أرواح الشهداء, وجراح الأبرياء, ومعاناة المعتقلين, ومأساة المهجرين, تخزينا إذا لعبنا على الكلمات, وأخفينا جبننا وهروبنا بالتستر تحت الدبلوماسية, فعمدنا لتمرير المصطلحات التي تحمل شتى التفسيرات والاحتمالات, ولجانا إلى الخدع السياسية المحبوكة بحنكة "أبو حنيك", أو الأقل حنكة, أو التي لا حنكة فيها مطلقا ولا مواربة. أو العودة لمكيافيللي في كتابه الأمير, الذي تجاوزه حكامنا, ليس ذكاء ومكرا, وإنما فظاظة وعهرا. كما تجاوزه بامتياز موظفو الجامعة العربية المستندين لإرث من الروتين والشلل في العمل, والخداع والنفاق. ارث عمره أكثر من 60 عاما.
الأمر أيها السادة, حملة الورقة/المبادرة, ليس حربا على أعداء الوطن تقتضي إستراتيجية, والتلون بألوان الحرباء, واستعمال كل ما يخدع العدو, ويلحق أقصى درجات الضرر به وبمصالحه, وفيها استعمال الفنون والخدع العسكرية والمهارة السياسية, و"الظرافة" و"الحذاقة" الدبلوماسية مجتمعة, للوصول إلى الهدف الاستراتيجي: قهر العدو, والنيل منه. كل هذا مشروع ومبرر في مواجهة الأعداء ان واجهونا بمثلها.
ولا هو محاولة حل نزاع مستعص بين دولتين. يتطلب مهاراتكم "وعلومكم" في فن المكر, وحياكة الصيغ الفضفاضة, والتحايل على الكلمات.
الأمر فيما يخص مبادرتكم الحالية,الورقة, المتخلفة صياغة, والمعيبة مضمونا, متعلق بشعب مضطهد عانى عقودا طويلة ليس من الاضطهاد الخارجي وإنما من الاضطهاد والقمع والاستبداد الداخلي (المغطى منكم والمبرر بعرفكم. لا نقصدكم بذواتكم كأشخاص (عين الله عليكم), وإنما كموظفين تنفيذيين لسياسات بلدانكم, وتوجهاتها في جامعة لها خلال تاريخها مواقف اقل ما يقال فيها أنها غير مشرفة). الأمر متعلق بقضية شعب ينزف دما, ومنذ ثمانية اشهر فقط , إن كنتم تتذكرون. فلما الدبلوماسية, ولما المراوغة؟.
الأمر متعلق بشعب سحقه الطغيان عقودا. يطالب بالخلاص. وبالخروج من حالة العبودية والإذلال والمهانة والفساد, لدخول الحرية والديمقراطية من أوسع أبوابها. أمام هذا تدعون الحياد, (يا للغرابة حياد بين الحق والباطل, حياد سلبي في وقت تتطلب الشهامة تسجيل المواقف.) بقي بعضكم, قبل المبادرة/الورقة, بلا رأي, بلا طعم, أو ذوق أو لون. الأمر يا سادة متعلق بشعب قدم من دماء أبنائه الكثير الكثير. ومع أنه لم يكن أول الشعوب الخارجة على طغاتها لتحرير ذاتها, يبقى الأكثر من بين تلك الشعوب تحديا للقتل بالصدور العارية وتقديما للتضحيات بالأرواح البشرية في قرننا هذا. أليس مثل يحرك الضمائر؟.
كفاكم يا أصحاب السيادة والسعادة, بقايا النظام العربي المتآكل والمتهاوي, التحدث بلغة خشبية, لا تقدم ولا تؤخر, ويفهمها جيدا محاوركم الذي عمل بعقليتكم وعملتم بعقليته, والكثير منكم من تلاميذ مدرسته. فانتم أنفسكم ستصبحون, إن لم تكفوا عن بقائكم خارج التاريخ, شعارا تنادي به الشعوب العربية الحرة: الشعب يريد إسقاط هذا الكيان. وتصبحون من التاريخ.
وعليه يخزي الجميع عدم تسمية الأشياء بأسمائها, عدم تسمية: القاتل مجرما. والمحرض شريكا. والساكت على المجرم متواطئا, (وليس فقط شيطان اخرس حسب المفاهيم الأخلاقية). والممتنع عن تقديم يد المساعدة لمنع وقوع الجريمة مجرما "سلبيا". هذه أفعال لا يمكن إدانتها بالدعاء, واستنكارها بالخفاء, والإشارة إليها مواربة في المجالس الخاصة, وترك العقاب عليها للسماء, وإنما هي مُجرّمة بالقوانين الوضعية, ومعاقب عيها بأشد العقوبات من قبل المحاكم الداخلية والإقليمية والدولية. لا تجبنوا عن تسميتها بأسمائها.
ـ بأي وجه وحق تساوي بنود المبادرة/الورقة, صراحة أو موارية, بين القاتل والضحية؟. وتدعو للتحاور بين المطالبين بدولة ديمقراطية وحقوق إنسان, وبين نظام يريد تكريس نفسه ولو دمر شعبا واحرق وطنا, كما يصرح علنا, ليبقى خارج الحرية, معاديا لحقوق الإنسان. نظام, بعد 8 شهور, يصر على تخوين أبناء شعبه ووصفهم مرة بالسلفية, ومرة بالقاعدة, ليستقر أخيرا على وصفهم بعصابات مسلحة إرهابية, تروع العباد, وتنفذ مؤامرة خارجية "كونية", تستهدف سوريا دون غيرها, لان سورية ليست كغيرها. ألا تتساءلون كيف يمكن للمعارضة الحوار معه وهذه هي الذهنية؟. هل لا يدرك ذلك المبادرون العرب؟, وهم من خبره, ووقعوا تحت إرهابه, وصنفهم بخانة المتآمرين عليه وعلى المقاومة, وخارج الممانعة, ومارس عليهم استعلاء, وشكك بروحهم الوطنية وانتماءاتهم القومية.
ـ بأي وجه وحق لا يعطي المبادر العراب, في ورقته المكتوبة وفي التمتمات الشفهية المبهمة,أي اهتمام للمعارضة أو "المعارضات" السورية وكأنها غير ذات صفة, أو هوية.
ـ بأي وجه تطرح الجامعة نفسها, مبادرا بعد 8 أشهر وقفت خلالها موقف المتفرج غير المعني بما يجري من أحداث وصلت أركان العالم الأربع, ولم تصل إلا مؤخرا إلى مقرها في القاهرة عاصمة المعز, وعاصمة الثورة الحديثة المصرية. ومع ذلك "تطلقها", وهي تعلم أنها اعجز من أن تكون ذات كلمة مسموعة, أو صاحبة قرار, أو مأخوذة في الاعتبار. كما تعلم بأنها لا تملك الآليات الفعالة لمراقبة سير المبادرة, وإدانة خرقها, أو السخرية منها بالتحايل عليها, فضلا عن امكانية حرية تنقل المبادرين أنفسهم, وضمان دخولهم وخروجهم بسلام وأمان.
ـ بأي وجه وحق تتستر على كذب النظام ووسائل إعلامه, مصورا المعارضة على أنها عصابات مسلحة, وان مطالبها ليست في حقيقتها إلا مؤامرة خارجية. فبهذا التستر والمسايرة بالسكوت علية تعيد قتل الشهداء مرة أخرى. وتحرض على مزيد من القتل.
ـ بأي وجه وحق يقف أعضاؤها, والناطقون باسمها, ليدلوا بتصريحات بلغة خشبية, تقول بوجوب تقارب الموقفين, وتقديم التنازل المتبادل من قبل الطرفين, وكأننا بصدد وساطة بين دولتين أجنبيتين متحاربتين؟. يا لحصافة كوادر الجامعة المحترمين!!!. إذا افترضنا فيهم فقط حسن النوايا.
ـ بأي وجه وحق, وهي ترى ما ترى من سخرية بمبادرتها, تستمر بإعطاء فرص من "بيت أبيها" للنظام و تواصل مبادرتها, ولا تعلن فشلها وسحبها فورا, وتحميل القاتل مسؤولية أفعاله. (كلمة فورا وردت في أكثر من مكان في المبادرة/الورقة, : سحب القوات من المدن فورا, تنفيذ بنود المبادرة فورا. إطلاق سراح المعتقلين, كل المعتقلين, فورا. وفورا استجاب النظام وارتعدت فرائصه!!!. يا للسخرية, تبقى الجامعة هي الجامعة.), وإدانة الساخرين بها, مكتفية بالدعوة إلى جلسة "طارئة"!!! بعد 8 أيام بالتمام والكمال, بعدها سوف تتدارس وتتشاور وتعود إلى الزعماء, لترى ما يمكن أو ما سوف, أو ما قد تتخذه من مواقف, قد تبلغ في أهميتها حد التلويح بتجميد العضوية, إذا لم يبد النظام حسن نية, وإذا لم يعد بتنفيذ ما جاء في الورقة العتيدة وعودا قطعية. كم هي رخيصة أرواح الأحرار!!!. لا يقلق من اجلها المبادرون قبل انتهاء الثمانية أيام, من اصل الأسبوعين المحسوبين ابتداء من تسليم الورقة للجهات المعنية.
ـ بأي وجه وحق توهمون القوى الإقليمية والعالمية والرأي العام العربي والدولي, بان القضية وحلها بيدكم, وانتم غير أهل حل وربط؟. لبقى الجميع بالانتظار قبل اتخاذ أي إدانة أو قرار أو استنكار.
الم يحن الوقت بعد لهذا الهيكل المتحجر, ليدرك انه لم يعد مقبولا الاستمرار بنفس الأساليب بعد ثورات الشعوب, ولم يعد مقبولا لعب دور العراب في حل الأزمات المصيرية لصالح الحكام على حساب مصالح الشعوب. ولم يعد مقبولا التنطع لادوار اكبر من القامات. وانه لم يعد مستساغا لعب مسرحيات هزلية وأخرى دراماتيكية, لُعبت منذ النشوء والى اليوم, أبطالها أصحاب سمو وسيادة وسعادة منهم من فر, ومنهم من قُتل, ومنهم الملقى على ظهره أمام القضاة, ومنهم من يعاني من القروح, ومنهم من ينتظر. ( بعد أزمة قلبية تعرض لها بيير شوفينمان وزير الدفاع في عهد ميتران وظُنّ انه فقد الحياة, علق مازحا بعد استفاقته من غيبوبته بمعجزة: "دخلت العالم الآخر, وطرقت باب الجنة, فرفضوا استقبالي. ولم يجدوا لي مكانا في جهنم لعم مقدرتها على الاستيعاب. فتقرر إعادتي إلى الحياة الدنيا". لم يخبر عبد الله صالح أحدا عما جرى في رحلته الطويلة إلى العالم الآخر, ولا عن أسباب عودته للحياة الدنيا, مع أنه غير مرحب به فيها مطلقا). تشاتموا, على عين حياتهم, تصايحوا, وهدد بعضهم بعضا, اتهم "تقدميهم" رجعيهم بالعمالة للأجنبي, واتهم "رجعيهم" تقدميهم بالتفريط بالوطن, وبعض اليد الرجعية المناحة في الضائقات والمحن. ومع ذلك تآزر ويتآزر الجميع فيما بينهم لمد يد العون للآيل للسقوط منهم (إلا إذا كفت يدهم يد فوق يدهم), حتى لا ينهار الهيكل على رؤوس الجميع. الم يحن الوقت, والوقت وقت ثورات, أن تغير الجامعة بعضا من تلك الآليات؟.
مبادرة العراب الأخيرة, التي تدخل ضمن هذه السياسات, لم تحاول فقط إعطاء مصداقية لادعاءات النظام بوجود عصابات مسلحة تروع السكان والمدن, وبالتالي تقتضي مسؤولية الدولة التصدي لها بإبقاء الجيش ومختلف تشكيلات قواها الأمنية بما فيهم الشبيحة, في شوارع المدن وطرقاتها وأطرافها, وإنما كذلك شجعت أطرافا "بيمعارضية", أي معارضات بينية, يعارض بعضها بعضا, ومعارضات الموقف بين الموقفين, بين المعارضة والنظام, لتلعب دورا وسطيا, فتوزع مسؤولية أعمال القتل والرعب على متطرفين في النظام ومتطرفين في المعارضة على حد سواء!!!, وتعلن نفسها الحريص الوحيد على الوحدة الوطنية, والرافضة وحدها للتدخل الأجنبي !!!. تصف المتظاهرين في الشوارع بالغباء السياسي والتهور والتطرف. "عقلاء" هذه المعارضة, من الأكاديميين والمثقفين على تعدادهم ومسمياتهم, عارضوا عقودا, ووزعوا ووعودا, وبنوا تحالفات وشكلوا جبهات وانقلبوا على التحالفات والجبهات.. ومع ذلك بقوا مغمورين لا قيمة لهم, ولا وزن لكل "نضالاتهم" وكتاباتهم ومؤتمراتهم, لم يتغيروا, رغم "النضال" ولم يغيروا شيئا. الصيحة الأولى في الشارع, ومظاهرة البداية, أظهرت كم هي عقيمة معارضاتهم. وكم هي عظيمة وفعالة حناجر الثوار الحقييقين وتضحياتهم.
وبما أن السياسة ــ كما يقدم العرابون المبادرون, ويردد معهم المعارضون المذكورون ــ هي فن الممكن, فيجب العمل إذن ضمن هذا الفن وبوسائله. (يا لها من واقعية سياسية!!!). وعليه يدخل في باب العبثية مقارعة الأنظمة القمعية المتجذرة عميقا والممتدة أخطبوطيا في كل الاتجاهات داخليا ودوليا. ومن العبث التصدي لغير الممكن. وتصبح العودة إلى البيوت "عين العقل" والحوار مخرجا وحيدا لإعادة ما لم يكن بالإمكان إلى الإمكان.
ومع ذلك ومع ما قدمته اللجنة الوزارية العربية المبادرة على انه الممكن في فن السياسة, وقبله النظام السوري, بعد مراوغات, على انه ممكن ولكن تنفيذه غير ممكن, يا للتناقض!!. وجدت اللجنة نفسها مجبرة على التغيير من "دبلوماسية" بعض مفردات خطابها, لتستخدم مفردات اقل دبلوماسية, ومع هذا الجهد, لا تسمو إلى الصراحة التي تتطلبها فظائع الجريمة.
أيها السادة, الإسقاط والتغيير هو من الممكن في السياسة, وهو من السياسة. وان ما يُعتبر غير ممكن في رأي هذا السياسي هو ممكن في رأي سياسي آخر, أي أن المسألة خلافية. هل كان يتوقع أحد من "الحكماء" منكم ومن منظري فن الممكن, قبل بداية هذا العام, إمكانية إسقاط أنظمة قمعية شمولية دموية, وطغاة بلغوا في الطغيان عتيا؟.
هل بادر المبادرون لحل الأزمة السورية, لاعتقادهم إن الثورة السورية عبثية وخارج الممكن؟. ورد الثوار إلى الواقعية هو هدف وواجب المبادرين؟. وان الممكن الوحيد هو جلوس النظام والمعارضة حول طاولة الحوار, فعقل النظام حواري, أو سيكون, ولا يعدم إيجاد معارضين حواريين.
إرادة الشعوب, أيها السادة حكماء الواقعية السياسية واللاعبين ضمن الممكن, هي وحدها التي تحدد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. وفن السياسة هو في خدمة هذه الإرادة.
شكر الله سعيكم أيها السادة المبادرون. ميتة ولدت مبادرتكم. ورقة نعي كانت ورقتكم, إكرام الميت التعجيل بدفنه.
د. هايل نصر
التعليقات (0)