العرب يخسرون بلداً آخــر
تخلف وفقر الجنوب مدخل سهل لإسرائيل
الأسبوع الماضي قام وزير الموارد المائية والري في دولة جنوب السودان الوليدة بزيارة إلى إسرائيل كان يمكن أن تمر بشكل عادي لولا ما قاله الوزير وما قام به خلال الزيارة التي تأتي في إطار التعاون المتنامي بين الطرفين منذ انفصال الجنوب عن الشمال، وربما قبل ذلك. فدلالات تصريحات الوزير السوداني الجنوبي خلال توقيع اتفاقية للتعاون في مجالات المياه والزراعة والبنى التحتية ومع هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية، تصل إلى أبعد من السودان بكثير، وتعني كل العرب أو غالبيتهم بشكل عميق، لكن الكلام مر مرور الكرام رغم أهميته وانعكاساته الآنية والمستقبلية. فما الذي قاله الرجل؟
الوزير الجنوبي بول مايوم أكيك تبادل الكلمات مع وزير الطاقة والمياه والبنى التحتية الإسرائيلي عوزي لانداو وجاراه في التهجم على العرب والمقارنة بين تجربتي إسرائيل وجنوب السودان مع تلميحات للمقارنة بين النازية والعرب. الوزير الإسرائيلي قال لضيفه الجنوبي، إنه يتابع أوضاع جنوب السودان ونضالاته منذ أن كان شابا «وأعرف أي معاناة تعرضتم لها، فالعرب يتسمون بالقسوة الشديدة إزاء من لا يريدونه في صفوفهم». على هذا الكلام رد الوزير السوداني الجنوبي بالقول «إن هناك وجه شبه كبيرا بين تجربة إسرائيل وتجربة جنوب السودان من حيث التحديات الوجودية ومن حيث نوعية البشر الذين لا يريدون لنا ولكم الحياة»، حسب التصريحات المنشورة في «الشرق الأوسط» في عددها الصادر يوم الأربعاء الماضي. ولم يتوقف الوزير أكيك عند هذا الحد بل مضي ليقول إن جنوب السودان فقد مليونين ونصف المليون من شعبه، واليهود فقدوا ستة ملايين ومن واجب كل منا أن نسعى كي لا تتكرر هذه الإبادة.
هذا الكلام المثير للجدل يخفي تحته مشكلة كبيرة بالنسبة لمستقبل العلاقات والتحالفات في المنطقة، خصوصا بين إسرائيل وجنوب السودان مع انعكاسات محتملة على قضية مياه النيل، مثلما أنه يكشف عن قضية أخرى مسكوت عنها، وهي ما إذا كانت هناك أقليات في العالم العربي تشعر بمثل ما يتحدث به الجنوبيون السودانيون من غبن بسبب إحساسهم بالتمييز ضدهم وشكواهم من أنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية وأن حقوقهم مهضومة. فالعالم العربي فيه أقليات كثيرة وخليط من المجموعات الإثنية والدينية والمذهبية مما يستدعي معالجة قضية حقوق المواطنة حتى لا تصبح مصدر ضعف مستمرا في بنيان الدول، ومنفذا للتدخلات والعداوات والحروب الأهلية. وليس سرا أن إسرائيل ظلت على الدوام تعمل على استغلال موضوع الأقليات في العالم العربي للنفاذ منه وإثارة القلاقل والاضطرابات.
العلاقات بين إسرائيل وجنوب السودان تحمل في طياتها الكثير من المشاكل للعرب إذا لم يتنبهوا ويتداركوا خطأهم المزدوج في إهمال إقامة علاقات وثيقة مع دولة الجنوب، وتجاهل خطورة أجواء العداء والحرب بين دولتي شمال السودان وجنوبه والتصرف وكأن هذا الأمر لا يعنيهم وتركه كليا للوساطات الأفريقية والتدخلات الدولية والاختراقات الإسرائيلية. فالجنوبيون يشكون من أن الدول العربية لم تبد أي اهتمام بعلاقات مع دولتهم الوليدة ولم تسع لتطوير الاتصالات وبحث مجالات التعاون، وبالتالي فإن من حقهم تطوير مجالات التعاون مع إسرائيل التي أبدت اهتماما كبيرا بتطوير العلاقات.
اللافت أن الوجود الإسرائيلي في دولة الجنوب يأتي في وقت تتصاعد فيه قضية مياه النيل مع زيادة احتياجات الدول التي تتشارك مياهه، مما يثير احتمالات تصاعد التوتر الذي يحذر البعض من أنه قد يصل إلى حد المواجهات، أسوة بحروب المياه المتوقعة في مناطق أخرى. وفي هذا الإطار يمكن فهم لماذا حرصت إسرائيل على أن تكون أول اتفاقية تعاون توقع بينها وبين دولة جنوب السودان في مجال المياه والزراعة، وتشمل كما ورد في التصريحات الرسمية «نقل المياه وتحليتها»، إلى جانب تطوير أنظمة الري الزراعي. وحسب الإذاعة العامة الإسرائيلية فإن تل أبيب وجوبا وقعتا أيضا على عدة اتفاقيات عسكرية تصدر بمقتضاها هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية أسلحة ومعدات لجنوب السودان.
الذين يتابعون ملف قضية المياه يعرفون أن هناك أزمة كامنة في موضوع مياه النيل مع زيادة المطالبات من بعض الدول، خصوصا إثيوبيا التي تشهد زيادة هائلة في تعداد سكانها بما يجعلها مرشحة لتجاوز تعداد سكان مصر خلال أقل من خمسين عاما. وتطالب بعض الدول بإعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل، بينما تبرز تساؤلات حول حساب حصة دولة جنوب السودان الجديدة، وما إذا كان هذا الأمر سيسهم في تصعيد النزاعات مستقبلا، لا سيما مع مصر والسودان. ويذهب البعض اليوم إلى حد اعتبار تكليف هشام قنديل، وزير الري السابق والخبير في مجال قضية مياه النيل بحكم عمله السابق، برئاسة الحكومة المصرية مؤشرا إلى أن هذا الملف سيكتسب أهمية كبرى في مصر خلال الفترة المقبلة. وبغض النظر عما إذا كان مثل هذا الكلام عن اختيار قنديل فيه شيء من المبالغة فإن الأمر الواضح أن مصر استيقظت على أن مشكلة مياه النيل تتفاقم بما يفرض أولوية لهذا الملف، ويستدعي النظر بشيء من القلق إلى التحركات الجارية في وحول دول حوض النيل، بما فيها التحركات الإسرائيلية في جنوب السودان التي تستفيد من أخطاء العرب وإهمالهم لملف ستكون له انعكاساته على أمنهم القومي انطلاقا من تأثيره المباشر على مصر والسودان.
شمال السودان خسر الجنوب من دون أن يجني السلام أو الخير الذي وعد به أهل «الإنقاذ»، وهذا أمر بات معروفا وواضحا للعيان، لكن السؤال هو هل خسر العرب أيضا جنوب السودان؟
الرد واضح ولا يحتاج إلى كبير عناء، وهو أننا خسرنا الجنوب، من دون أن يكترث الكثيرون بالتبعات، أو ينتبهوا لمغزى التحركات الإسرائيلية المتسارعة في منطقة مرشحة للكثير من الأحداث ذات الدلالات الكبيرة على بلدين يمثلان معا ثلث تعداد العالم العربي تقريبا. وهذا هو حالنا دائما، لا نتنبه للكثير من الأمور حتى «تقع الفأس على الرأس» كما يقولون.
كاتب المقال: عثمان ميرغني
المصدر : جريدة الشرق الأوسط
التعليقات (0)