العرب … نظرة شمولية و استخلاص
لقد برهنت الأحداث الحاصلة في التاريخ العربي ، أن الأمة العربية قديماً وحاضراً ، تأثرت ظروفها التاريخية بثلاثة عوامل أو مفاهيم وهي ، الدين .. القومية .. السياسة .وهذه العوامل أو المفاهيم الثلاث كانت دوما ً تحدد سير الأحداث والمراحل والظروف التاريخية التي كانت ولا تزال تمر بها الأمة العربية ، وذلك من خلال تفاعل تلك العوامل والمفاهيم مع بعضها البعض ومن خلال طريقة تعامل الإنسان العربي معها ووعيه لها ، كل ذلك كان يحدده نظرته ومفهومه لها وتأثره بها .
ودراسة علاقة تلك الأحداث بالأمة العربية والإنسان العربي هي علاقة شائكة ومعقدة جداً ، لأنها علاقة متبادلة . ومتداخلة ، فهي علاقة مؤثرة ومتأثرة بنفس الوقت ، فالإنسان العربي تأثر بتلك العوامل والمفاهيم من خلال نظرته ومفهومه لها ، وأثر هو فيها أيضاً من خلال مفهومه ونظرته لها ، وهنا تكمن صعوبة دراسة ومناقشة آلية وسير تلك العلاقة بين الإنسان العربي وبين هذه المفاهيم وتحديدها بشكل دقيق .
فمفهوم الدين الذي جاء إلى الإنسان العربي في الجزيرة العربية قد أثر على الإنسان العربي وغير من تقاليده وعاداته ، وذلك من خلال تقبل ذلك الإنسان لهذا الدين ونظرته إليه . وهو أيضاً من خلال تقبله للدين ونظرته إليه أثر هو الآخر فيه بمقدار ما تقبله وتفهمه ونظر إليه . فنظرة الإنسان العربي وتقبله للدين ، لم تأت من العدم بل جاءت من خلال تفاعل ذلك الإنسان مع تقاليده القديمة وتأثره بها ، وبالتالي فقد أثر هو أيضاً بالدين من خلال نظرته ومفهومه المتأثر بتلك العادات والتقاليد ، بالرغم من أن الدين قد ألغاها أو بدلها بعادات أخرى أو غير في بعضها الآخر .
كذلك الأمر بالنسبة إلى السياسة ، حيث أن الإنسان العربي قد تأثر بها قبل أن يعرفها ويدركها تمام الإدراك ، ونتيجة لذلك أثر هو الآخر فيها من خلال طريقة استخدامه لها حتى بدون أن يدركها تمام الإدراك ويعرف ماهيتها بشكل كامل . وبمعنى آخر فإن الإنسان العربي حتى عندما عرف السياسة وأدركها فيما بعد ، فإن ذلك نتج عن تأثره بها وعدم شعوره بذلك من قبل عندما كانت غير منظورة بالنسبة له .
أما بالنسبة إلى القومية العربية والتي لم يظهر أثرها وتأثر الإنسان العربي بها بشكل كامل إلا من خلال القرن الحالي فقد أثرت هي أيضاً في سير أحداث الأمة العربية وذلك من خلال نظرة الإنسان العربي لها وتأثره بها ، وتعامله معها حتى منذ فترة ظهور الإسلام وإلى الآن .
وهذا التأثر والتأثير المتبادل بين الإنسان العربي وبين تلك المفاهيم كان أحد أهم الأسباب والعوامل التي صنعت الأحداث والوقائع التاريخية العربية .ومن خلال مناقشتنا في الفصول السابقة من هذا الكتاب ، نستطيع أن نلاحظ أن الآلية أو الديناميكية التي ألمت بالأمة العربية كان سببها هو المزج والتفاعل بين تلك المفاهيم وطريقة تعامل الإنسان العربي معها . فالقومية العربية التي لها الأثر الكبير والأساسي في حماية الأمة العربية والأرض العربية من التفكك والانهيار وذلك من خلال معرفة الإنسان العربي لها وإدراكه لماهيتها وبالتالي تعامله معها . لها أيضاً أثر عكسي ، فإذا كان الإنسان العربي محافظاً على قوميته العربية ويعمل لأجلها ومتمسكاً بها فإن ذلك لا بد سيعصمه من الضعف والعجز والصراع الداخلي والخضوع للأمم والشعوب الأخرى .
وبما أن الإنسان العربي حينها لم يكن يدرك القومية العربية تمام الإدراك ولم يكن مهتماً أو مكترثاً بها فقد دفع ثمن ذلك غالياً ، من خلال كيان أمته ووجودها ووحدتها واستقلالها وذلك كله كان نتيجة المزج الخاطئ بين القومية والدين والسياسة وذلك عندما اعتقد أن الدين هو القومية أو اعتبار القومية ضد الدين . ورأينا أيضاً أن الدين كان له أيضاً أثر كبير في توحيد الأمة العربية ، ولكن نتيجة للممارسات الخاطئة للإنسان العربي ، أصبح الدين عاملاً وسبباً رئيسياً من أسباب تدمير الأمة العربية وانحطاطها وخضوعها للأمم والشعوب الأخرى التي استعمرتها واحتلتها قروناً طويلة عديدة . وذلك كله كان أيضاً نتيجة المزج والفهم الخاطئ للقومية والدين والسياسة .
ورأينا أيضاً كيف أنه كان للسياسة دور أساسي وهام في سير الأحداث والوقائع العربية ، ولكن ونتيجة لعدم إدراك المفهوم السياسي وقتها تمام الإدراك ونتيجة للتعامل والمزج الخاطئين بين السياسة والدين فقد أدى ذلك أيضاً إلى ظهور الخلافات والصراعات الدينية وانقسام الشعب العربي إلى طوائف وفرق ومذاهب دينية وسياسية متناحرة ومتعارضة .
من خلال ما تقدم يظهر السؤال التالي : ما هي علاقة تلك المفاهيم الثلاث ( القومية والدين والسياسة ) ببعضها البعض ، هل علاقة توافق وانسجام ، أم علاقة تنافر وتضاد ، وهل وجود واحدها ينفي وجود الآخر ، وما هو موضع كل واحد منها من الآخر ، وهل يوجد تداخل ونقاط مشتركة فيما بينها أم أنه لا يوجد أي نقاط مشتركة أو متقاطعة ؟ .
إن إلقاء نظرة عقلانية ، تحليلية شاملة وتاريخية على تلك المفاهيم الثلاث ومن خلال ما تناولناه بالدراسة عنها تبين لنا أن هذه المفاهيم الثلاث الدين والسياسة والقومية لا تجتمع مع بعضها البعض أبداً ولا يوجد أي نقاط التقاء أو تقاطع فيما بينها ، كما أنها لا تخضع لبعضها البعض ، ولا يجوز إخضاع أحدها للآخر ، وهي بالرغم من كل ذلك ، لا تنفي بعضها البعض ، ووجود أحدها لا ينفي وجود الآخر أو يتعارض معه .
وهذه المفاهيم أيضاً لا يمكن لإحداها أن يحل محل الآخر أو يغني عن وجوده ، وهي ليست متعارضة مع بعضها بمعنى التعارض المجرد ، ولكن لكل منها قوانينه الخاصة وصفاته المتعلقة به والتي تلازمه هو وحده فقط ولا يمكن أن يتصف بها مفهوم آخر غيره . واجتماع هذه المفاهيم الثلاثة واختلافها هو معيار تطور الدول وتقدمها ، قوتها وتخلفها .
وفي العصر الحالي إذا أردنا أن نورد الشواهد فلا بد من إضافة عنصر أو مفهوم جديد وهو الاقتصاد ، وذلك لكون هذا العنصر قد أخذ يؤثر في المسارات والأحداث التاريخية للأمم والشعوب ، ومنها الأمة العربية ، منذ بداية الثورة الصناعية وحتى الآن ولذلك لا مجال من عدم تجاهل المفهوم الاقتصادي في سياق الدراسة والتحليل .
ففي البلدان المتقدمة والتي هي حالياً البلدان الرأسمالية نجد إذا نظرنا إلى العلاقات المجتمعية ، أن هناك انفصالاً تاماً بين هذه المفاهيم الأربعة ، كما أنه لا يوجد هناك خضوع أي مفهوم منها للآخر . أما في البلدان التي كانت تمثل فيما مضى وإلى وقت غير بعيد المحور إلى الاشتراكي ، فسوف نجد أن هناك انفصالاً بين الدين وكل من الاقتصاد والسياسة وذلك الانفصال تجلى في نفي مفهوم الدين من المجتمع نفياً تاماً بحيث أصبح لا وجود له . وهذا بطبيعة الحال يعني منطقياً أنه لا يوجد اجتماع بين الدين وبين السياسة والاقتصاد والقومية . ولكن وجد هناك اجتماع أو إخضاع لمفهوم السياسة والاقتصاد . أو ارتباط كلي .
إن هذه الدول التي اعتمدت هذا المنهج كنظام لمجتمعاتها ، قد وصلت إلى درجة من الرقي والتقدم ، ولكن رقيها وتقدمها هذا بقي ناقصاً ، ووصل إلى حدود معينة وقف عندها ، وهذا ما حصل عندما وصلت تلك البلدان إلى مرحلة لم تستطيع فيها أن تتابع تطورها ، بل وحتى عندما كانت في أوج قوتها وتقدمها ، كان لديها هناك أمور ومجالات عديدة بقيت فيها متأخرة عن الدول الغربية التي نهجت منهج الفصل بين تلك المفاهيم . فشعوب هذه الدول التي اتبعت النهج الاشتراكي قد تطورت وبلغت درجة معينة من التقدم ، وذلك بالسلاح وبعض مجالات العلوم التطبيقية والصناعية وفيما عدا ذلك بقوا متأخرين ، وهم قد أدركوا هذا الشيء فيما بعد ولذلك وصل بهم الأمر إلى أن يسقطوا مبادئهم الشيوعية ونظرياتهم الاشتراكية ويتخلوا عنها ويستبدلوها بالنظام الاقتصادي الحر أو ما يسمى بنظام السوق الحر ، أي بمعنى أنهم قد فصلوا الاقتصاد عن السياسة .
والمفهوم الثاني الذي اصطدموا به أيضاً والذي أدى إلى مشكلات وحوادث وحروب جديدة ، هو المفهوم القومي ، حيث أنهم كانوا قد ألفوا أيضاً مفهوم القومية وأخضعوه لمبادئهم ونظرياتهم السابقة ، ودمجوا أو حاولوا أو حاولوا أن يدمجوا جميع الشعوب التي خضعت لمبادئ الاشتراكية والشيوعية سواء بالحروب أو القوة ، أو آمنت بها من تلقاء نفسها ، إلى قومية واحدة ، هي القومية السوفيتية أو ما كان يعرف سابقاً بالاتحاد السوفيتي . ولذلك فما أن بدأت بوادر الحرية تظهر في الاتحاد السوفيتي ومنها حرية التعبير ، حتى أخذت الدول التابعة للاتحاد والتي لها قومية غير القومية الروسية تطالب بالانفصال والاستقلال كأرمينية وأوكرانيا والبلطيق والشيشان وغيرها ، ونشبت لذلك حروب أهلية وصراعات منها ما زال متفجراً إلى الآن . ولعل قضية البوسنة والهرسك في يوغسلافيا السابقة وما نتج عنها من حروب أهلية ومجازر كبيرة ، والتي أخذت الجانب الديني والقومي معاً ، لهي خير دليل على استحالة إخضاع المفهوم الديني أو القومي لأمور وقضايا سياسية .
أما البلدان النامية أو ما يسمى بلدان العالم الثالث فإننا نرى إذا نظرنا إلى العلاقات الاجتماعية والنظم السائدة فيها ، أن هناك ربطاً بين السياسة والدين والاقتصاد . والقومية وجميعها متداخلة مع بعضها وتخضع إما للمفهوم الديني أو المفهوم السياسي ، أو الاثنين معاً ، وهذا الأمر نراه بشكل خاص في البلاد الإسلامية وبشكل أخص في البلاد العربية ، فهي قد دمجت بين هذه المفاهيم جميعها وأخضعتها لبعضها البعض ، وجعلت منها مفهوماً واحداً ، وهي ما زالت إلى ألان مستمرة في هذا النهج . فمعظمها حتى الآن لم يراع للقومية العربية حقها ، وهي بتشتتها وانفصالها عن بعضها البعض بالرغم من كونها شعب واحد وأرض واحدة ولغة واحدة ، لا تعترف بمبدأ القومية العربية الذي من أساسه وأهم مقوماته الوحدة العربية والاندماج والتضامن العربيين . وبالتالي فهي أسيرة الضعف والعجز والتخلف ، وخاضعة لهيمنة وسيطرة الدول والأمم الأخرى المتقدمة . وهذا الأمر ينطبق أيضاً على المفهوم السياسي والديني حيث هما مرتبطان في البلاد العربية .
وهناك أيضاً بعض البلدان النصف متقدمة والتي فصلت بين الاقتصاد من جهة وبين الدين والسياسة من جهة أخرى كالهند والباكستان مثلاً ، فهما دولتان متقدمتان في الصناعة بعض الشيء وتقومان بعمليات تصنيع محدودة ولهما إمكانيات صناعية معينة ، ولكنهما يبقيان دولاً غير متقدمة تكنولوجياً لأن المفهوم الديني خاضع ومرتبط بالمفهوم السياسي .
وإسرائيل مثلاً تأخذ أيضاً نفس المنحى ، فهي كيان سياسي قائم على الدين والسياسة مرتبطة بالدين وخاضعة له بشكل غير مباشر بالرغم من قوة النظام العلماني فيها ، ولذلك فهي وإن كانت متقدمة في بعض المجالات العلمية ، فإنها تبقى قائمة على الهبات والمساعدات الخارجية . وإذا أخذنا دولة جنوب أفريقيا كدولة حديثة الوجود فهي هنا تمثل حالة غير حالة إسرائيل ، لأن النظام المجتمعي فيها ، قد فصل بين الدين والسياسة والاقتصاد والقومية . ولذلك يبقى اقتصادها قوياً بالرغم من أنها شهدت اضطرابات عرقية عنيفة جداً ، وتعرضت للخطر وقطع المساعدات عنها مرات عديدة .
إن تفسير حتمية الانفصال بين القومية والدين والسياسة والاقتصاد ، ينطلق من أن أصول ونظم وقوانين هذه المفاهيم ، مختلفة عن بعضها تماماً ، ولا يوجد بينها تقاطع أو تطابق ، بحيث يسمح لأحدها بالحلول مكان الآخر أو الاتكال عليه ، فعلم الاقتصاد ليس تعاليم إلهية أو قوانين حربية أو سياسية . كما أن الدين ليس علاقات مالية ونظريات اقتصادية أو قوانين ومبادئ سياسية . والسياسة أيضاً ، ليست تعاليم دينية أخلاقية وضوابط منهجية ونظريات اقتصادية كذلك القومية ، إنها ليست تعاليم دينية أو نظريات اقتصادية أو مبادئ سياسية ، إنها علاقة انتماء بين الإنسان والأرض ، وبمعنى أدق بين الجماعة والوطن ، وهي علاقة ظهرت منذ نشوء وقيام الأمم والشعوب ، وفرضت نفسها من منطق أنه لا يوجد أرض وشعب بدون قومية .
إذاً فلكل مفهوم من هذه المفاهيم مجاله الخاص ووجوده بين البشر ، ولكل منها طابعه الخاص الذي يميزه عن غيره ، فالقومية تحمل الطابع المعنوي الحسي ، والدين الطابع الروحي ، والاقتصاد الطابع المادي ، والسياسة الطابع ….. السياسي . فلا يجوز الجمع والخلط بين مفهوم وآخر ، فكيف يمكن مثلاً لرجل الدين أن يكون بنفس الوقت رجل أعمال أو وزيراً أو عسكرياً أو سياسياً ، كيف يمكن أن يكون رجل الدين الذي يعظ الناس في بالمساجد أو الكنائس أو المعابد ، أن يكون رجل أعمال يتابع المضاربات المالية وكساد السوق والعرض والطلب والبورصة ، إلى ما هنالك ، وكيف يمكن أن يكون دبلوماسياً أو سياسياً ، يدخل في مناورات ومتاهات وحيل السياسة . وكيف يمكن لرجل الأعمال أو السياسي أن يطلق لحيته ويذهب ليجلس في الأماكن الدينية ويعظ الناس ويوجههم ويفتي لهم . هذا الكلام غير منطقي ، وحتى فكرة التعامل به غير سليمة تماماً ، ولكن هذا لا يعني أن رجل الاقتصاد أو السياسة هو أقل مرتبة أو أخلاقاً من رجل الدين . أو أن الاقتصاد أو السياسة هما أخلاقياً ضد الدين . ولكن القضية هنا هي أن طبيعة الانفصال ، تفرضها فكرة أن السياسة والاقتصاد كمفهومين أساسيين سيأخذان حتماً ولزاماً مداهما وسيفرضان بشكل إجباري الصفات والميزات التي يحملها طابع كل منهما على البشر ، لا مناص من ذلك . وهذا ما حصل من خلال اندماج المفهوم الديني والسياسي للدولة الإسلامية . وما تلا ذلك من عصور لاحقة .
فمن المستحيل الجمع بين مفهومين من تلك المفاهيم ، دون أن يتأثر أحدهما بالآخر ، إذاً فالعلاقة بين تلك المفاهيم الأربعة هي التي تحدد وترسم الخط البياني لمجتمع ما أو أمة من الأمم ، وذلك من حيث التقدم والتطور أو التخلف والانحطاط ، أو من حيث الاستقرار والتماسك ، وذلك كله يعتمد على وعي ذلك الشعب أو أفراد هذا المجتمع لتلك العلاقة ، والإدراك الواضح والسليم لكل مفهوم من تلك المفاهيم وكيفية التعامل معه .
من هذا المنطلق سنحاول إيجاد ركيزة ما لنبدأ منها في مناقشة الحلول البناءة والبحث عنها من خلال تلك المفاهيم الأربعة طالما أنها تحدد بعلاقتها وتفاعلها مع بعضها البعض مصائر الأمم والشعوب في العالم ، منذ بدء التاريخ وحتى الآن ، في البداية لا بد من القول بأن تقدم كل أمة أو شعب مرتبط بانفصال هذه المفاهيم الأربعة عن بعضها البعض وعدم تبعية أحدها للآخر ، ولذلك فإنه لا بد لكل أمة أو شعب يريد التقدم والتطور والقوة والوحدة ، من أن يفصل هذه المفاهيم الأربعة عن بعضها البعض ويتعامل معها إفرادياً وحسب خاصية كل مفهوم منها وميزاته التي تؤثر على تلك الأمة أو ذلك الشعب. وبما أننا قد تحدثنا عن المفهوم الديني والسياسي بشيء من التفصيل فإننا سننظر الآن إلى المفهوم القومي بمعناه العام كونه المفهوم الأشمل والأكثر اتساعاً واستيعاباً لباقي المفاهيم وكونه أيضاً يتميز بحساسية وأهمية كبيرة بالنسبة لنشوء وقيام الأمم واندثارها من التاريخ أو الوجود بشكل عام .
وبالنسبة للأمة العربية ، تلك الأمة العريقة ، الضاربة بجذورها في تراب التاريخ العميق والموغل في القدم ، منذ عهد عاد وثمود ومنذ عهود العرب البائدة وحتى الآن . وبكل ما تعرضت له من تغيرات وهزات ، استطاعت أن تحافظ أو على الأقل أن تبقي على هويتها وأصالتها ، وأن تقدم هذا الكم الهائل من التراث والحضارة ، وإن كانت في الوقت الحالي غير فعالة ونشطة في حقل الحضارة العالمية والأممية ، فإنها كانت في وقت من الأوقات ، ولو لفترة قصيرة المنارة والسراج الذي يضيء الظلام في العالم . وبالنسبة لتلك الأمة فإن القومية العربية هي التي تجسد وتمثل الحل النهائي لخلاص العرب ، من ذلك التاريخ المظلم والانطلاق نحو غد مشرق واعد ، والحلول في المكان الملائم والحيز المناسب بين القوميات العالمية الرائدة .
إن العالم اليوم ، مع ما يحصل به من متغيرات وتحولات جذرية سواء في الأنظمة أو الحكومات أو في العقائد والآراء ، هو عالم القوميات والأمم المتقدمة المتحضرة ، الأمم القوية والمتحكمة وعالم اليوم يشهد سباقاً محموماً بين مختلف المجتمعات والأمم ممثلة بدولها وحكوماتها ، كالولايات المتحدة الأمريكية ، والصين وروسيا ، وأوروبا التي تسعى الآن إلى الاندماج والوحدة ، واليابان وباقي الأمم والمجتمعات ممثلة أيضاُ بدولها وحكوماتها والتي وإن كانت أدنى مرتبة ، فإنها تسعى إلى احتلال ولو مكانة معينة في العالم .
وطبيعي أن هذا التسابق مع ما يرافقه من التغيرات والتحولات ، لا بد سيؤدي في النهاية إلى عملية فرز في مراتب تلك الأمم والمجتمعات من حيث الصدارة ، وبالتالي ستكون هناك أمم رائدة مسيطرة ومتحكمة في تصريف شؤون هذا العالم ، وأمم تحت السيطرة ، خاضعة وتابعة للأمم القائدة بشكل مباشر أو غير مباشر . سيكون هناك أمم متقدمة علمياً وتكنولوجياً وحضارياً ، وأمم متخلفة متأخرة متعلقة برواسب الماضي المظلم العفن . أمم غنية مترفة وأمم فقيرة بائسة.
إذاً فالتنافس بين الأمم والدول والمجتمعات سيؤدي إلى التصنيف فيما بينها . والتنافس العالمي اليوم هو تنافس ذو بعدين ، علمي وتكنولوجي ، واقتصادي مالي . فجميع الدول الكبرى اليوم تتنافس في هذين المجالين لتحقيق القوة والزعامة ، والسيطرة على أمور ومقدرات هذا العالم . فالعلم والتكنولوجيا هما من أهم عوامل تطور الدول وقوتها سواء من الناحية العسكرية ، أو غيرها من نواحي الحياة كالرفاه الاجتماعي وإشباع الحاجات البشرية الإنسانية .
والاقتصاد هنا أيضاً ، يعد العامل الرئيسي من عوامل رقي الدول والمجتمعات وتحضرها وتأمين كافة مستلزمات أمورها المعيشية .
وفي خضم هذا التنافس الذي هو في المحصلة تنافس حضاري يظهر بشكل محتم التصنيف والترتيب بين تلك الأمم والمجتمعات وهذا التصنيف هو في النهاية تصنيف قومي ، فعندما يتم التصنيف على أساس القومية ونقول مثلاً : إن أمريكا أو الصين أو أوروبة أو روسيا أو الكونغو أو زائير هي دول متقدمة أو متأخرة ، نستنتج من سياق هذا الكلام نتيجة هامة جداً وهي …. التنافس الحضاري يؤدي إلى التصنيف القومي . ونستطيع بسهولة أن ندرك ذلك من وثيقة التاريخ منذ نشوء الحضارات الإنسانية وحتى الآن ، فقد كان هناك دائماً علاقة وثيقة ومتبادلة بين القومية والحضارة . إذاً فالقومية هنا تحمل بعدين أساسيين البعد الأول هو أن القومية هي ماهية الأمة ووجودها على الأرض ، والبعد الثاني هو أن القومية هي أيضاً معيار تقدم تلك الأمة أو تأخذها ، قوتها أو ضعفها ، وحدتها أو تشتتها .
إن القومية كماهية للأمة هي أصل هذه الأمة وكيانها ووجودها والمحور الذي تدور حوله عوامل ومقومات نشوء وقيام الأمم وهي اللغة والأرض والجنس والتاريخ ، وهذه المقولة لا تصح إلا إذا تحولت إلى واقع حي و ملموس ومجسد ، كما هو في العرف والأصل والمنطق . وهذا يعني أن القومية العربية كماهية للأمة العربية ، وكينونة لها ، يجب أن تتحول من المنطق النظري الفلسفي إلى الواقع العملي ، وهذا التحول يجب أن يحمل معه قيماً ومثلاً إنسانية عليا ، كونه عملية تحويل بناءة وخلاقة ، للعنصر البشري فيها دور أساسي لأنه من المفترض أن يتجه إلى الجانب الحضاري الإنساني الخير والخلاق . وعندما لا يتم هذا التحول أو يفشل لأسباب وظروف داخلية من أبناء الأمة نفسها ، أو أسباب خارجية من أمم أخرى ، فإن تلك الأمة تكون قد حكمت على نفسها بالفناء والزوال.
فالقومية كمعيار لتقدم الأمة أو تأخرها ، لقوتها أو ضعفها ، هي السعي لإعلاء كينونة هذه الأمة وماهيتها إلى أفضل مرتبة وأسماها ، وذلك بتسخير الجهد البشري المادي والعقلي مقروناً بالوعي والمعتقد القومي لذلك الغرض ، فلكل أمة من الأمم خصائص وإمكانيات خارقة ، طبيعية أو معنوية ، وهبتها إياها العناية والحكمة الإلهية وهذه الخصائص والإمكانيات تكون إما فردية ، أي تتجلى في أفراد بعينهم ، أو تكون جماعية ، لا تتأثر إلا في حال وجود جماعة ، أو تكون طبيعية ، كالمناخ والثروات الطبيعية والموارد الباطنية . وتضافر كل تلك الجهود والسعي بها نحو الأمام ، ستبلغ الأمة مكاناً متقدماً ومركزاً عالياً في الرقي والتحضر العالميين ، وذلك بشرط توافر البعد الأول للقومية ألا وهو كونها ماهية الأمة وكينونتها ، ويكون بذلك تقدم الأمم يستلزم البعدين معاً ، وبالذات البعد الأول وهو الماهية والكينونة ، لأن عوامل ومقومات وجود الأمة كائنة به ومتأتية منه .
ووجود هذا البعد ،لا يستلزم البعد الثاني بالضرورة ولكن البعد الثاني لا بد له من وجود البعد الأول ، فإذا كان البعد الأول غير موجود ، فإن البعد الثاني هو حتماً غير موجود ، بينما إذا كان الثاني غير موجود ، فإن ذلك لا يستلزم عدم وجود الأول ويبقى في النهاية الدافع والمحرك لكل ذلك ، هو إيمان الشعب بقوميته واعتقاده بوجدها وإخلاصه لها ، ويقينه بأن ذلك هو من أهم عوامل وجوده كشعب له أرض وتاريخ وتراث ، وله الحق في تقرير مصيره ، وأن ذلك حق واجب ، عليه أن يؤديه ويقوم به.
من هنا نستطيع أن ننطلق في تحديد آفاق وأبعاد الوضع العربي العام بشقيه الحالي والمستقبلي ، وذلك بعد أن تطرقنا إلى مناقشة الوضع العربي في الماضي . فأبعاد الوضع العربي تحدد الحالة الراهنة للأمة العربية بينما الأفاق تعطي تصوراً مستقبلياً وذلك بناء على ثبات أبعاد الوضع الراهن أو تغيرها .
نزار يوسف
التعليقات (0)