العرب المنسيون.ا..
كم هي كثيرة ومتشعّبة ومؤرّقة قضايا العرب،ومع ذلك فإنّ المهمل منها،عمدا أو تقصيرا،ليس بالضرورة هو في مرتبة ثانوية مقارنة بما ننشغل به رسميا وشعبيا من أحداث نسلّط عليها الضوء ونصرف من أجل الاهتمام بها كلّ جهودنا إلى حدّ تجاهل وتهميش تفاعلات ذات أثر خطير على الجسم العربي كما أردنا تشكيله ضمن منظومة جامعة الدول العربية...
ولئن كانت الأولويات في بناء النهضة العربية محلّ أطروحات متعدّدة،غالبا ما تكون متباينة،خاضعة في تناولها إلى ضغوطات الواقع الآني القابل للتغيير لا لبعد استراتيجي بعيد المدى،فإنّ الانتماء للهويّة العربية يبدو غير قابل للجدل أو التشكيك والحال أنّ دولا فتية تنتمي لهذه الهوية ومنضوية تحت لواء جامعة الدول العربية هي في أوكد الحاجة إلى دعمها لتبرير عروبتها وتعزيزها،فضلا عن أنّها مستهدفة-في عروبتها بالذات- من أطراف دولية غير بريئة وفاعلة ومهيمنة في رسم خارطة العالم وفقا لما يخدم أغراضها التي تتناقض وغرض البناء العربي...
ولكي نقف على أمثلة تُوضّح المقصد فلنبدأ بدول غالبا ما نغفل عن قضاياها ولا نهتم بها،أو نهتمّ بها اهتماما عابرا لا يحتلّ المكانة المفترض أن يحتلّها في الوجدان العربي،هذا الوجدان الذي بقيت تستحوذ عليه قضية فلسطين بالدرجة الأولى،ثم قضايا أخرى تكتسب مبرر موقعها في الصدارة من أحداث نراها ضاغطة وعاجلة...
هذه الدّول التي نعنيها هي من قبيل جمهورية الاتحاد القُمري وجمهورية جيبوتي وجمهورية الصومال،وهي جمهوريات،للتذكير،منضوية في جامعة الدّول العربية،حاضرة في قممها ومؤسساتها وفاعلة في قراراتها بالتصويت،في غالب الأحيان،ما يشترط منه الإجماع العربي...
إن جمهورية القمر المتحدة التي قد تبدو لملاحظ عابر غير ذات شأن من حيث حجمها الديمغرافي ومساحتها وثرواتها هي أرخبيل على غاية من الأهمية بحكم موقعه الجغرافي،وهي في انتمائها العربي تُعاني من استدراجها إلى جذور غير عربية و إلى إغراء استعماري فرنسي بالأساس يأبى تحريرها حتى إن كان اعترف لها باستقلالها منذ سنة 1975 ،وهو استقلال استُثنت منه جزيرة مايوت التي استُفتي سكانها خلال هذه السنة وتحديدا في 29 مارس 2009 ليُفصحوا عن رغبتهم في أن يكون موطنهم في هذه الجزيرة بالذات جزء من الوطن الفرنسي بداية من عام 2011.ا..وليس خافيا على أحد أنّ هذا الوطن الفرنسي،في هذه الجزيرة،ليس متاخما لفرنسا الأم التي لا سبيل لتواصله معها إلا بما نسمّيه بذلك العابر للبحار والقارات.ا..ولا بأس أن نستحضر أنّ جزر القمر انضوت بمحض إرادتها ضمن دول الجامعة العربية منذ سنة 1993 وقد أعربت عن هذه الرغبة قبل ذلك بكثير...ولا ندري،إن استُفتيَ سكّانها اليوم على تزكية البقاء في هذا الفضاء العربي من عدمه ما عساها تكون النتيجة.ا..خاصة أنّ هذا الأرخبيل بدأ يشقّ طريقه في إرساء نظام ديمقراطي بعد أن كان ينافس العديد من الدول العربية في عدد الانقلابات العسكرية التي هزّته والتي تجاوز عددها العشرين انقلابا...والسؤال الذي لا مناص من طرحه هو: ماذا فعل العرب لهذا الأرخبيل الذي أراد أن يكون امتدادا للعالم العربي وأن يُعرب عن رغبة في هوية ليست اليوم،مع مرارة الإقرار بذلك،من الهويات المرغوب في الانتماء إليها حتى من بعض أهلها الأكثر تجذّرا فيها؟..بماذا أفاد العرب القمريين الذين تُعدّ دولتهم الوحيدة المشتركة في عضوية الاتحاد الإفريقي والمنظمة الدولية للفرنكفونية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ولجنة المحيط الهندي؟..
والإجابة في اختزال كبير:لا شيء سوى بعض الهبات التي تُعطى على مضض غالبا ما تكون نتيجة مزاج متقلّب واعتبارات ظرفية عابرة لا تستند لإرادة سياسية واعية بمسؤوليّتها التاريخية في دعم الهوية العربية فضلا عن نشرها لغة وإرثا حضاريا...
وينسحب،تقريبا،ما سبق ذكره بخصوص جمهورية القمر المتحدة على جمهورية جيبوتي التي تعدّ من دول القرن الإفريقي،أحرزت على استقلالها سنة 1977 بغد أن خضعت عقب نضالات تحررية جريئة إلى استفتاءين للخيار بين الانتماء لفرنسا أو الاستقلال جاء الأول سنة 1967 ليُفرْنسها في حين أنّ الثاني ليُحرّرها ويعترف لها باستقلالها،وانضمّت إلى جامعة الدول العربية في نفس سنة استقلالها( 1977)...ورغما عن تمسك الاستعمار الفرنسي بنشر ثقافته الفرنسية أمكن للغة العربية أن يكون لها حضور،كما عُرفت جيبوتي بتفاعلها الايجابي مع القضايا العربية في حين أنّ شعبها يشكو الفقر والجهل وشحّ الموارد الطبيعية...وبحكم أهمية موقعها الاستراجي فهي محلّ أطماع وإغراءات قوى عالمية تقف بينها الدول العربية موقفا لا يرتقي إلى مستوى التحديات المطروحة ولا يُقدّم لجيبوتي من الدّعم إلا القليل...
ثالث هذه الدّول "المنسية" المنضوية تحت لواء جامعة الدّول العربية هي الصومال وهي أكثرها اشتعالا كاشفة عن إهمال عربي وعجز عن تقديم العون المطلوب لبلد استفحل به داء عضال من الحروب الأهلية ودمّره تواطؤ قوى أجنبية دخيلة وغُيّبت فيه سلطة مركزية قادرة على كبح جماح قانون الغاب المهيمن والذي يُديره أمراء الحرب،والصومال التي تأبى الاستقرار على حال جغرافي وسياسي وتعيش على وقع طبيعة غاضبة عقّدت أوضاعها وعوّدت شعبها على الترحال والتشرّد وتطبّع منذ ما يُناهز العشرين سنة على "هواية القتل" تُهدّده بالفناء وحذق فنون القرصنة البحرية...هذه الصومال متمسكة بهوية عربية تُؤكّدها اللغة والعقيدة الإسلامية التي أضحت أكثر حضورا في إدارة الصراع الصومالي الصومالي من جهة والصومالي الأجنبي من جهة أخرى...إنّ المشهد الفضيع الذي تكتوي بلهيبه الصومال لا يُمكن أن يُقارن في بشاعته بأيّ وضع مأساوي آخر يعيشه أيّ بلد عربي أو غير عربي،هو وضع تجمّعت في رسمه،تقريبا،كلّ عوامل الإيذاء والإساءة التي يمكن أن يبتليَ بها شعب،ومع ذلك فالصومال في عروبته لا يتجاوز مجرّد تعداده ضمن الدّول المنضوية تحت لواء جامعة الدول العربية التي يحقّ أن تُسند لها تسمية جامعة "المعذّبين في الأرض" ...وقد يهون العذاب إن كان،فحسب،مجرّدممارسة الأمراء للحرب،على طريقة الصعاليك،مهما كانت هذه الحرب عبثية.ا..
إنّ الصومال مثال صارخ يتحدّى الحالمين ببناء كيان عربي موحّد ويستخفّ بكلّ فضائل العرب ووقارهم ويُدين بذخهم ويلعن استرخاءهم وينذهل حتى من قدرتهم على التناسل استجابة للمتعة...
إذا كانت الإجابة عن هذا الانتماء العربي المحير لدول جزر القمر وجيبوتي والصومال تستوجب الإقرار أنها دول مدرجة ضمن المنسيّ والمهمل في الوجدان العربي فإنّ هذا الاعتراف هو من قبيل إدانة للوعي العربي بقضاياه...
أما إذا كان الادّعاء بأنّ الدّول العربية تُصنّف تصنيفا آخر،أي وفقا للتجذّر في الهويّة فإننا قد لا نجد شيئا ذا بال يدعم هذا الادّعاء،إذ الهوية العربية في الوطن العربي الكبير هي مكتسبة لدى العدد الأوفر من شعوبه،وهي قابلة للانحسار كما أنها قابلة للانتشار وفقا لطبيعة الإرادة التي تحكمها...
لنتدرّج إلى طرح أمثلة أخرى تشي بالخطر الذي هدّد،وما زال،الهوية العربية،في خضمّ التعاطي الرديء مع قضايانا العربية...إنّ،ليبيا،مثلا،زمن الحصار المفروض عليها من القوى العالمية المهيمنة وبموجب قرارات أممية،كانت تشعر بغربتها وعزلتها،وكان أشدّ ما يؤلمها هو هذا الإهمال العربي لها وقت الشدّة،وكانت تتمنى أن تكون جرأة قادة أفارقة غير عرب في كسر الحصار عليها،وإن كان رمزيا،مسبوقا أو متلازما مع جرأة عربية شبيهة وهو ما لم يحدث...وعليه فليس هناك ما يثير العجب إن قررت القيادة الليبية تعليق عضويتها في جامعة الدول العربية أو الانسلاخ منها والمجاهرة بتصالحها مع بعدها الافريقي على حساب هويّتها العربية...
سنجد،أيضا،قضية الصحراء الغربية (البوليزاريو)،هي الأخرى لا ترقى إلى أولويات اهتمام الوجدان العربي من حيث أنها قضية عربية عربية لا يجوز بأيّ حال من الأحوال أن تتحوّل إلى سرطان خبيث يُهدّد الجناح الغربي من العالم العربي...
في خضمّ هموم عربية كثيرة وخطيرة ومتشعّبة يعيش العرب على ضغط الأحداث التي تُحوّل وجهة اهتمامهم من قضية إلى أخرى دون دليل ولا بوصلة...في زمن حركات تحرير الشعوب العربية من الهيمنة الاستعمارية الغربية،روى زعيم تونس الراحل الحبيب بورقيبة أنّه سنة 1949 لماّ أراد التعويل على الأشقاء العرب في نصرة قضية تحرير تونس من ربقة الاستعمار الفرنسي شدّ الرحال إلى القاهرة وهو يُمنّي النفس بدعم معتبر...جاءته الإجابة غير مبالية متعللة بأنّ العرب وجامعة دولهم العربية منشغلة بالقضية الفلسطينية التي لا تضاهيها أولوية أخرى،وأنّ عليه أن ينتظر تحرير فلسطين ليقع النظر في قضية تحرير تونس...أجل لقد كان الوجدان العربي،من المحيط إلى الخليج،ولا يزال،مسكونا بالقدس وفلسطين،وهو وجدان تُهدر طاقاته الهائلة وحماسته الصادقة سخرية أقدار ليس من السّهل تحديد المُتسبّب في عربدتها وعبثها بمصائرنا...
أما إذا ألمحنا إلى ما يُضمر للهويّة العربية من مؤامرات حاقدة تُخطط لهوانها وتلاشيها فإننا نقف على حقائق أخرى ذات دلالات خطرة ليس أقلّها إيقاظ هويات أقليات اندثرت أو كادت تندثر في جسم عربي منهك يُستهدف فيه بالأساس لسانه العربي،وهو لسان لم تعد نُخبنا لتهتمّ به إلا في محافل الخطب الرسمية وفي إخراج مقرف،في حين أنها تبذل قصارى جهدها للإخلاص للغات أخرى يُعدّ الزواج منها أكثر متعة وفتحا لآفاق المعرفة والولوج لحضارة العصر وفقا للادّعاء الموثّق.ا..
أما إذا أنصفنا عطاءنا للقضايا التي تملك علينا وجداننا وتشدّنا إليها شدّا وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية والوضع في العراق وبدرجة أقلّ الوضع في السودان رغم حجم كارثته المروّعة،فإننا نقف على حقيقة شديدة الإدانة لفعلنا المفعم بحبّ جارف...إننا لم نقدّم لهذه الدّول مجتمعة غير الاسهام في تعميق جرحها النازف...
التعليقات (0)