استطاعت قصيدة النثر العربية خلال نصف قرن أن تراكم مجموعة من الأعمال الشعرية أثبتت من خلالها أحقيتها الأدبية فحسمت مسألة الجدل الدائر حول شرعيتها وقد لفتت الانتباه إليها بما تقترحه من مقاربات جمالية وتصورات فنية بعيدة عن السطحية والارتجالية والانفعالات العاطفية متنكِّبة عن السائد تقوم على النقيض تماما من المفهوم المتداول للشعر وهي وإن كسبت معركة إثبات شرعيتها من وقت ظهورها كمصطلح – العدد 14من مجلة شعر ربيع 1960- إلى أيامنا هذه . فأكَّدت نسبها – رغم أصوات الاحتجاجات العالية غير المعترفة بها في العائلة- فالجدل بشأنها لم ينته ومازلت تثير الكثير من الحراك؛ الساحة الشعرية العربية في أشد الحاجة إليه. هو جدل انتقل من الخارج إلى الداخل؛ بين خصوم الشعر بالنثر وأنصاره فأصبح دائرا في الداخل بين الذين تبنون المصطلح؛ دافعوا عنه سواء بالتنظير له أو الإبداع في صلبه.
كانت فترة السبعينيات والثمانينيات اختبارا حقيقيا لقصيدة النثر وقدرتها على الصمود والبقاء بعد الضربات الموجعة التي تلقَّتها على أول نشأتها كمصطلح جديد- دخيل- وكان جيل الرواد الثاني على قدر من إدراك أهمية هذا الاختبار فاندفع الشعراء إلى العمل وظهرت إلى الوجود جماعات, تلاها بروز مجلات تتخصَّص في قصيدة النثر تدعم ذلك سلسلة من الإصدارات الشعرية مما حقق مراكمة إبداعية طبعا دون إهمال الجانب التنظيري سوف يتأكد من خلال موجة من البيانات تتنزل في إطار السجالات الأدبية التي تدور رحاها حول شرعية شعرية هذه القصيدة ولقد كان هذا التنظير ضرورة وعي آمن به أصحاب قصيدة النثر خاصة في ظلِّ إهمال النقاد لأعمالهم وعدم اعتراف رواد قصيدة التفعيلة بهم كشعراء ؛ وكان هذا الوعي بمثابة إعلان حالة طواريء واستنفار بين صفوف المناصرين لهذا اللقيط كما يحلو للبعض تسميته مما أنتج شعراء على درجة عالية من الثقافة واطلاع المعرفي والهم الإبداعي والتحرر من جميع أشكال السلطة مهما كان نوعها وهو ما انعكس إيجابا على إبداعاتهم التي ازدادت عمقا في رؤاها فتطورت تقنياتها وأساليب أدائها وعانقت ذرى فنية عالية كل هذا دون أن تركن إلى يقين الجواب أو تهدأ من قلق البحث وبينما كان سؤال البدايات :
هل نُحرج من النثر قصيدة ؟/ هل هناك قصيدة نثر ؟/ ما معنى قصيدة نثر ؟
أصبح السؤال اليوم:
ما هي قصيدة النثر ؟/ كيف تتحق الشعرية بالنثر؟/ لماذا هذه لا تركيبة المتنافرة قصيدة/نثر؟
رغم ما تحقق من منجز إبداعي في هذه القصيدة وفاق في مراقيه الجمالية أحيانا بعض الأنواع الأدبية الأخرى فحظي باهتمام النقاد والدارسين من حيث التحليل والدراسة والنقد غير إنها لم تبرأ من عقدة تعريفها ؛ لذلك سيعمل كل شاعر مع شيء من الاحتراز على صياغة مفهومه أو ما يشبه ذلك للخروج من هذا المأزق ورسم خارطة طريق ستكون بمثابة علامات لهذه العربة لهذه العربة التي تجرُّ على ظهرها الريح و’’ تقفز في المجهول ’’ غير إن هاجس صياغة التعريف ليس مردُّه تبرئتها من تهمة اللقاطة رغم إن اللقيط لم يكن يوما في موضع اتهام ؟ وليس مردّه أيضا إخرجها من دائرة الغموض من اجل الوضوح وهو لم يكن أيضا بسب تشريع قانون يتم الاحتكام إليه ؛ فهذا الهاجس بكل بساطة نابع من أصل وطبيعة قصيدة النثر التي تستعصى على الاكتمال المفهومي طالما إن في هذا الاكتمال نهايتها وهي التي لم تكن يوما ثورة بل انقلابا يتجدد كل مرة وينقلب هكذا سيهيء للأمر واحد من أهم شعراء قصيدة النثر :
’’تبحث باستمرار عن تعريف لنفسها لا تجده لكنه يبقيها في دوامة البحث وفي قلق نظري وعملي وفي نوع من الحث المستمر الصعب’’ (1)
وكونها قصيدة البحث المستمر والسؤال الدائم الذي ليس له جواب فهذا لم يمنع شعرائها من التفكير بشأنها ومحاولة تحسس خاصياتها وما يميزها عن القصيدة الكلاسيكية يقول سركون بولص:
’’ إن قصيدة النثر العربية الحاضرة مغامرة انطلقت من عدم الاقتناع بإيقاعات القصيدة التقليدية وإيقاعاتها مستمدة من شكل القصيدة ومن التجربة الموجودة فيها لذلك فإن إيقاعات غير ثابتة وغير ممكن أن تكون مقننة’’
وفيما يخصُّ أدواتها الفنيَّة يقول صاحب ’’ حامل الفانوس في ليل الذئاب’’ :
’’ ولقصيدة النثر تقنيات وأساليب تعتمد كثيرا على المقابلة وعلى تقابل الأشياء وتصادمها’’
غير إن المفارقة عند سركون بولص هو اعترافه إنه لا يكتب قصيدة نثر:
’’ في الشعر العربي عندما نتحدث عن قصيدة نثر نتحدث عن قصيدة مقطعة وهي مجرد تسمية خاطئة وأنا أسمي هذا الشعر الذي اكتبه بالشعر الحر . واذا كنت سميتها قصيدة نثر فأنت تُبدي جهلك لأن قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارمية poesie en prose أي قصيدة غير مقطعة ’’ (2)
يذهب سركون إلى العمق ؛ الى حيث لابد من قصيدة نثر عربية أصيلة ؛ قصيدة ليست لها مرجعية أوروبية ولكنها تأخذ أصولها من مكوناتها الذاتية على أن تكون ملمومة غير مقطعة ؛ وهو واع بالفروقات بين الأنواع الأدبية هذه الفروقات التي لها طابعها الجيوثقافي ومن هنا يتأتى وعيه بما يكتبه؛ هذا الوعي الذي نتج عنه فهمه الخاص لنصه من إنه نص يستمد جماليته من تنافر عناصره ولا قانون يتحكم في إيقاعه ؛ فلا قياسية للإيقاع في هذه القصيدة كما سيؤكد على ذلك الشاعر المصري حلمي سالم :
’’ إعادة اكتشاف لليومي ؛ التفصيلي ...باعتباره المادة الحيوية للحياة واستعادة الجسد الانساني ...من براثن التعنت والقمع الصامت ؛ شعرية أخرى بلا شاعرية ؛ شعرية التعرية والصدم والفجاجة لا تفتقر إلى إيقاعها الخاص ؛ إيقاع لا قياسي , لا معياري ’’ (3)
يصالح حلمي سالم الشعر مع الشارع اليومي ؛يرده إلى الرحم الأول الحياة؛ حيث دقائق التفاصيل ؛ حيث يتنفس الإنسان الوجود معجونا بكل ما في هذا الوجود من افكار وعواطف وأحاسيس وأشياء ؛ يعلّي الشعر من شأن اليومي العابر هذا البسيط الذي هو في الحقيقة جوهر الوجود ومن هنا يعلن الشعر تمرده حين لا يبالغ في التحليق بأجنحة الخيال وحين لا يتوسل لغة فخمة منجدة ببديع المحسنات وحين يأر للجمال العمومي المنسي وحين يترجم مشاعر الكائن المقموع ويفضح هذا القمع بأيسر الأساليب ولصاحب ’’ حياة معطلة ’’ رأي قريب من هذا إذ يقول عبده وازن :
’’ هي التي تستوحي الحياة الحديثة , كان لابد لها من أنتتمكن من احتواء الأصوات المتنافرة والانقطاعات والأنغام الناشزة ؛ إنها قصيدة الضوضاء وقصيدة الصمت وقصيدة الصراخ وقصيدة القلق ؛ قصيدة التمرد الدائم والاكتشاف الدائم’’ (4)
هي المرايا العاكسة لكل تفاعلات الحياة الحديثة ؛ صوتها المتكلم صمتا وسوف يتعزَّز هذا الانعكاس بما قد يتضمَّنه من بؤر سردية وإلى هذا يذهب أمجد ناصر القادم من تجربة طويلة مع قصيدة التفعيلة ؛ يتحدث عن كتابه ’’ حياة كسرد متقطع ’’ فيقول :
,’’ قصيدة النثر التي لها خاصية القص تارة , السرد تارة أخرى , الأمثولة حينا , الاستطراد حينا آخر ولها ما للنثر أيضا من إخبار وبرهنة وتحليل ’’ (5) طبعا مادامت تهجس باليومي والتفصيلي فهي ستحفل بالسردي لما من ترابط بين إيقاع الحياة اليومية والتشكيل والبناء السردي وهو ما سيحرص على التأكيد عليه عبد القادر الجنابي كخصيصة مميزة لقصيدة النثر رغم إنه سيؤكد على المقترحات الثلاثة التي استخلصتها سوزان برنار فيقول :
’’قصيدة النثر هي النثر قصيدة .كتلة يتأتّى قصرُها من نظامها الداخلي, كثافتها النوعية ومن حدتها , ليست لها أية غرضية بل خالية من أي تلميح إلى مرجع شخصي .كتلة قائمة بذاتها ’’ (6)
قصيدة الكتلة حيث القطيعة النهائية مع الوروث الشعري العربي وانتفاء السطر بل هو السطر النثري في شكل كتلة تتسم بالتركيز والاعتباطية والإيجاز هكذا رأي الجنابي في قصيدة النثر هذا الرأي الذي سينسفه بول شاوول جملة وتفصيلا هي كما في نهاية تحليله للمسألة :
’’ قصيدة النثر أولا وأخيرا هي مسألة ذاتية فردانية بهواجسها وتعابيرها وبقدر ما تنتمي إلى نفسها تتمرد عليها , بهذه الذاتية التي تأبى التعميم أو التقنين ؛ فقصيدة النثر العربية عبر تراكماتها لم تشكل نوعا ذا أسوار وقضبان ونواه وإنما هي أشكال كتابية تنتمي إلى فضاء من التحولات غير المتوقعة وغير المحسوبة ويكفي الشاعر ان يقصد ويعني إنه يكتب قصيدة متفتلة من الأوزان والبنى الجاهزة.(7)
هل هي استحالة الوصول الى تعريف جامع مانع كما سبق ونوَّه بذلك صاحب ’’ المريض هو الأمل ’’ وسيصر على ذلك أمجد ناصر :
’’ صعوبة ..إن لم تكن استحالة الوصول إلى تعريف جامع مانع ’’(8)
هي طبيعة هذه القصيدة منفلتة بحكم انتمائها إلى مجال أرحب وأوسع أفقا هو مجال الحرية التي هي الوقود الحقيقي للإبداع بحيث لن يطالها أي تعريف طالما إنها قيد البحث والتجريب وهو ما انتهى إليه اخيرا صاحب ’’ دفتر سيجارة ’’ :
لم يعد هناك شعر بالمفهوم الجاهز والقصيدة وحدها لم تعد كافية بالمفهوم التنظيمي القديم وحلَّت الورشة مكان النظرية القديمة والإيديولوجيا . المطلوب قصيدة جديدة قائمة على مفهوم الورشة ,’’(9)
لن ينتهي الجدل بشأن قصيدة النثر وتعريفها إنه’’ كمحاولة الإمساك بذبابة في غرفة معتمة ’’ وفق رأي شعري لشارلز سيميك ؛ غير أن مزية هذا الجدل إنه لفت الانتباه إلى قاسم مشترك بين أغلب الشعراء فكونها ذاتية منفلتة ؛ مفتوحة على جميع الأجناس الأدبية فهذا لن يُعدم ان لها خصائص تميزها عن بقية الأنواع الأدبية من ذلك ؛ الوعي بها كقصيدة مختلفة عن القصيدة القديمة الموزونة ؛ وحدتها العضوية ضمن بنية محكمة شديدة التماسك ؛ تصدِّيها لأشد مواضيع الحياة حساسية ومقدرتها على دمج اليومي البسيط العابر مع الكوني الفلسفي المجرد ؛ أهمية تنضيدها في شكل كتلة بما سيمنحه مثل هذا النوع من التنضيد من إمكانيات أخرى لاستثمار البياض ومن خصائصها أيضا اعتمادها على لغة تأخذ من النثر بساطته ومن الشعر كثافته وكل هذا طبعا سيؤدي إلى توفرها على إيقاع غير قابل للقياس على غرار الإيقاع التقليدي .
الإشارات:
-1- عباس بيضون . في قصيدة النثر جريدة السفير 28/06/08
-2- سركون بولص. حوار مع الشاعر مجلة نزوى ص 188العدد 6أفريل 96
- 3- حلمي سالم . قصيدة النثر ملاحظات اولى مجلة فصول المجلد 16 العدد1 صيف 97 ص309
-4- عبده وازن .جريدة الحياة اللندنية 22/05/06
-5- أمجد ناصر جريدة القدس 30/05/06
-6- عبد القادر الجنابي نص بمناسبة مؤتمر قصيدة النثر ببيروت جريدة إيلاف اللاكترونية
-7- بول شاوول مقدمة في قصيدة النثر مجلة فصول المجلد السادس العدد1 صيف 97 ص 126
-8- أمجد ناصر نفس المرجع السابق.
-9- بول شاوول حوار مع الشاعرمجلة نزوى العدد 58افريل 09ص159
التعليقات (0)