العروبة و الإسلام
بالرغم من وجود تيار العولمة القوي الذي يجتاح العالم الآن بكل أسبابه و عوامل وجوده و مقومات المنطقية ، يتجه العالم الآن للائتلاف نحو مبدأ القومية أو العصبية القومية ، و بالذات القومية التي تشمل كم هائل من البشر و الأفراد ، و تمتد على مساحات شاسعة و تنضوي أحياناً تحت لواؤها منظومات دول و كيانات سياسية و مجتمعات عدة . حتى و إن كانت مختلفة أو متباعدة .. يصح في ذلك ، الارتباط أو التماهي مع مفهوم العرق أو الأعراق ( علماً أن العرق هو أحد أسباب و مقومات وجود القومية ) .
و بالرغم مما يشهده العالم الآن في بعض المناطق من صحوة للقوميات الصغيرة أو المحدودة العدد و الكم و المساحة أو تلك التي ترتبط بعرق ثانوي منفصل ، فهذا ما لا يمكن الاعتداد به أو الركون إليه ، كون تلك الصحوات غالباً ما تكون متأتية من منطلق نزعات إنفصالية بحتة ، و خاضعة لتجاذبات و مصالح سياسية . أو كونها ورقة لعب في سياسة الدول الكبرى المسيطرة .
إن ما يمثل الصحوات القومية العالمية الكبيرة .. اليوم و بالأمس القريب ، و بالأخص بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، القومية الروسية أو التركية أو حتى القومية الأمريكية . و لناحية الأعراق ، هنالك مثلاً العرق الأصفر الذي يتمثل الآن بالصين و اليابان و كوريا ( بشقيها الشمالي و الجنوبي ) . أو العرق السلافي المتمثل بروسيا و جوارها . أو ما يعرف بالرابطة الفرانكوفونية الذي تمثله جميع دول العالم الناطفة بالفرنسية أو التي تعم فيها اللغة الفرنسية . و هذه الرابطة تتبناها فرنسا من يومها . أو الأتحاد الأوروبي المجسد بصيغة اتحاد سياسي قريب إلى الفيدرالية و يمثل الروح الأوروبية أو الانتماء الأوروبي .
و يلاحظ أن التعصب الحالي للقوميات المذكورة أعلاه و ما شاكلها و بالأخص في الدول المتقدمة أو القوية ، يتخذ الطابع التعبيري الهادئ البعيد بمجمله عن البهرجة و الخطابات الإعلامية . و لا يتخذ ذاك الضجيج الإعلامي المتوتر أو المتشنج ، المصحوب بمشاكل سياسية و توترات عسكرية و غيرها .
حتى الأمس القريب ، كانت القومية المستندة إلى عناصرها كافة أو بعضها ، هي العامل الفصل في الحراك السياسي و العسكري الذي كانت تتم بموجبه المصالح السياسية بل و حتى الحروب ، كالعنصر الجرماني أو الساكسوني في أوروبة مثلاً . خلال القرون الوسطى و ما تلاها .
حتى إسرائيل التي قامت على نظرية دينية تمثلت بما يعرف ( أرض الميعاد ) المذكورة في التوراة . أعطت الأولوية للصفة القومية على الصفة الدينية في التوصيف الشعبي لليهود ، المذكور في وعد بلفور ، إذ تضمن عبارة ( وطن قومي لليهود ) و ليس ديني . بالرغم من أن كل المعطيات و الدلائل التي تستند إليها إسرائيل و اليهود في العالم ، في قيام دولة إسرائيل ، هي دينية صرف . و الملاحظ أيضاً أن الصهيونية العالمية قد نحت هذا المنحى نفسه و اعتمدت العامل القومي عوضاً عن الديني .
يمكن إيضاً استجرار مثال على اعتماد المفهوم القومي ، و هو مثال كوريا الشمالية . إذ بالرغم من خلافها العنيف مع اليابان ، و حتى أحياناً الصين ، و مع جارتها كوريا الجنوبية ، المدعومتين من الولايات المتحدة الأمريكية العدو الأول لكوريا الشمالية . و بالرغم من التهديد الأمريكي لها . فإن هذه الدول تصر على حل خلاف مشكلة كورية الشمالية داخلياً و لا تسمح أبداً بتهديدها أو ضربها كما حصل مع العراق أو يوغسلافيا . و ذلك فقط من باب التعصب للعرق الأصفر .
بنظري ، هذا فقط ما يفسر التماهي بين حالة العداء التاريخي الشديد لكوريا الشمالية و الولايات المتحدة الأمريكية المصحوب بالتحدي الكوري الشديد اللهجة و الفعل و العلني لأسلحة الدمار الشامل ( كوريا الدولة الوحيدة التي أعلنت بقوة و على رؤوس الأشهاد أنها تقوم بتطوير برنامج نووي و عسكري ) و طردت المراقبيت الدوليين علناً أمام العالم ، و بين عدم سماح اليابان أو كوريا الجنوبية بضرب الولايات المتحدة لكوريا الشمالية . علماً أن الولايات المتحدة قامت بضرب العراق الذي صرح علناً أنه لا يملك أسلحة دمار شامل و أدخل الخبراء و المراقبين الدوليين للتفتيش . و السبب هو .. العرق الأصفر .. .. الخط الأحمر الممنوع الاقتراب منه ..
ربما قد يحدث توتر بين كوريا الشمالية و الجنوبية و بينها و بين اليابان أو الصين . و ربما تحدث صدامات عسكرية . و لكن هذا يبقى ضمن العرق الواحد . اليابان و كوريا الجنوبية حلفاء أمريكا و أصدقاوها و الأعداء السياسيين لكوريا الشمالية ، لن يسمحوا بضربها من قبل غريب عنهم . و سوف تحدث مشكلة عالمية ربما تصل إلى مستوى الحرب ، في حال حصل شيء من هذا القبيل .
أما عندنا .. فيا ويلاه مما عندنا .. أصبحنا نتفنن في التشرذم القومي و تقوية النزعات الإقليمية و اللهجات المحلية و الابتعاد عن كل ما هو قاسم مشترك . و في الوقت نفسه نهاجم العولمة و نعتبرها خطر و غزو ثقافي و ما إلى ذلك . أنا بنظري أن العولمة لا تستهدف القومية بشكل من الأشكال بل هي حالة اقتصادية أكثر منها سياسية . و إذا كانت العولمة تستهدف العالم ككل ، فلا ضير في ذلك .
في الجاهلية و ما بعدها .. برز مفهوم القومية عند العرب بشكل شفاف غامض لجهة التحديد العلمي الدقيق . فهي كانت موجودة كإحساس مباشر يسري في عقل و ذهن الإنسان العربي ، لكن بسكل غير متبلور كفاية . و دل على ذلك الأشعار و بعض عبارات المخاطبة الموجود في الموروث الثقافي العربي القديم .. في الماضي كان العرب يخاطب بعضهم بعضاًَ و يسأل : من أين أنت يا أخا العرب ؟؟ .. لم يبق حي من العرب إلا و عرف بقصة كذا ..
حتى الشعراء العرب بالجاهلية و ما بعد الإسلام قد أدركوا بالسليقة الفطرية لديهم المفهوم القومي العربي . فجاء ذلك الحس القومي في الكثير من أشعارهم و قصائدهم ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
يقول الشاعر أبو ليلى المهلهل أقدم الشعراء العرب المعروفين :
و وائل قد جدت مقادم يعرب فصدقها في صخرها الثقلان
و قال ابن الرومي :
و هكذا هذه الجدود لها أكسير صدق يعرب النسبا
أما الشاعر ابن نباتة السعدي ، فقد قال في خلاف النعمان بين المنذر مع كسرى حين تهدده :
و دعا النعمان حي يعرب فتحامته البيوتات الكبار
و قال أبو تمام أيضاً :
من مبلغ أفناء يعرب كلها إني ابتنيت الجار قبل المنزل
أما الشاعر البحتري فقد قال يفاخر بالعرب و العروبة :
سائل الدهر مذ عرفناه هل يعرف منا إلا الفعال الحميدا
نحن أبناء يعرب أعرب الناس لساناً و أنضر الناس عوداً
( لاحظ عبارة ( نحن أبناء يعرب ) .
أما المتنبي فيقول محذراً بحس قومي عربي و كأنه قد تنبأ فعلاً بالمستقبل و استشرف أبعاده و مجاهله :
و إنما الناس بالملوك و ما تفلح عرب ملوكها عجم
لكن المصيبة الكبيرة هنا ، هي أن بعض العرب الآن في الوقت الحاضر ، ينكرون القومية العربية علناً و بشكل علني و صريح و لا يعترفون بوجودها ، و أنها ضد الإسلام . يخرج لك أحدهم ليكفر و يذم ما أسماه ( دعاة القومية العربية ) ... هل القومية تخالف الإسلام ؟؟؟؟!!!!! عجيب أمرنا نحن العرب ، لماذا نكره قوميتنا إلى هذا الحد و نعتبرها عدو للإسلام و الإسلام عدو لها ، بينما هي و الإسلام صنوان . ألم تقل الآية الكريمة :
[ إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ] ( يوسف 2 ) .
و جاء [ و كذلك أنزلناه حكماً عربياً و لئن اتبعت ..... ] ( الرعد 37 ) .
و أيضاً [ و كذلك أنزلناه قرآناً عربياً و صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون ..... ] ( طه 113 ) .
و أيضاً [ بلسان عربي مبين ] ( الشعراء 195 ) .
و [ قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون ]( الزمر 28 ) .
و [ كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ] ( فصلت 3 ) .
و [ و كذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القـرى و من حولها و تنذر ...... ] ( الشورى 7 ) .
و [ إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ] ( الزخرف 3 ) .
و [ و من قبله كتاب موسى إماماً و رحمة و هذا الكتاب مصدق لساناً عربياً ...] ( الأحقاف 12) .
لاحظوا عبارة ( مصدق لساناً عربياً ) لاحظوا الدعم الإلهي للعروبة ، القرآن مصدق باللسان العربي .
إذا كان الله سبحانه و تعالى يخاطبك و يقول لك أنت عربي .. يقول لك يا عربي . و إذا كان الله تعالى قد زين القرآن الكريم بالصفة العربية ( حسب مبدأ الصفة و الموصوف ) و خاطبنا منبهاً لذلك . فلماذا لا نكون مثل بقية أقوام خلق الله لجهة التمسك بقوميتنا ؟؟!! .
لماذا نضحي بقوميتنا على مذبح الغير بينما الغير عندما يحتلنا أو احتلنا في الماضي ، احتفظ بقوميته كالفرس و الأتراك و العثمانيين و غيرهم ؟؟!!! سبحان الله ، يعني لن نكون مسلمين إلا إذا أنكرنا أننا عرب ، و رب العزة و الجبروت فضلنا بهذه النعمة و كأننا نقول له يا رب لا نريد هذه النعمة .
نزار يوسف
التعليقات (0)