العرجون القديم
كرم الله شغيت
ما برح الإنسان مذ فتح عينيه يتوجس من الزمن ويكن إليه مشاعر الريبة والحذر، فالحاضر الذي يعيشه لا يعني سوى اجتياز صعوباته، والماضي لا يستعيد منه إلا ما حفره الألم بذاكرته، أما الغد فهو الهاجس المؤرق الأكبر له، وقد تجسد هذا الاحساس بوضوح كبير في المنجز الأخير للشاعر عبد الهادي فنجان الساعدي والصادر عن دار المرتضى في بغداد حاملا عنوان (سقوط هوراس). فظهر لنا من خلال هيكلية وبنية الأحداث أن عملية الانتظار قد وقع أثرها على كل من (الغد – القادم )، والمفردات التي شاركت الغد في تحمل أثر وقع الانتظار ولكن بصورة أخف وطأة هي (الرحمة ص/90، الغباء ص/90، السنونو ص/28، النساء ص/83، الفراش ص/83، الموت ص/92)، ويتضح ثقل عملية الانتظار من خلال المفردات التي تبين من يقوم بهذه العملية وهي في أغلبها في صيغة الجمع .ص42( كل الانتظار) ص83 (وأعيننا بانتظار غريب)ص90 (ملايين البشر بانتظار الرحمة ) ص92 (طوابير من المارة بانتظار الخبز).
وقد كان الغد متنوعا في نصوص الديوان فهو موعد لحدث (قتل ص/29 أو رحيل ص/30 أو مجيء القصائد ص/31 أو بزوغ الصاعقة ص/35 أو المضي ص/112 أو البقاء ص/114) وهو دائما ذو صفة معينة( الغد الممسوح ص/32، المذبوح ص/94، المجهول ص/ 20، الحلم الكاذب ص/95، غد الأخبار المفجعة ص/96 ) كما إن من المفارقة اللفظية أن تصف الغد بالماضي ص/89.
وحمل الغد في بنيته الزمنية تأكيدا على وقت معين وهو الصباح، حيث ظهرت جملة (صباح الغد) كثيرا باعتبارها موعد الأحداث التي أشرنا إليها، و جاء الصباح بصفته الوقت الكلي أما الفجر فهو الوقت الجزئي الذي جاء به ملازما لحدث الرحيل ورحيل الفجر لا يتم إلا خلسة دون وداع.
وقد كانت صفة القدوم التي توحي بها المفردات التي تحمل معنى( القـادم) من أهم الصفات التي لازمت الغد حتى لقد بدت أكثر التصاقا به من غيرها فهو في ص/32 (الغد الآتي) وفي ص/94 (سيأتي الغد)، تشاركه فيها الكثير من المفردات التي وصفت بأنها قادمة في نصوص الديوان مثل (هم قادمون ص/59، اللعنة قادمة ، المذابح قادمة ص/84، الربيع القادم ، الجوع القادم، الأجيال القادمة ص/94، الطعنات قادمة ص/95، الحراب قادمة ، البساطيل قادمة ص/102،القناديل قادمة ص/108). وبما أن الشاعر قد جزم بمجيء الغد في أكثر من مكان ص/32/94 فقد اكتسبت صفة القدوم هذه حتميتها بقوله (سيأتي الغد حتماً)ص 92/93، كما إن صفة الحتمية تلك تنزاح تدريجيا إلى كل المفردات التي شاركت الغد بمعنى القدوم، فالتقنية الخاصة لتركيب كل من مفردتي (الغد و القادم)في نصوصها المستقلة لم تكتسب معانيها إلا من جملة الروابط التي تجمعها بغيرها من الكلمات، وهي علاقة تبادل ونزوح تتحرك فيها المفردات من محال معنوية إلى أخرى حسب الدوال التالية:
الدالة الأولى/ ثبوت عملية الانتظار لكل من مفردتي (الغد و القادم).الدالة الثانية/ ثبوت (الحتمية) كصفة ملازمة لمفردة (الغد) وكذلك صفة (القادم) يشاركه فيها عدد آخر من المفردات.وبصيغة رياضية نجد أن المشتقة للدالتين هي انزياح صفة الحتمية من مفردة (الغد)إلى المفردات التي شاركته بصفة (القادم) وهي كما مر معنا (هم، اللعنة، المذابح، البساطيل، الطعنات، الجوع ، الأيام، القادم، الغد) وبالرجوع إلى النصوص التي وردت فيها هذه المفردات وذكر فيها أنها قادمة نجد أن بعضها قد جاء بصحبة مفردة الغد والقادم في قوله ص/94(سيأتي القادم حاملا الحراب و البساطيل/ سيأتي الغد حاملا الحراب واللعنة ) وهذا هو التعميم الذي استعمله الشاعر لنشر هذه الصفة إلى مفردات(الحراب، اللعنة، البساطيل)، فيما أخذ يخصص لتلك المفردات في نصوص أخرى ومنحها صفة القادم بصورة منفردة ص/84(هاهي اللعنة قادمة) و ص/96(هاهي الحراب قادمة) و ص/102 (هاهي البساطيل قادمة)، وباختزال المفردات التي جاءت بالمعية وبقاء المفردة الأم دالة لما معها، تسقط مفردات (الحراب، اللعنة، البساطيل) وتثبت مفردة (الغد) وهي الأصل الذي انزاحت منه صفة الحتمية وهي تساوي مفردة الأيام القادمة، وبهذا التكافؤ في المعاني والدلالات للمفردات الأخرى لا يتبقى سوى مفردتي (هم والجوع).وإذا عدنا إلى الصورتين اللتين ظهرت بهما مفردة (هم قادمون) نجد أن الأولى كانت إيجابية بقوله في ص/59(هاهم قادمون بكل الأسلحة) والثانية سلبية ص/84 (هاهم قادمون وليس من حماس/ إننا بقايا هياكل نخلية) ورغم أن ظاهر الصورة الأولى هو القوة (الإيجابية) لوجود مفردة الأسلحة إلا أن دلالة حمل الأسلحة يمكن أن نرجعها إلى معنى سلبي هو الخوف والحذر وهو مرادف لمعنى الخواء الذي تحمله المفردة المتبقية(الجوع)، وقد تجسد هذا الخواء في الصورة السلبية الثانية في مفردة (وليس من حماس ) و (بقايا هياكل نخلية ). وبهذا الاختزال نجد أن النصوص تميل إلى أن تصف الغد القادم بالخواء حين ألبسته صورة العرجون القديم.
كما حملت مفردة (الغد) في بنيتها اللغوية صيغتين اعتمد الشاعر في الأولى المفردة المعرفة بالـ (الغد)،وهي إشارة إلى تأكيد خصوصية البنية الزمنية التي أشرت إليها في البداية، فيما جاءت الصيغة الثانية معتمدة (التنكير)في قوله ص/96(فما من غد غير غد الأخبار المفجعة) وص/35 (فعلَّ غدا تبزغ الصاعقة) وفي ص/112 (غداً أيها الحالمون /سنمضي إلى ربوة الحزن) وفي ص/(سنبقى غدا شاهرين اليد المغلقة) وفي ص/113(غدا أيها المستحيل نغني نشيد الفراتين). ومعلوم أن صيغة (التنكير) تستخدم لتعظيم الأمر ففي قوله تعالى( وَلْتنظُرْ نَفسٌ مَا قَدّمتْ لِغَدٍ ) قيل في تفسيره أنه عنى به يوم القيامة وقد جعله نكـرة لتعظيم أمره.كما استعمل مفردة (الصباح) لتوقيت الحدث الايجابي، يقول في ص/114 (عصيا على الموت تبقى كنجم الصباح) وأيضا(ولكني أراك كنجم الصباح /ستطلع بعد صراع طويل) وفي ص/111(سيبزغ هذا المرد /زنابق كل صباح) ، فيما اقترنت جملة (صباح الغد )بالحدث السلبي يقول في ص/30(في صباح الغد نرحل/ليس من أنثى تودعنا) وفي ص/29 (في صباح الغد أقتل).إن لتكرار ورود الأحداث السلبية في النصوص علاقة شديدة بتأكيد معنى الخواء الذي أشرت إليه سابقا، والذي نجده أيضا من خلال تحليلنا لمفردة (الأمس) المعاكسة لمعنى (الغد)، فالأمس لم يكن سوى (العمر الضائع) الذي تكرر السؤال عن ضياعه في ص/41وصريره في الأعماق كسكين تلوّى. أو هو المجد القديم الضائع ص /56 الذي يرغب أن يعيده ص/65.وربما كان (الأيام المنزوعة من ذاكرة الإنسان) في ص/61والتي لا نعلم هل انتزعت بالقوة أم انتزعها هو بإرادته كي ينسى ما فيها من ألم، تلك الأيام قد تكون الأمس المؤلم أو الذكريات التي إن كان فيها ما تحن إليه النفس رغب بعودتها فهو يقول في ص/64 (أبعثوا إلينا بقليل من الذكريات ) وذلك القليل ليس إلا الصفات المحببة إلى نفسه ص/106 والتي يفتقدها ص/86 (ها قد انتهى زمن الشجاعة والمروءة والكرم/لم تعد سوى ذكريات لزمن سحيق). فيما نرى في ص/78 أن الأيام لم تنزع لوحدها من الذاكرة بل حتى الوجوه فهو يقول (وأنا أبحث في ذاكرتي/ عن وجه راح ولم يرجع) ويعلل ذلك بقوله ص/81 (وذاكرتي قد عراها الذبول ). وفي ص/69 لم يكن الأمس إلا كآبة شديدة وهو اليوم أشد من الأمس كآبة. وهكذا نلمس من مفردات مثل (الضائع، انتهى، راح ولم يرجع، الذبول، الكآبة)، تأكيدا آخر لمعنى الخواء الذي أحالته النصوص إلى المعنى المشار إليه في العنوان.
وإذا كان لنا الغد في يوم من الأيام ميقاتا لكل الوعود الجميلة، نراه اليوم وقد أصبح ماضيا من غير أن يتحقق أي منها، يقول في ص/92 (هاهو الغد قد مضى /بعد أن حمّلنا باليأس والفجيعة). إن الشاعر هنا يعمد إلى سلب صفة القدوم من الغد بعد أن أثبت حتميتها في البداية، وليس أدل على ذلك من عناوين قصائده (الغد الماضي، الغد المذبوح) والتي تشي بخواء فكرة انتظار الغد وما سيحمل معه من إيجابيات، وهو في مجمله تجسيد للسقوط الذي تحدث عنه الشاعر اليوناني القديم (هوراس) في الأبيات التي تصدرت الديوان.
التعليقات (0)