد تأله نمرود و العبودية؟ لا! فقد قضى على العبودية سلمياً و أصبح نقطة انعطاف في الفكر و الوجدان الانساني.
وأين الآخرون من قول زرادشت(رسول النور و عاشق الطبيعة و الزراعة) :"الفكر الصالح و القول الصالح و العمل الصالح"؟
- أين هم من صبر سيدنا أيوب على البلاء الذي ألمّ ببلاده؟ أ فلم يكن صبره و جَلَده عصياناً ضد التفاوت في المجتمع الهارب نحو الطبقية؟
- أين هم من موسى وهو يجادل الطاغية فرعون كي يكون عادلاً... و بعدما يئس موسى من إصلاحه، أخرج شعبه من مصر؟ أ فليس اعتزال الشرير و هجره عصياناً سلمياً ضده؟
- و أين هم من المسيح الناصري وهو يتحمل آلامه العظيمة صبوراً لا يجادل و لا يدافع عن نفسه لا بل يحنو على جلاديه و المنادين بقتله. أ فليس حركة سيدنا عيسى و نضاله و تعاليمه و حياته كلها دروس و مبادئ عظيمة في اللين و اللاعنف و رد الظلم و العفو قائلاً(إن صفعك أحدهم فأدر له طرفك الآخر)... أ فليس هو الصراخ الأخير النابع من وجدان الإنسانية المعذبة؟ أ فليس هو الذي حمل على عاتقه آلام الإنسانية و نبذ الكره و الحقد و الضغينة و العنف و القتل... و أمر بالمحبة و بالمحبة تمكن من تغيير سير التاريخ. أ فليس هو الذي لم يمنعه محنته وآلامه على الصليب كي يدعوا(يا إلهي أعفو عنهم فهم لا يعلمون)؟
- أين هم من النبي محمد (صلعم) و هو يهجر المتكبرين من الجاهلية(الكفار حسب المصطلح الديني)؟
- أين هم من جماعة المعتزلة الذين اعتزلوا السنة و الأئمة لخلافٍ فكريٍ بينهم؟ أ فليس الاعتزال عصياناً من الاقلية ضد الاكثرية؟
- أين هم من الحلاج المنصور، القديس المتألم لصرخته(أنا الحق) و مجابهته الفلسفية لكل المتكلفسين في الدين؟ فهل خشي الموت؟ لا و الله! بل دافع عن فكره و فلسفته و ظلّت(أنا الحق)تتردد في كل أصقاع المعمورة. فأن تاب حينه و كفر عن ذنوبه و تخلى عن فلسفته و اعلن حقانية القضاة المتكلفسين لما كانوا يقتلونه. لكنه فضّل الموت شهيداً وهو يقول" هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك، وتقرباً إليك، فاغفر لهم".
أين هم من كل ذلك؟ أ فليست هذه كلها عمليات عصيانٍ مدني؟
و قد يقول قائل بإنها تحركات فردية و مفردة و ليست لها نظام و لا نظرية و لا مبادئ! سأقول له: أن هذا لكلامٌ باطل! فصفحات آفستا و القرآن و الانجيل و احاديث النبي و سير الصحابة مليئة بالمبادئ التي ينادي بها منظروا الصراع السلمي في الغرب.
و هاكم الأمثلة:
يقول الإمام الصادق:" من زرع العداوة حصد ما بذر".
و يقول الرسول(صلعم) "اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون." و يقول أيضاً -حسب رواية الإمام الشيرازي: "من علامات المؤمن اللاعنف"
ويورد لنا الإمام زين العابدين (ع) صورة من صور المسالمة واللاعنف بقوله: (حق من أساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو عنه يضر، انتصرت)
قال لقمان الحكيم ينصح ولده:"يا بنيّ صاحب مائة و لا تعاد واحداً. تعلّم محاسن الأخلاق"
و من الآيات القرآنية: ((خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)). ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ)). ((وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً)). ((وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)).
و هنا قصة علي بن أبي طالب مع ابن ملجم، قاتل علي. فبعد أن يفيق عليٌ من الضربة و يحادث قاتله قليلاً يلتفت إلى ولده الحسن ويقول له: ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه...
فيقول له الإمام الحسن: يا أبتاه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وافجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق فيه؟
فيقول له: نعم يا بني! نحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقّي عليك أطعمه يا بني ممّا تأكله، واسقه ممّا تشرب... (و للقصة دوام)
فهذا الموقف إن دلّ على شيء، فهو النبل المتجذر في الإنسان الشرقي. و كان للتراث الشرقي تعريفهم للحلم و العفو و المغفرة و المسامحة وإلى ما هنالك. حيث يقول الإمام الشيرازي: (السلام هو الأصل، والعنف خلاف الأصل، وعلى الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف). و قال أيضاً: (بل من اللاعنف أن يتجنب كل ما يشين الطرف، ولو بالكتابة والتعريض، أو التلويح، فإن ذلك كله عنف). و يعرّف الإمام اللاعنف بقوله: " هو الطريقة التي يعالج بها الإنسان الأشياء سواء كان بنّاءاً أو هدّاماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج"
________________________________________
يا ترى ما هو سبب ضيق نطاق عمليات العصيان المدني في الشرق الأوسط؟
لنأخذ تركيا مثالاً. يقول ناطق مبادرة (المواطن لأجل التنوير) في تركيا أرغين جيمن:"من الطبيعي عدم تطور مثل هذه العمليات في الدول الظالمة. فالدولة تظهر ردات فعل عنيفة و شديدة جداً ضد كل حركة أو تحرك مهما كان صغيراً... لذا فإن ابناء الشعب لا يحبذون الولوج او المشاركة بمثل هذه العمليات." و يتابع ارغين قوله:" مثل هذه العمليات(يقصد العصيان المدني) يتم القيام بها في الدول اللا ديكتاتورية والتي تحوي مشاكل و أخطاء في قوانينها... العصيان المدني حق من الحقوق الديمقراطية للأفراد و التجمعات في تلك البلدان". هل نفهم من قول ارغين بأن القيام بعمليات العصيان المدني تحتاج إلى وجود دول و أنظمة ديمقراطية؟ و إن قبلنا بهذا الأمر فأن الشرق الأوسط سيبقى على حاله؛ لأبسط سبب، ألا وهو أن الدول في الشرق الأوسط مستبدة إلى آخر درجة! حتى و لو كانت السلطة ديكتاتورية فيجب القيام باستخدام كل السبل و الوسائل النضالية. و نهر عمليات المدني لا ينضب أبداً. لقد استخدم الثوار و المعارضون اسلوب العنف الثوري ردحاً طويلاً من الزمن و قد حصلوا على ما سعوا إليه و لكنهم خلّفوا بيئة مناسبة للعنف و الاستبداد و الجروح التي لا تندمل! قد لا تكون السلطة ديمقراطية، حينه يكفي أن تكون المعارضة ديمقراطية و صادقة و هادفة حقاً للحل السلمي و السمو و العدالة و ليس ان تسعى لهدم سلطة لتتولى السلطة بنفسها.
أتوا لأجل إحلال السلام بحسن نية فوجدوا أنفسهم في السجن!
كما تعلمون بأن الجانب الكردي أعلن عن وقف للحرب الدائرة بينه و بين الجيش التركي سنة 1999 و سحب جل قواته و أنصاره خارج حدود تركيا. و بدأ الطرف الكردي (حزب العمال الكردستاني) بالنضال السلمي لحل المسألة الكردية بالسبل الديمقراطية و الحوار. و كبادرة حسن نية فقد أُرسل مجموعتي سلام من بين قواتها العسكرية و كوادرها السياسية. المجموعة التي ذهبت من بين الأنصار بقيادة على صابان مع كافة عتادها العسكري و بلاغات سلمية وودية للحكومة و الجيش و الإعلام التركي. ذهبت هذه المجموعة بإرادتها إلى تركيا كبرهان على صدق الطرف الكردي للحل السلمي للمسائل كافة. هذه المبادرة السلمية النابعة من المحبة و الشعور بالمسؤولية لم تلق صدراً رحِباً لقبولهم بل قابلتهم الدولة التركية كأسرى و عاملتهم "كإرهابيين" و أنزلت بهم عقوبات بالسجن ما بين المؤبد و عشرين سنة.
ان مبادرة علي سابان و رفاقه تعد من الأمثلة البارزة و حتى الجسورة على العصيان المدني. فهم على علم تام بالقوانين العرفية للدولة التركية و ما ينتظرهم و مع ذلك لم يتوانوا عن الذهاب إلى تركيا كرمز للسلام و الأخوة و الحل الديمقراطي. و قد فقد أحدهم حياته بسبب الظروف الصعبة للسجن.
العصيان بلغة ممنوعة و محرمة:
اللغة الكردية ممنوعة في تركيا و سوريا منعاً باتاً. فلا يحق للأكراد تعلم لغتهم لا بل يُمنعون من التحدث بلغتهم و كل من يتحدث بهذه اللغة التي يتكلم بها اربعون مليون إنسان فقط! يتهمونه بالانفصالية و الارهاب. هذه السياسية مطبقة منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى. منع اللغة الكردية منصوص عليه في الدستور و القوانين. على إثر انقلاب الثاني عشر من ايلول و اعتقال المئات من خيرة الشبيبة الكرد و سوقهم للمحاكم الاستثنائية، استغلها الشباب الكرد المعتقلين كي يخرقوا قوانين الدولة اللاانسانية. فقد رفض الكثير منهم التحدث في المرافعة باللغة التركية و اصروا على التكلم باللغة الكردية. بهذا الشكل ضربوا بهذه القوانين الشوفينية عرض الحائط. و تلتهم الناشطة الكردية المعروفة ليلى زانا التي كانت نائبة في البرلمان التركي. ففي الجلسات الاولى للبرلمان، حيث كان يتم أداء القسم باللغة التركية، و كان الدور قد وصل إلى ليلى زانا، فقامت هي بأداء القسم(اليمين)باللغة الكردية. مما الهب البرلمان و اصبح موقفها هذا بداية تحول كبير في العقلية الشوفينية للدولة التركية. أُودعت عقب ذلك في السجن و بقيت أكثر من عشرة سنوات بتهمة(الانفصالية و دعم الارهاب).
العصيان المدني بالحروف:
وضع الشرق الاوسط مضحك بقدر ما هو مبكي! فالدولة(الإلهية) في الشرق الأوسط تحارب الحروف بتهمة إنها حروفٌ (ارهابية و انفصالية)! نعم... نعم هذا ما يحدث في تركيا. نعلم أن اللغة التركية(مع احترامنا لكل اللغات)ضيقة و أبجديتها لا تلبي حاجة كل اللغات الغنية و العريقة للشعوب الأخرى، كالارمنية و الكردية. فبعض الاحرف الخاصة باللغة الكردية غير موجودة في الابجدية التركية. كذلك يمنع الدستور التركي تداول هذه الاحرف(الانفصالية و الارهابية) كـحرف(القافQ و الخاءX و الدبليوW). مع العلم بأن الاسماء الكردية ممنوعة في دستور تركيا بحجة أنها أسماء(اجنبية) تشجع الانفصال. ضد هذا الوضع قام عشرات الآلاف من الكرد بإطلاق حملة احتجاجية على هذه القوانين الجائرة. حيث ذهبوا إلى دوائر سجل الاحوال المدنية و قاموا بتغيير أسماءهم القديمة بأسماء كردية و كانوا ينتبهون لاختيار الأسماء التي تحتوي الأحرف الكردية(Q.X.W.U.I.E) كـ(welat. Xebat. Xelat. Xanim.berxwedan. Serxwebûn…). في البداية تعرّض الكثيرون منهم للمسائلة القانونية، لكن بعدما تجاوز العدد الألوف كفّت الدولة عن ملاحقتهم و رضخت لهم. صحيح بأنها لم تقبل بالأحرف الكردية و لكنها قبلت إلغاء النصوص المعادية للأسماء الكردية من الدستور. مع العلم بأن الكثير من المثقفين و الشخصيات التركية آزروا هذه العملية السلمية و سموا أنفسهم تسميات كردية.
العصيان المدني صوماً حتى الموت!
الصوم ركن ديني لتهذيب النفوس و قتل الشرور. شرقنا الأوسط أول من أوجد هذا السبيل لتربية النفوس و كركن ديني هام. أنا أعتبر الصوم عصياناً مدنياً بحد ذاته. و هذا العصيان موجه للنفس و (الأنا السفلى) و هي موجهة ضد التفاوت الاجتماعي و ضد الفقر المدقع و الغنى الفاحش. يقال للصيام اللاديني بـ(الاضراب عن الطعام). يكون الاضراب عن الطعام بهدف استمالة قلوب و ضمائر الآخرين أو لرفض قانونٍ او ممارسةٍ او معاملةٍ ما. فكثيراً ما نرى قيام البعض بالاضراب عن الطعام كي يضغطوا على السلطات. أو لكي يثير قضيتهم في الرأي العام عبر جذب انتباه الإعلام.
عمليات الاضراب عن الطعام غالباً ما تكون مؤقتة او تنتهي مع تلبية طلباتهم. لكن من النادر أن يصادفنا اضراباً حتى الموت عن الطعام. فهذا ما حدث في سجون تركيا. قام عدد من السجناء الثوريين الترك و الكرد بإعلان الاضراب عن الطعام حتى الموت. كان ذلك عام 1982. استمروا بعمليتهم(مدة شهرين) حتى آخر ثانية من حياتهم و أصبحوا مثالاً يتمثل بهم كل السجناء في تركيا.
كل بيئة و كل محيط و كل نظام يختلف من حيث نوع العمليات. فكل العمليات الاحتجاجية في السجون تكون في قمة المسالمة و المدنية. عدم ارتداء الالبسة الموحدة ورفض ترديد شعارات السلطة و القيام بالكتابة على الجدران و الغناء بصوتٍ عالي للاغاني الثورية و الكردية و عدم تناول طعام ادارة السجون و إلى ما هنالك من تصرفات هي قمة العصيان المدني السلمي و النابع من الضمير و الوجدان...
العصيان بنار الجسد!
ليس سقراط وحده من فضّل الموت لحفظ كرامته الإنسانية(حيث سمي فيما بعد موقفه هذا بالعصيان المدني الأول في التاريخ)؛ فما فعله الشاب الكردي الثوري مظلوم دوغان أعظم مما فعله سقراط بكثير! مظلوم دوغان شاب كردي و ثائر ضد العنجهية التركية و كان مناضل لأجل تحرر شعبه من نير الاحتلال و الصهر القومي. ألقي القبض عليه و أودع السجن. تعرض في السجن لأبشع صور التعذيب و التحقير التي يتقزز لها الانسان. لم يترك الجلادين صورة أو أسلوب للتعذيب الجسدي و النفسي و الروحي إلا و مارسوه ضد مظلوم دوغان و الألوف من الشباب الكرد و الترك التقدميين. كان الهدف الاساسي للطغمة العسكرية قتل العزيمة في هؤلاء الشبان الثوريون. فقد كانت الدولة تعدهم إن هم رضخوا لها و تخلوا عن أفكارهم التقدمية بأن تهب لهم سبل الحياة الناعمة. فقد كانت تستخدم أسلوبي الترهيب و الترغيب معهم. و قد تخلى بعضهم عن أفكاره و أنضم لجانب الدولة. و كعصيان و احتجاج وجداني ضد عنجهية الدولة و خيانة الآخرين فقد قرر دوغان القيام بواحدة من أعظم أشكال العصيان المدني في التاريخ الكردي الحديث. و كان التاريخ المقرر لتنفيذ العملية هو ليلة عيد النوروز. كان نوروز ممنوعاً تماماً في تركيا و سوريا و الكثير من البلدان الأخرى. نوروز هو العيد القومي التاريخي للشعب الكردي و الشعوب الآرية الأخرى. و كان مكان العملية حجرة انفرادية مظلمة و باردة في سجون دياربكر. ففي ليلة العشرين من آذار جعل مظلوم دوغان من نفسه شعلة نارٍ أضاءت الحجرة و السجن و دياربكر و كل كردستان. فقد أعلن بنار جسده بداية الاحتفال بالنوروز. و لذا يسميه الكرد بـ كاوا العصر! عملية مظلوم دوغان كانت موجهة للدولة التركية و للشعب الكردي أيضاً... فقد كانت نداءً لهم بالسعي للحرية و الكرامة و رفض الشر و الظل و الهوان.
امهات السلام:
مبادرة امهات السلام مبادرة مدنية نسائية شكلتها النساء الكرديات في تركيا للضغط على الاطراف المتحاربة لإنهاء الحرب. لهذه المبادرة الكثير من الفروع و قامت بنشاطات مثيرة. كل عملياتها الاحتجاجية و الاعتصام تكون ضمن مبادئ العصيان المدني ضد الحرب و القتل و النزاع الدموي الدائر في البلاد. و من احدى عملياتهنّ العملية الاحتجاجية التي قمن بها ضد الحرب الدائرة في كردستان و ذلك باعتصامهن على اكبر الجسور التركية(الواصلة بين الطرف الآسيوي و الاوروبي)و قطعن بذلك اكثر الطرق حيوية في تركيا.
امهات السبت
كانت أمهات المفقودين و المقتولين على يد سلطات الدولة التركية يجتمعن كل يوم سبت في شارع الاستقلال باستنبول كي تُسمعنّ صوتهنّ للرأي العام العالمي. داومنّ على عادتهنّ و اجتماعهنّ كل سبت، حتى سميينّ بأمهات السبت. كانت عبارة عن عملية عصيان مدني سلمية، و من ألين السبل النضالية. كانت الامهات بعملياتهن تلك تهدفن إلى إنهاء حالة الحرب الدائرة رحاها في كردستان و كفّ الدولة عن قتل و خطف و تعذيب المواطنين الكرد الأبرياء. و معظم الأمهات المشاركات كنّ معنيات بالأمر مباشرةً .
"إذا كنت تمنع أخي الكردي من التحدث بلغته فسوف أخترق قانونكم هذا و أتعلم الكردية!"
إنها مقولة رائعة و لكن ليس من قائلٍ لها بين الأخوة الترك و العرب. إنها أمنية و خيال يدغدغ أفكاري، فحبذا لو قام أحدهم و أعلن على الملأ هذه المقولة. أ لم نرى ما الذي فعله الشعب الدانماركي لحماية اليهود؟ فهل نضبت أرضنا الولود من الشرفاء و أصحاب الضمير؟ هل أنكر أولاد الشرق ماضيهم الإنساني العريق؟ و هل...؟
كليّ ثقة بأن أرضنا البكر ملئ بالشرفاء الذين بأمكانهم الصراخ بأعلى صوتهم قائلين:"كفى و ألف كفى" للظلم و الطغيان و اللاعدالة. و ها هي أبواب العصيان المدني مفتوحة على مصراعيها أمامنا...
و السؤال المهم هو: ما هي الأساليب الخاصة بالعصيان المدني التي يمكننا استخدامها في الشرق الأوسط؟
- الاحتجاج: تحويل كل المناسبات و الاعياد الوطنية و الدينية و الاجتماعية لمناسبات التظاهر و التعبير عن الاحتجاج السلمي بالطرق الهادئة. كجعل عيد الأم مناسبة للمطالبة بحقوق المرأة في الشرق الأوسط. جعل الأول من ايلول مناسبة لإرساء السلام الاجتماعي. جعل عيد النوروز مناسبة للمطالبة بالحقوق الوطنية للكرد...
- المقاطعة: عقد محاكم الصلح الاجتماعية دون اللجوء لمحاكم النظام المصابة بالخلل و التي تكيل بمكيالين، و بذلك تضطر الأنظمة لإعادة النظر في قوانينها. مقاطعة الانتخابات و الاقتراع و اجراء انتخابات رمزية كبديل شعبي لانتخابات السلطة.
- خرق القوانين: إصدار الجرائد و المجلات و الإرسال الاذاعي الغير رسمي شرط أن تكون لسان حال الجماهير.
-التظاهر و جذب انظار الرأي العام: بإشعال الشموع و القيام بعمليات إطفاء الانوار، تعليق اللافتات المعبرة عن الرفض، رفع الرايات و الاعلام الممنوعة قانوناً، وضع باقات من الشوك أو الخميلة السوداء أمام الاماكن الرسمية، رسم و تعليق صور و لوحات تعبر عن الرفض أو التعاضد مع صاحب الصورة، الاستماع الجماهيري لأغاني و موسيقا ممنوعة أو محذرة و إلى آخره من وسائل جذب إنتباه عدسات المصورين و أقلام الصحفيين الفضوليين أصلاً!
على المستوى الفردي: يستطيع الإنسان الفرد القيام بكثير من عمليات العصيان المدني المؤثرة جداً لوحده أو مع نفر قليل جداً. مثلاً قيام النساء بقص شعورهن أو تسريحها بشكل مغاير و مثير و كذلك الامر بالنسبة للرجال، كصبغ الشعور و إطلاق اللحى. انتعال احذية خشبية أو معدنية الكعب لإصدار اصوات مثيرة. ارتداء الملابس مقلوباً أو حتى العري الجزئي أو الكلي. و قد تم استخدام اسلوب التعري في العصيان المدني بكثرة ضد حرب العراق و كذلك ما فعلته الفنانة السورية في امريكا مثال آخر على دور اسلوب التعري في العصيان المدني. عدم ارتداء الحجاب في الدول الدوائر الحكومية التي تفرضه على المرأة سبيل آخر من سبل العصيان المدني.
العصيان المدني فنياً: الكاريكاتور اقوى السبل و أكثرها تأثيراً في مجال العصيان المدني الفني. بالإضافة إلى المقالات الساخرة و الاشعار الهجائية و الموسيقا و الغناء و الرسم و كما يجب أن لا ننسى دور الكوميديا و الدراما في التعبير عن الرفض و المطالبة بالتجديد. لذا فأن كسب الفنانين من قِبل القائمين بعمليات العصيان المدني ذو فائدة كبيرة و تأثير بليغ للعملية. سبل متفرقة: مقاطعة بعض السلع التجارية و حتى الدعاية ضدها، عزل بعض الاشخاص اجتماعياً و عدم السلام عليهم و عدم التكلم معهم، المسيرات الصامتة، لصق الافواه، التخيّم بالقرب من المعسكرات، الصيام و الاضراب عن الطعام و العشرات من السبل الأخرى يمكن للمرء استخدامها في عمليات العصيان المدني في الشرق الأوسط. المهم هو أن نعلم المعاديين و بالأخص السلطات اللين و اسلوب الحوار و الابتعاد عن العنف و العنوة. فمن واجبنا أن نقلّم اظافر الضغينة و نخنق الحقد و الكراهية في قلوب و أفئدة المعادين- الدولة في غالب الاوقات. و هذا سيكون فرصة عظيمة أمام المجتمع للتعبير عن ذاته دون انتظار التدخل الاجنبي، و فرصة ذهبية امام السلطات للقيام بالاصلاحات و تحقيق آمال و متطلبات الجاهير الشرق الاوسطية... و إلا! و إلا فأن مصير هذه الانظمة لن يكون أفضلاً من ما آل إليه الحالة العراقية.
________________________________________
المصادر:
1- مجلة(Genc Bakis) ايار 2001
2- العصيان المدنيّ! هنري دافيد ثورو
3- العصيان المدني: حق أم واجب؟ تييري باكو
4- دور القوة في الكفاح اللاعنيف! جين شارب
5- الاحاديث الشريفة
6- آيات قرانية
|
التعليقات (0)