قائمة أبطال العرب طويلة ومتميزة، طويلة بما تحوي من أسماء ترجع لأحقاب تاريخية بعيدة، وأسماء ما تزال تضاف مع مسيرة العرب والعروبة، ومتميزة – ربما عن القوائم المماثلة لجميع الأمم – بالخيط الواحد الذي يربط بين أغلب إن لم يكن كل رموزها، وقبل أن نفصح عما نقصد بالخيط الواحد، ينبغي بداية أن نقر أن قائمة أبطال العرب الأماجد هي من صنع الجماهير العربية العريضة بالدرجة الأولى، وتأتي في الدرجات التالية تأثيرات وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، وسائر تأثيرات النظم الشمولية التي تحكم بلاد العروبة وقبائلها، والتي لا تسمح إلا بتلميع وترويج نوعية معينة من الأبطال، واختيار النوعية هذه لا يكون بالطبع اعتباطياً أو تعسفياً، وإنما استجابة لميول أساسية في عقلية الجماهير وسيكولوجيتها وثقافتها السائدة والمقدسة بالأساس، لكن هذا الفرض لنوعية البطولة سرعان ما يتحول من عامل استجابة إلى عامل تشكيل لوعي الجماهير، أي يتحول من نتيجة إلى سبب في عملية لتبادل المقولات، لتظل الشعوب المسماة بالعربية تعيد إنتاج نفسها، في دائرة جهنمية مغلقة.
المذهل في قائمة أبطال العرب هو ما ادعينا أنه الخيط الواحد الذي يجمع بين أغلب إن لم يكن كل رموزها، إذ يصح أن نلقبهم “بأبطال الفشل” أو “أبطال الكوارث”، يجوز أيضاً أن ننظر إليهم “كأبطال الكذب والمراوغة”، و”أبطال الشعارات والتهييج”، وإذا جمعنا أوصاف فعاليات أبطالنا السابقة: فشل وكوارث وكذب ومراوغة وشعارات وتهييج، نستطيع أن نعطي لهم لقباً واحداً جامعاً هو “أبطال الخراب”.
لسنا مضطرين للتدليل على صحة ادعائنا إلى العودة إلى التاريخ، فيكفينا الانغماس فيما نحن فيه الآن من بلاء، فلننظر إلى ما تبثه الفضائيات الآن، من مظاهرات جماهيرية في عدد من العواصم العربية التي تسمح بذلك ولو على مضض، سنجد الحناجر والصور واللافتات تمجد بطولة جمال عبد الناصر وحسن نصر الله، ورغم التناقض الظاهري بين الرجلين، إذا ما اعتبرنا أولهما رمزاً قومياً علمانياً، والثاني رمزاً دينياً يرفع لواء الجهاد، ويعتبر نفسه ومشايعيه حزب الله، الذي لابد والحالة هذه أن يكون في مواجهة الآخرين، الذين هم بالضرورة حزب الشيطان، إلا أن الرابط الجوهري الذي يجمع بين الرجلين هو طبيعة إنجازاتهما، والتي تتميز من جانب بالفاعلية في التلاعب بعواطف الجماهير، واستثارة نعراتها القومية أو الدينية، ودغدغة مشاعرها بأحاديث نارية عن العزة والكرامة، بما يؤدي إلى توحيد الجماهير – رغم تنوع واختلاف ميولها – على قاعدة الكراهية للآخر، الذي قد يكون الصهيونية والاستعمار وأعوانه، وقد يكون جميع الكفار على ظهر الكرة الأرضية.
لا يحق لنا الاستهانة بهذا الجانب المعنوي من إنجازات أبطال العروبة، وليس مما يقلل من شأنه أن يتأسس على سوء القصد، أو على الكذب والادعاء وما شابه، بما يعني الانفصال التام عن الواقع الحقيقي المعاش للجماهير، فالاحتياج المعنوي للجماهير والأفراد في حد ذاته أمر ملح وجوهري، فهنالك تعطش للإحساس بالعزة والكرامة، وقد يتولد هذا الإحساس بتأثير الواقع المعاش، كالرفاهية والتقدم العلمي والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وسائر المظاهر التي تشعر الإنسان بقيمته، وتشير إلى سيطرته على مقدرات حياته، وتكفل له الاحترام من قبل الشعوب الأخرى، لكن الإحساس بالكرامة والعزة أيضاً يمكن أن يتحقق إذا ما انفصل الفكر عن الواقع في ثقافة أمة، عن طريق العيش في عالم من الشعارات والأوهام والأكاذيب اللذيذة والمريحة، تغنيه عن الواقع المزري الذي يرزح فيه، ويتعمق الاقتناع بهذه الحالة لدى الجماهير إذا ما كانت قد وصلت إلى حالة من اليأس من القدرة على تحسين أوضاعها المادية الحياتية، فلا يكون أمامها إلا الارتماء في أحضان أو حبائل زعيم كارزمي ديماجوجي، يحلق بها في عالم جميل من الأوهام والأكاذيب الرائعة، ويكون موقف الجماهير هنا منطقي إلى أبعد الحدود، فالبطل والزعيم المعجزة يقفز بها فوق الواقع البائس الذي تراه قدراً، ليحقق لها مباشرة الهدف المعنوي الأهم والمرجو، وهو الإحساس بالانتصار والرفعة، ويترتب على هذا النهج أن ترجم الجماهير تلك الغربان التي تنعق منادية بالهبوط من عالم الأوهام السحري إلى أرض الواقع، فالجماهير ترى هذه الدعوة تهبط بها من سماء العز والسؤدد إلى فقر الواقع، فنحن نستطيع بقليل من التسامح القول أن جماهيرنا العربية قد وجدت حلاً عبقرياً لمأساة تخلفها وفشلها، وهو أن لا تشعر بهذا الفشل، بل تستشعره نعيماً وعزة وكرامة!!
الجانب الآخر من إنجازات أبطال العروبة والذي يتعلق بالنتائج العملية المتحققة تعرفه الجماهير جيداً، لكنها تبقيه في غرف الذاكرة الموصدة، والمحرم على كل أحد فتحها واستعراض محتوياتها، فالجماهير لا تجهل أن عبد الناصر كان أعظم أبطال الهزائم، سواء على المستوى المصري أم العربي، فهو صاحب حرب اليمن التي ضرب فيها القبائل اليمنية بالنابالم، وتعرض فيها شباب مصر للذبح بالخناجر اليمنية، فيما تم توزيع رصيد الذهب بالخزانة المصرية في أكياس على رؤساء القبائل اليمنية، موجهاً أول ضربة قاصمة للاقتصاد المصري، لتتوالى عليه بعدها الضربات التي لقبت بالاشتراكية، وهو أيضاً صاحب ما سماه نكسة 67، التي مازلنا غير قادرين على إزالة آثارها!!
أما السيد حسن نصر الله، البطل الأحدث في قائمة أبطال العرب، فحالته بلاشك هي الأكثر تفاقماً، بل ومن الظلم لعبد الناصر أن نرفق اسمه به، فلقد نجح عبد الناصر في أن يقفز على رأس دولة ذات كيان قانوني وبيروقراطي، ليحكم شعباً يفترض أنه من أعرق الشعوب، وكانت للدولة برئاسته إنجازات أو على الأقل محاولات لإنجازات، حتى لو عادت تلك المحاولات بنتائج نعتبرها في أغلب الأحيان وبيلة، أما السيد حسن نصر الله فهو زعيم عصابة من القتلة المحترفين، الذين قرروا تقديم خدماتهم لأي جهة راغبة في توظيفهم، ويستوي الأمر عندهم أن تكون تلك الجهة البعث العلوي السوري، أو النظام الخوميني الشيعي الإيراني، ولكي تسوق العصابة بضاعتها في الشرق المتهوس بالتعصب الديني والكراهية العنصرية، كان اختيارها الموفق الادعاء بالانتساب مباشرة إلى الله، ليقدموا أنفسهم إلى الجماهير الجاهلة سطحية التدين بأنهم جند الله، فهم ليسوا جند لبنان ولا جند العرب، ولا هم حتى جنود الأمة الإسلامية، إنهم دون سائر البشر والفرق والجماعات ينتسبون مباشرة إلى العلي القدير، وفي غياب أي مساءلة أو تساؤل من الجماهير الغائبة في خدر التطرف والكراهية، استطاعت تلك العصابة احتراف القتل والدعاية الإعلامية، ولا شيء أكثر أو أقل من هذا، إذاعة مسموعة وفضائية تليفزيونية، تخلق عالماً موازياً من الأوهام والأكاذيب، وتتبنى قضايا مصطنعة وجنونية، كإزالة دولة عضو بالأمم المتحدة من الوجود، وتحدي أكبر وأقوى دولة في العالم، بل ومحاربة الكفر والكفار في كل حدب وصوب، وعند اللزوم وببراعة ثعبانية تتقزم الأهداف إلى تحرير مزرعة مساحتها بضعة عشرات من الأمتار، وإطلاق سراح ثلاثة إرهابيين محكوم عليهم بالسجن من قبل محاكم ذات نزاهة قانونية نتمنى أن يتوفر مثيلها للكثير مما يسمى محاكم في أنحاء عالمنا العربي.
المذهل والمستفز في حملة الأكاذيب التي تشاع عن عصابة حسن نصر الله، الادعاء بأنه حرر جنوب لبنان، رغم أننا نعرف جميعاً أن إسرائيل خرجت من لبنان من تلقاء نفسها، لأنه لا أطماع لها في أرض لبنان، ولا تبغي من لبنان غير سلام حدودها الشمالية، بل ونعرف أيضاً أنها اتخذت قرار الانسحاب من طرف واحد نكاية في سوريا، التي كانت سعيدة باحتلال إسرائيل للبنان لربط القضية باحتلال الجولان المنسي، على أمل أن يقوم العالم بحل القضيتين معاً، وعلى من تخذله ذاكرته أن يرجع إلى تعليقات المسئولين السورين واللبنانيين في الصحف في تلك الفترة، ومن يفعل ذلك سوف يطالع عبارات مماثلة لتعليقات الفلسطينيين حالياً على خطة إسرائيل بالانسحاب من جانب واحد في الضفة وغزة، وهنا سيلاحظ أيضاً التماثل بين ادعاءات حزب الله بتحرير الجنوب وادعاءات حماس تحرير غزة، كما يمكن بقليل من الفطنة ملاحظة أن تشبث حزب الله بقضية مزارع شبعا ليس فقط من قبيل التبرير لتواجده المسلح كشوكة إيرانية في جسد لبنان والعالم العربي، ولكن لإبقاء قضية احتلال معلقة بين إسرائيل ولبنان، لربطها باحتلال الجولان، الذي يقال أن النظام السوري قد سبق وأن باعه، كما باع – ولكن علنياً – إلى تركيا لواء الإسكندرونة.
لكن الأكثر مدعاة للذهول والاستفزاز في ادعاءات وأكاذيب حزب الله ومن يشايعونه، هو القول بانتصاره الآن على إسرائيل، كل هذا الخراب للبنان، تدمير بنيته التحتية وقتل المئات وإصابة أكثر من ألف وتهجير مئات الآلاف، في مقابل مقتل آحاد وإصابة عشرات من الإسرائليين، ثم نجد من يتجاسر ويستهين بكل هذه الأرواح والضحايا البريئة ويعتبر أن هذا انتصار لعصابة حسن نصر الله، بل ربما المطلوب منا أن نعتبره نصراً أن يُدمر لبنان لكن مع بقاء السيد حسن نصر الله حياً هو والبقية الباقية من أشقيائه المختبئين في الكهوف والأنفاق ومنازل الأهالي الآمنين، ويكفينا أن يطالعنا السيد بين يوم وآخر بوجهه السمح عبر رسائله المتلفزة، ليبشرنا بالنصر المبين!!
قائمة أبطال العرب طويلة ومخزية، ففيها أيضاً أسامة بن لادن والظواهري، وفيها الزرقاوي وخالد مشعل وإسماعيل هنية، وفيها بطل الأبطال صدام حسين!!
أسئلة على كل منا أن يتوجه بها إلى نفسه، وإلى أخيه وزميله وجاره:
إلى أين ستقودنا قائمة أبطالنا؟
إلى متى سيظل أبطالنا على شاكلة أمثال هؤلاء الأبطال؟
إلى متى ستظل أفكارنا أسيرة عالم متوهم من الأكاذيب والهلوسات؟
هل سنظل إلى الأبد نعتنق مبدأ شمشون: علي وعلى أعدائي يا رب؟
هل سيأتي يوم نحب فيه أنفسنا فنحب الحياة، ومن ثم نتوقف عن التفرغ لكراهية الآخر؟
التعليقات (0)