العشق عند الأطباء
نظر أطباؤنا القدامى للعشق على أنه (مرض) يصيب الإنسان ! باعتباره يُحدث اضطراباً فى النفس والجسم .. تأمل هذه النصوص :
جاء فى كتاب القانون فى الطب للشيخ الرئيس ابن سينا
المقالة الرابعة ، فى أمراض الرأس .. فصل فى العشق :
هذا مرض وسواسى شبيه بالمالنخوليا ، يكون الإنسان قد جلبه إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل ، ثم أعانته على ذلك شهوته أو لم تعن . وعلامته : غور العين ويبسها وعدم الدمع إلا عند البكاء ، وحركة متصلة للجفن ، ضحاكة ، كأنه ينظر إلى شئ لذيذ أو يسمع خبراً ساراً أو يمزح . ويكون نفسه كثير الانقطاع والاسترداد فيكون كثير الصعداء ، ويتغير حاله إلى فرح وضحك أو إلى غمٍّ وبكاء عند سماع الغزل ، ولاسيما عند ذكر الهجر والنوى . وتكون جميع أعضائه ذابلة ، خلا العين فإنها تكون مع غور مقلتها ، كبيرة الجفن ، لسهره وتزفُّره .. ولايكون لشمائله نظام ويكون نبضه نبضاً مختلفاً بلا نظام البتة ، كبعض أصحاب الهموم، ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصة وعند لقائه بغتة ، ويمكن من ذلك أن يستدل على المعشوق أنه مَنْ هو إذا لم يعترف به ، فإن معرفة معشوقه أحد سبيل علاجه . والحيلة فى ذلك أن يُذكر أسماءٌ كثيرة تعاد مراراً وتكون اليد على نبضه ، فإذا اختلف بذلك اختلافاً عظيماً وصار شبه المنقطع ثم عاود ، وجربت ذلك مراراً ، علمت أنه اسم المعشوق. ثم يذكر كذلك السكك والمساكن والحرف والصناعات والنسب والبلدان، وتضيف كُلاً منها إلى اسم المعشوق ، ويحفظ النبض حتى إذا كان يتغير عند ذكر شئ واحد مراراً ، جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحلية والحرفة وعرفته . فإنا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان فى الوقوف منفعة.
فى ما العشق
عبيد الله بن بختيشوع : الروضة الطبية .
إن هذا المرض قد اختلف فيه المتقدمون و ذلك أن بعضهم قالوا : إنه يختص بالنفس الناطقة، وهو فساد التخيل والفكر وبعضهم قالوا : إنه يختص بالنفس البهيمية، وهو مرض يعرض لها من قبل إفراط الشهوة . ومنهم من جمع الأمرين جميعاً وأضاف إليها المشاكلة والمشابهة ، وزعموا أن هذا لا يكون إلاّ بمُشاكلة روحانية وجسمانية ودقّقوا فى هذا ، حتى حدُّوا الأعضاء التى إذا تشابهت ، كان هذا الشأن قوياً . قال ثامسطس وهو يحييى النحوى: العشق مُشاكلة روحانية ، كالمُشاكلة من حجر المغنطيس و الحديد . وقال مسقسار الهندى: العشق ارتياح يجول فى الفكر ويخالط الروح ، فلكىُّ تفتحه النجوم بقدر مطالع أشعّتها. وتولّده النفوس بوصل أشكالها ، وتعلّمه الأوهام بلطف خواطرها ، وهو مع ذلك جلاء للعقول وصفاء للأذهان ما لم يُفرط فيه ، فإذا أُفرط صار سقماً قاتلاً لا تنجع فيه الحيل و لا تنفذ فيه الآراء ، و العلاج منه زيادة فيه . وقال أرسطاطاليس : إذا تقادحت جواهر النفوس المتعاطفة بوصل المؤانسة ، أحدثت التحام نورٌ ساطع فى عال العلوّ لتستضئ به جواهر النفوس المتعاطفة ، فيَقهرُ من إشراقه طبائعَ الحياة فيَحدثُ من ذلك الالتحام نورٌ ساطع بذاتها وطبيعتها ، يُسمى ودًّا .. فهؤلاء مُجمعون على أنه مُشاكلة بين النفوس و الأبدان ، وأرسطو أشار أيضاًً إلى النفس الناطقة تلقى المؤانسة بين النفوس الحيوانية حتى تستحكم الألفة .
ونرى التعشُّق يختص بالنفس البُهيمية أكثر ، و ذلك أن أكثر ما يعرض عند اشتياق هذه النفوس إلى الاجتماع البهيمى كما يعرض للبهائم أيضاً ، ونرى القلب الذى هو معدن الروح الحيوانى ينزعج عند التحرك لهذا الشأن كأنه مرض على القلب .
والعشق هو إفراط الشهوة التى تدعو إلى المؤانسة و الاجتماع البهيمى ، إذ كان هذا الاجتماع مخصوصاً بالحيوان جميعه ، حتى نرى كل نوع منه يأنس بشكله و بنوعه أو ما قارنه . فإذا تمكن المرض من القلب شاركه الدماغ فيه بما بينهما من الاشتباكات و الآلات التى هى من العروق الضوارب والعصاب ، فإذا ارتقت الروح الحيوانية إلى الدماغ وجالت فيه ، أفسدت فيه التخيل والفكر بما اكتسبته من القلب ، الذى هو معدن وينبوع لها، وأمالتهما إلى المحبوب الذى قد اتحد بالقلب ، فنرى التخيل منصرفاً إلى أشكاله والفكر مسدَّداً نحو منافعه و مرضاته و صلاح شأنه ، دون النظر فى أحوال نفسه و صلاح أمورها حتى أنه يصل فى متصرِّفات تدبيره إلى أن يمنع فكرته فى شئ من مصالح نفسه و يتجاوز فكرته فى تفقُّد أمور معشوقه ، حتى أنه يعرض لأكثرهم الحيرة و الخبل ، ويسوقه عشقه إلى إذهاب الجاه و المال .
فقد بان أن العشق هو تجاوز الحدّ فى المحبة ، وأنه شرهٌ . وإذا كان كذلك ، فليس هو طبيعياً بل عرضى . وخاصةً لمن هو شبِقٌ فى الناس ، فإن أكثر أغراضه طلب الجماع لأجل أنَّ هذه الشهوة الحيوانية أقوى ملاذ النفس الشهوانية ، وجُعل ذلك من أجل التناسل.
وقال والدى جبرائيل فى كتابه الكبير المعروف بالكافى عند كلامه على هذا العارض وتقسيمه إيّاه إلى فصوله المحمودة و المذمومة : إن العشق يعرض كثيراً عند النظر إلى الأجسام الحسنة إذا هاجت الشهوة و زاد الشوق إلى الاجتماع معها ، و هذا الاجتماع من أجلِّ الأعراض التى تُعلُّ البدن و تنحله و تلقيه إلى أمراض مهلكة ، و هذا الخُلق من الأخلاق الناطقة ، وذلك أنه يجمع الأغراض الرديئة جميعاً من غمٍّ و أسف وركوب الهوان من المهالك، وأقبح ما لهذا الخُلق أنه يدعو النفس الناطقة إلى أن تخضع و تُذل للنفس البهيمية ، ويملِّك على السيد النبيل العبدَ المُهين .
ومن أفعاله أنه يُلقى إلى أمراض كثيرة ، وهو أخبث الأخلاق لأنه يطمع فى اللذة ويحصل المبتلى به فى أنواع العذاب ، وهو يحطُّ النفس و يُعميها لأنه يعمى فكرته ، إلى أن يحطه عن مرتبته الموهوبة له التى يشارك فيها الملائكة إلى المرتبة الخنـزيرية لغلبة الشهوة بالنهم والشره ، على النفس الناطقة ، فتصيّرها عبدة لها . كالملك العظيم ، إذا صار ذليلاً بين يدى العبد المُهين
قاموس الأطباء
للقوصونى
العِشق .. بالكسر إفراطُ الحب أو عجبُ المحب بالمحبوب . وقال أرسطو : هو عَمَى القلوب عن عيوب المحبوب . وقال الشيخ الأكبر فى الفتوحات المكية : هو ما يحوز من العشق ، وهى اللبلابة التى تلتف على شجرة العنب وأمثالها ، فهو يلتف بقلب المحب حتى يعميه عن النظر إلى غير محبوبه . وقال الشيخ : هو مرضٌ وسواسى شبيهٌ بالمالينخوليا لجلبه الإنسان إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل التى له ، ثم أعانه على ذلك شهوته أو لم تُعِن ، انتهى .
قال بعض الحكماء : هو طمعٌ يتولد فى القلب ، ويتحرك وينمو مع حرصٍ ، وكلما قوى ازداد صاحبه فى الإحياج واللحاج والتمادى فى الطمع والحرص على الطلب ؛ حتى يؤدى ذلك إلى الغمِّ والسَّهر ، وعند ذلك يحرق الدم وتلتهب الصفراء ، ويستحيلا إلى السوداء. وهى مفسدةٌ للفكر ، منقصةٌ للعقل ، موجبةٌ لرجاء ما لا يكون وتمنِّى ما لا يتم ، مؤديةٌ إلى الجنون . وحينئذٍ ربما قتل العاشقُ نفسه ، وربما مات غماً ، وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحاً ، وربما شهق شهقة ، ففاضت فيها روحه . وقال بعضهم : إذا تمكن العشق بالقلب وقوى سلطانه صرع صاحبَه كالذى يُصرع من مسِّ الجنِّ ، فإذا مرَّ به الجنُّ سألوا عنه ، فيقال لهم مسَّهُ الإنس . أصله غالباً النفس ، لأن الإنسان مركبٌ من العقل وهو الأمَّار بالخير وقائده العدل ، ومن النفس وهى الأمارة بالسوء ، وقائدتها الشهوة . وهما شيئان عظيمان فى الإنسان ، ولا يتفقان أبداً . فإن غلب العقلُ النفسَ سَلِم الإنسانُ من شر الشيطان ، وإن غلبت النفسُ العقلَ عميت البصيرة ، ودفع الإنسان فى الحيرة . وقال بعضهم : تحقيق العشق أنه ليس هو الحسن والجمال، وإنما هو تشاكل النفوس وممازجتها فى الطباع المخلوقة .قال الشاعر :
وما الحبُ من حسن وٍلا من سماحةٍ ولكنه شئٌ به الـروحُ تـكلفُ
وهذا العشق هو الكائن فى النفوس عن الأعين ، وأما الرسوم الظاهرة المرئية ، فهى الاجتماع والمحادثة والقبلة والجماع . فإن كان العشق بالمشاكلة زاد بالقِدَم وثبتَ وتمكَّن . وإن لم يكن بالمشاكلة فهو عَرَض ، والأعراض زائلة ، ومثل هذا يزول بسرعة ؛ إذ الأصل بالمشاكلة له ، وفى منازل الأحباب عن أبى الهذيل العلاَّف قال : لا يجوز فى دور الفلك ولا فى تركيب الطباع ولا فى القياس ولا فى الحسِّ ولا فى الواجب ولا فى الممكن ؛ أن يكون محبٌ ليس لمحبوبه إليه ميل ، انتهى . ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف . ويشهد له أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابان ، إلا وبينهما مشاكلة واتفاق فى بعض الصفات ، ولهذا اغتمَّ بعض الحكماء حين وصف له رجل من أهل النقض أنه يجد ، وقال ما أحبنى إلا وقد وافقنى فى بعض أخلاقه . قال بعضهم : وسببه النفسانى الاستحسانُ والفكر ، وسببه البدنى ارتفاعُ البخار إلى الدماغ . قال الشيخ : وعلامته غؤور العين ويبُسها وعدم الدمع ، إلا عند السكاكى وحركته متصلبة للجفن ضحاكه ، كأنه ينظر إلى شئ لذيذ ، أو يسمع خبراً ساراً ، أو يمزح ، ويكون نَفَسُه كثيرَ الانقطاع والاسترداد ، فيكون كثيرَ الصُّعداء . ويتغير حاله إلى فرحٍ وضحك ، أو إلى غمٍّ وبكاء عند سماع الغزل ، لا سيما عند ذكر الهجر والنَّوى ، ويكون جميع أعضائه زائلة سوى العين ، فإنها تكون سمينة ، ولا يكون لشمائله نظام ، ويكون نبضه مختلفاً بلا نظام ، ويتغير نبضُه وحالُه عند ذكر المعشوق ، وخاصةً عند لقائه. ويمكن من ذلك أن يستدل عليه إذا لم يكن معروفاً ، فإن معرفته أحد سبل علاجه . والحيلة فى ذلك أن تذكر أسماءً كثيرة مراراً متعددة ، وتكون اليدُ على نبضه ، فإذا اختلف اختلافاً كثيراً وصار كالمتقطع عند ذكر اسمٍ منها، علمت أنه اسمُ المعشوق . ثم تذكر أيضاً الشكل والمساكن والحرف والصناعات والنسب والبلدان ، وتضيف كلاً منه إلى اسم المعشوق ، فإذا تغير عليك النبضُ عند ذكر شئ منها عرفته ، فإنا قد جرَّبنا هذا . ثم إن لم تجد علاجاً إلا تدبير الجمع بينهما على تحلَّة التشريع ؛ فعلت ، فإنا رأينا من عاودته السلامة وكان قد بلغ الذبول لشدة العشق لما أحسَّ بوصلٍ من معشوقه معاودة فى أقصر مدة قضينا بها العجب العجاب . واستدللنا على طاعة الطبيعة للأوهام النفسانية ، انتهى ملخصاً . وعلاجه استعمال ما يُخرج السوداء ، وما يرطب وينوِّم من الأغذية والأشربة ، وبالجملة فلا شئ كالوصال ، فإذا لم يتفق على الوجه الشرعي فيحتال فى تَعَشُّقِ غير المعشوق ممن تحلُّه الشريعة . وإن كان العاشق من العقلاء نفعته النصيحة والعظة . والاستهزاء به والتصوير لديه أن ما به ضرب من الجنون والوسواس ، فإن الكلام فى مثل هذا الباب ينفع نفعاً عظيماً .
خاتمة .. قال بعضهم : العشق مبتداه يصفِّى الهم ويهذِّب العقل . وهذا هو الممدوح الذى نصَّ عليه ذو الرياستين فى قوله لأصحابه : اعشقوا ولا تفعلوا حراماً ، فإن عشق الحلال يطلق اللسان العيَّ ويدفع التبلد ، ويسخّى البخيل ، ويبعث على النظام ، ويدعو إلى الزكاء ، وإلى علو الهمة . وقيل لبعض الحكماء إن ابنك عشق ، فقال : الحمد لله ، الآن رقَّت حواشيه ، ولطفت مبانيه ، وملحت إشاراته ، وظرفت حركاته ، وحسنت عباراته ،وجادت رسائله ، وحلت شمائله، فواظب على المليح ، واجتنب القبيح ، انتهى .
وقد أطلنا القول على هذا المعنى فى كتابنا المسمَّى بمشتاق العُشّاق من أسواق الأشواق . والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وعليه توكلي واعتمادى ، وهو حسبي وكفى .
الرازى : الطب الرُّوحانى
الفصل الخامس : فى العشق والإلف وجملة الكلام فى اللذة
أما الرجال المذكورون الكبار الهمم والأنفس ، فإنهم يبعدون من هذه البلية من نفس طبائعهم وغرائزهم . وذلك أنه لا شئ أشد على أمثال هؤلاء من التذلل والخضوع والاستكانة وإظهار الفاقة والحاجة واحتمال التجنى والاستطالة . فهم إذا فكروا فيما يلزم العشَّاق من هذه المعانى نفروا منه وتصابروا وأزالوا الهوى عنه وإن بُلوا به ، وكذلك الذين تلزمهم أشغال وهموم بليغة اضطرارية دنيائية أو دينية . فأما الخنثون من الرجال والغزلون والفرّاع والمترفون والمؤثرون للشهوات الذين لا يهمهم سواها ولا يريدون من الدنيا إلا إصابتها ، ويرون فوتها فوتاً وأسفاً ، وما لم يقدروا عليه منها حسرةً وشقاءً ؛ فلا يكادون يتخلصون من هذه البلية ، لا سيما إن أكثروا النظر فى قصص العشاق ، ورواية الرقيق الغزِل من الشعر ، وسماع الشجى من الألحان والغناء . فلنقل الآن فى الاحتراس من هذا العارض والتنبيه على مَخاتله ومكامنه بقدر ما يليق بغرض كتابنا هذا . ونقدم قبل ذلك كلاماً نافعاً معيناً على بلوغ غرض ما مرَّ من هذا الكتاب وما يأتى بعده ، وهو الكلام فى اللذة.
فنقول : إن اللذة ليست بشئ سوى إعادة ما أخرجه المؤذى عن حالته إلى حالته تلك التى كان عليها ، كرجل خرج من موضع كنين ظليل إلى صحراء ، ثم سار فى شمس صيفية حتى مسه الحر ، ثم عاد إلى مكانه ذلك ، فإنه لا يزال يستلذُّ ذلك المكان حتى يعود بدنه إلى حالته الأولى ، ثم يفقد الاستلذاذ مع عود بدنه إلى الحالة الأولى ، وتكون شدة التذاذه بهذا المكان بمقدار شدة إبلاغ الحر إليه وسرعة هذا المكان فى تبريده . وبهذا المعنى حدَّ الفلاسفة الطبيعيون اللذة ، فإن حد اللذة عندهم هو أنها رجوع إلى الطبيعية . ولأن الأذى والخروج عن الطبيعة ربما حدث قليلاً قليلاً فى زمان طويل ، ثم حدث بعقبه رجوع إلى الطبيعة دفعةً فى زمان قصير ، صار فى مثل هذه الحال يفوتنا الحس بالمؤذى ، ويتضاعف بيان الإحساس بالرجوع إلى الطبيعة ، فنسمى هذا الحال لذة .
ويظن بها من لا رياضة له أنها حدثت من غير أذى تقدمها ، ويتصورها مفردةً خالصةً بريةً من الأذى . وليست الحال على الحقيقة كذلك ، بل ليس يمكن أن تكون لذة بتةً إلا بمقدار ما تقدمها من أذى الخروج عن الطبيعة . فإنه بمقدار أذى الجوع والعطش يكون الالتذاذ بالطعام والشراب ، حتى إذا عاد الجائع والعطشان إلى حالته الأولى ، لم يكن شئ أبلغ فى عذابه من إكراهه على تناولهما بعد أن كانا ألذ الأشياء عنده وأحبها إليه . وكذلك الحال فى سائر الملاذِّ ، فإن هذا الحد بالجملة لازم لها محتوٍ عليها ، إلا أن منها ما نحتاج فى تبيين ذلك منه إلى كلام أدقَّ وألطف وأطول من هذا . وقد شرحنا هذا فى مقالة كتبناها "فى مائية اللذة"، وفى هذا المقدار الذى ذكرناه هاهنا كفاية لما نحتاج إليه . وأكثر المائلين مع اللذة المنقادين لها هم الذين لم يعرفوها على الحقيقة ولم يتصوروا منها إلا الحالة الثانية ، أعنى التى من مبدأ انقضاء فعل المؤذى إلى استكمال الرجوع إلى الحالة الأولى . ومن أجل ذلك أحبوها وتمنوا أن لا يخلوا فى حال منها ، ولم يعلموا أن ذلك غير ممكن ؛ لأنها حالة لا تكون ولا تعرف إلا بعد تقدُّم الأولى لها .
وأقول : إن اللذةَ التى يتصورها العشاق وسائر من كلف بشئ وأغرم به – كالعشاق للترؤس والتملك وسائر الأمور التى يفرط ويتمكن حبها من نفوس بعض الناس حتى لا يتمنوا إلا إصابتها ولا يروا العيش إلا مع نيلها – عند تصورهم نيل مرادهم عظيمةٌ مجاوزة للمقدار جداً . وذلك أنهم يتصورون إصابة المطلوب ونيله مع عظم ذلك فى أنفسهم من غير أن يخطر ببالهم الحالة الأولى التى هى كالطريق والمسلك إلى نيل مطلوبهم . ولو فكروا ونظروا فى وعورة هذا الطريق وخشونته وصعوبته ومخاطره ومهاويه ومهالكه ، لمرَّ عليهم ما حلا ، وعظُم ما صغر عندهم فى جنب ما يحتاجون إلى مُقاساته ومكادحته .
وإذ قد ذكرنا جملة مائية اللذة وأوضحنا من أين غلط من تصورها محضة برية من الألم والأذى ، فإنا عائدون إلى كلامنا ومنبهون على مساوي هذا العارض ، أعنى العشق وخساسته ، فنقول : إن العشاق يجاوزون حدَّ البهائم فى عدم ملكة النفس وزم الهوى وفى الانقياد للشهوات . وذلك أنهم لم يرضوا أن يصيبوا هذه الشهوة ، أعنى لذة الباه – على أنها من أسمج الشهوات وأقبحها عند النفس الناطقة التى هى الإنسان على الحقيقة – من أى موضع يمكن إصابتها منه ، حتى أرادوها من موضع ما بعينه ، فضموا شهوة إلى شهوة، وركبوا شهوة على شهوة ، وانقادوا وذلوا للهوى ذلاً على ذل ، وازدادوا له عبودية إلى عبودية . والبهيمة لا تصير من هذا الباب إلى هذا الحد ولا تبلغه ، ولكنها تصيب منه بقدر ما لها فى الطبع مما تطرح به عنها ألم المؤذى المهيج لها عليه لا غير ، ثم تصير إلى الراحة الكاملة منه . وهؤلاء لما لم يقتصروا على المقدار البهيمى من الانقياد للطباع ، بل استعانوا بالعقل – الذى فضَّلهم الله به على البهائم وأعطاهم إياه ليروا مساوى الهوى ويزموه ويملكوه – فى التسلق على لطيف الشهوات وخفيها والتحيز لها والتنوّق فيها ، وجب عليهم وحقَّ لهم ألا يبلغوا منها إلى غاية ولا يصيروا منها إلى راحة ، ولا يزالوا متأذين بكثرة البواعث عليها ومتحسرين على كثرة الفائت منها غير معتبطين ولا راضين- لنـزوع أنفسهم عنها وتعلّق أمانيهم بما فوقها وبما لا نهاية له منها – بما نالوه أيضاً وقدروا عليه منها .
ونقول أيضاً : إن العشاق مع طاعتهم للهوى وإيثارهم اللذة وتعبدهم لها ، يحزنون من حيث يظنون أنهم يفرحون ، ويألمون من حيث يظنون أنهم يلذون . وذلك أنهم لا ينالون من ملاذهم شيئاً ولا يصلون إليه إلا بعد أن يمسهم الهمُّ والجهد ويأخذ منهم ويبلغ إليهم . وربما لم يزالوا من ذلك فى كُرب مُنصبة وغصص متصلة من غير نيل مطلوب بتة. والكثير منهم يصير لدوام السهر والهم وفقد الغذاء إلى الجنون والوسواس وإلى الدِّقِّ والذبول ، فإذا هم قد وقعوا من حبال اللذة وشباكها فى الردى والمكروه ، وأدّتهم عواقبها إلى غاية الشقاء والهلكة . وأما الذين ظنوا أنهم ينالون لذة العشق كملاً ، ويصيبونه ممن ملكوه وقدروا عليه ؛ فقد غلطوا وأخطأوا خطأ بيِّناً . وذلك أن اللذة إنما تكون إذا نيلت بمقدار بلاغ ألم المؤذى الباعث عليه الداعى إليها ، ومن ملك شيئاً وقدر عليه ضعف فيه هذا الباعث الداعى وهدأ وسكن سريعاً . وقد قيل قولاً حقاً صدقاً : إن كل موجود مملوك وكل ممنوع مطلوب .
ونقول أيضاً : إن مفارقة المحبوب أمر لابد منه اضطراراً بالموت ، وإن سَلِم من سائر حوادث الدنيا وعوارضها المبددة للشمل المفرّقة بين الأحبة . وإذا كان لابد من إساغة هذه الغصة وتجرع هذه المرارة ، فإن تقديمها والراحة منها أصلح من تأخيرها والانتظار لها ، لأن ما لابد من وقوعه متى قُدِّم أزيح مؤونة الخوف منه مدة تأخيره . وأيضاً ، فإن منع النفس من محبوبها قبل أن يستحكم حبه ويرسخ فيها ويستولى عليها أيسر وأسهل . وأيضاً ، فإن العشق متى انضم إليه الإلف عسر النـزوع عنه والخروج منه، فإن بلية الإلف ليست بدون بلية العشق ، بل لو قال قائل إنه أوكد وأبلغ منه لم يكن مخطئاًَ ، ومتى قصرت مدة العشق وقل فيه لقاء المحبوب ، كان أحرى أن لا يخالطه ويعاونه الإلف . والواجب فى حكم العقل من هذا الباب أيضاً المبادرة فى منع النفس وزمها عن العشق قبل وقوعها فيه ، وفطمها منه إذا وقعت قبل استحكامه فيها . وهذه الحجة يقال إن فلاطن الحكيم احتج بها على تلميذ له بُلى بحب جارية فأخل بمركزه من مجلس مدارس فلاطن . فأمر أن يُطلب ويؤتى به ، فلما مثل بين يديه قال : أخبرنى يا فلان هل تشك فى أنه لابد لك من مفارقة حبتك هذه يوماً ما ؟ قال ما أشك فى ذلك . فقال له فلاطن : فاجعل تلك المرارة المتجرعة فى ذلك اليوم فى هذا اليوم ، وأزح ما بينهما من خوف المنتظر الباقى بحاله الذى لابد من مجيئه ، وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام وانضمام الإلف إليه وعضده له . فيقال إن التلميذ قال لفلاطن : إن ما تقول أيها السيد الحكيم حق ، لكنى أجد انتظارى له سلوةً بمرور الأيام عنى أخف علىّ . فقال له فلاطن : وكيف وثقت بسلوة الأيام ولم تَخَف إلفها ، ولمَ أمنت أن تأتيك الحالة المفرّقة قبل السلوة وبعد الاستحكام ، فتشتد بك الغُصة وتتضاعف عليك المرارة ؟ فيقال إن ذلك الرجل سجد فى تلك الساعة لفلاطن وشكره ودعا له وأثنى عليه ، ولم يعاود شيئاً مما كان فيه ، ولم يظهر منه حزن ولا شوق ، ولم يزل بعد ذلك لازماً لمجالس فلاطن غير مخلٍّ بها بتة . ويقال إن فلاطن أقبل بعد فراغه من هذا الكلام على وجوه تلامذته ، فلامهم وعذلهم فى تركهم وإطلاقهم هذا الرجل وصرف كل همته إلى سائر أبواب الفلسفة قبل إصلاح نفسه الشهوانية وقمعها وتذليلها للنفس الناطقة .
ولأن قوماً رُعناً يعاندون ويناصبون الفلاسفة فى هذا المعنى بكلام سخيف ركيك كسخافتهم وركاكتهم – وهؤلاء هم الموسومون بالظرف والأدب – فإنا نذكر ما يأتون به فى هذا المعنى ونقول فيه من بعده . إن هؤلاء القوم يقولون إن العشق إنما يعتاده الطبائع الرقيقة والأذهان اللطيفة ، وإنه يدعو إلى النظافة واللباقة والزينة والهيئة . ويشيعون هذا ونحوه من كلامهم بالغزِل من الشعر البليغ فى هذا المعنى ، ويحتجون بمن عشق من الأدباء والشعراء والسراة والرؤساء ، ويتخطونهم إلى الأنبياء . ونحن نقول : إن رقة الطبع ولطافة الذهن وصفاءه يعرفان ويعتبران بإشراف أصحابهما على الأمور الغامضة البعيدة والعلوم اللطيفة الدقيقة وتبيين الأشياء المشكلة الملتبسة واستخراج الصناعات المجدية النافعة . ونحن نجد هذه الأمور مع الفلاسفة فقط ، ونرى العشق لا يعتادهم ويعتاد اعتياداً كثيراً دائماً أجلاف الأعراب والأكراد والأعلاج والأنباط . ونجد أيضاً من الأمر العام الكلى أنه ليست أمة من الأمم أرق فطنة وأظهر حكمة من اليونانيين ، ونجد العشق فى جملتهم أقل مما فى جملة سائر الأمم . وهذا يوجب ضد ما ادّعوه ، أعنى أنه يوجب أن يكون العشق إنما يعتاد أصحاب الطبائع الغليظة والأذهان البليدة ، ومن قلّ فكره ونظره ورويته بادر إلى الهجوم على ما دعته إليه نفسه ومالت به إليه شهوته . وأما احتجاجهم بكثرة من عشق من الأدباء والشعراء والسراة والرؤساء ، فإنا نقول : إن السرو والرياسة والشعر والفصاحة ليست مما لا يوجد أبداً إلا مع كمال العقل والحكمة ، وإذا كان الأمر كذلك أمكن أن يكون العشاق من هؤلاء من أهل النقص فى عقولهم وحكمتهم . وهؤلاء القوم لجهلهم ورعونتهم يحسبون أن العلم والحكمة ، إنما هو النحو والشعر والفصاحة والبلاغة، ولا يعلمون أن الحكماء لا يعدّون ولا واحداً من هذه حكمةً ولا الحاذق بها حكيماً ، بل الحكيم عندهم من عرف شروط البرهان وقوانينه واستدرك وبلغ من العلم الرياضى والطبيعى والعلم الإلهى مقدار ما فى وسع الإنسان بلوغه . ولقد شهدت ذات يوم رجلاً من متحذلقيهم عند بعض مشايخنا بمدينة السلام ، وكان لهذا الشيخ مع فلسفته حظ وافر من المعرفة بالنحو واللغة والشعر ، وهو يجاريه وينشده ويبذخ ويشمخ فى خلال ذلك بأنفه ويطنب ويبالغ فى مدح أهل صناعته ويرذل مَن سواهم ، والشيخ فى كل ذلك يحتمله معرفةً منه بجهله وعجبه ويتبسم إلىّ . إلى أن قال فيما قال : هذا والله العلم ، وما سواه ريح. فقال له الشيخ : يا بنىّ هذا علم من لا علم له ويفرح به من لا عقل له . ثم أقبل علىّ وقال : سل فتانا هذا عن شئ من مبادئ العلوم الاضطرارية ، فإنه ممن يرى أن مَن مهر فى اللغة يمكنه الجواب عن جميع ما يُسأل عنه . فقلت : خبِّرنى عن العلوم أَضطرارية هى أم اصطلاحية ؟ ولم أتمم التقسيم على تعمُّد ، فبادر فقال : العلوم كلها اصطلاحية . وذلك أنه كان سمع أصحابنا يعيّرون هذه العصابة أن علمهم اصطلاحى ، فأحب أن يعيبهم بمثل ما عابوه جهلاً منه بما لهم دونه فى هذا الباب . فقلت له : فمن علم أن القمر ينكسف ليلة كذا وكذا ، وأن السقمونيا يطلق البطن متى أُخذ ، وأن المرداسَنج يذهب بحموضة الخل متى سُحق وطُرح فيه ، إنما صح له علم ذلك من اصطلاح الناس عليه ؟ فقال: لا . فقلت فمن أين عُلم ذلك ؟ فلم يكن فيه من الفضل ما يبين عما به نحوت . ثم قال : فإنى أقول إنها كلها اضطرارية ، ظناً منه وحسباناً أنه يتهيأ له أن يُدرج النحو فى العلوم الاضطرارية . فقلت له : خبِّرنى عمن علم أن المنادى بالنداء المفرد مرفوع ، وأن المنادى بالنداء المضاف منصوب ، أعلم أمراً اضطرارياً طبيعياً أم شيئاً مصطلحاً باجتماع من بعض الناس عليه دون بعض ؟ فلجلج بأشياء يروم بها أن يثبت أن هذا الأمر اضطرارى مما كان يسمعه من أستاذيه ، فأقبلت أريه تداعيه وتهافته مع ما لحق من استحياء وخجل شديد واغتمام . وأقبل الشيخ يتضاحك ويقول له : ذق يابنى طعم العلم الذى هو على الحقيقة علم .
وإنما ذكرنا من هذه القصة ما ذكرنا ؛ ليكون أيضاً من بعض المنبهات والدواعى إلى الأمر الأفضل ، إذ ليس لنا غرض فى هذا الكتاب إلا ذاك . ولسنا نقصد – بما مر من كلامنا هذا من الاستجهال والاستنقاص – لجميع من عُنى بالنحو والعربية واشتغل بهما وأخذ منهما ، فإن فيهم من قد جمع الله له إلى ذلك حظاً وافراً من العلوم ، بل للجهال من هؤلاء الذين لا يرون أن علماً موجود سواهما ، ولا أن أحداً يستحق أن يسمى عالماً إلا بهما .
وقد بقى علينا من حجاج القوم شئ لم نقل فيه قولاً ، وهو احتجاجهم لتحسين العشق بالأنبياء وما بُلوا به منه . فنقول : إنه ليس من أحد يستجيز أن يعد العشق منقبةً من مناقب الأنبياء ولا فضيلةً من فضائلهم ، ولا أنه شئ آثروه واستحسنوه ، بل إنما يُعد هفوةً وزلةً من هفواتهم وزلاتهم . وإذا كان ذلك كذلك ، فليس لتحسينه وتزيينه ومدحه وترويجه بهم وجه بتة ، لأنه إنما ينبغى لنا أن نحثّ أنفسنا ونبعثها من أفعال الرجال الفاضلين على ما رضوه لأنفسهم واستحسنوه لها وأحبوا أن يقتدى بهم فيه ، لا على هفواتهم وزلاتهم وما تابوا منه وندموا عليه ، وودوا أن لا يكون ذلك جرى عليهم وكان منهم . فأما قولهم إن العشق يدعو إلى النظافة واللباقة والهيئة والزينة ، فما يُصنع بجمال الجسد من قبح النفس ، وهل يحتاج إلى الجمال الجسدانى ويجتهد فيه إلا النساء وذوو الخنث من الرجال ؟ ويقال إن رجلاً دعا بعض الحكماء إلى منـزله ، وكان كل شئ له من آلة المنـزل على غاية السرور والحسن ، وكان الرجل فى نفسه على غاية الجهل والبله والفدامة . ويقال إن ذلك الحكيم تأمل كل شئ فى منـزله ، ثم إنه بصق على الرجل نفسه . فلما استشاط وغضب من ذلك قال له : لا تغضب ، فإنى تأملت جميع ما فى منـزلك وتفقدته ، فلم أر فيه أسمج ولا أرذل من نفسك ، فجعلتها موضعاً للبصاق باستحقاق منها لذلك . ويقال إن ذلك الرجل بعد ذلك استخف بما كان فيه وحرص على العلم والنظر .
ولأنا قد ذكرنا فيما مرَّ من كلامنا قبيل الإلف ، فإنا قائلون فى مائيته والاحتراس منه بعض القول ، فنقول : إن الإلف هو ما يحدث فى النفس عن طول الصحبة من كراهة مفارقة المصحوب ، وهى أيضاً بلية عظيمة تنمو وتزداد على الأيام ، ولا يُحس بها إلا عند مفارقة المصحوب ، ثم يظهر منها حينئذٍ دفعةً أمرٌ مؤذٍ مؤلم للنفس جداً . وهذا العارض يعرض للبهائم أيضاً ، إلا أنه فى بعضها أوكد منه فى بعض . والاحتراس منه يكون بالتعرض لمفارقة المصحوب حالاً بعد حال ، وأن لا يُنسى ويُغفل البته ، بل تُدرّج نفسه إليه وتُمرَّن عليه . وقد بيّنا من هذا الباب ما فيه كفاية ، ونحن الآن قائلون فى العُجب .
المصدر
http://www.ziedan.com/index_o.asp
التعليقات (0)