مدخل : من أين تبدأ هذا البوح ياقلم
بل كيف تصمت والأحداث تزدحم
هذا النزيف على جنبيك متقد
جهل وظلم وفقر ومرض
وفي فؤادك من فرط الاسى ندم
اكتب فأنت يد التاريخ ما بقيت
جحافل او تبقى في الوريد دم
قد تشعل شمعة النور يا قلم
أو قد يعرف الناس حزن شرقك يا قلم
أو أنفض من عيون الناس تغبيشهم
أو إلصق دم حبرك على أجسادهم
كي يعرفوا أنك قد تعبت منهم
وأنك قد غضبت ولم يعد لك حل
هي محاولة لطرق بعض المسامير والمفاهيم بمطرقة العقل والحكمة من أجل تثبيتها وتعميقها جيداً على حائط الوعي والفهم والحياة لجيل الحاضر الذي إفتقد الوعي الحقيقي نتاج السياسات الخاطئة والمقصودة والمناهج التعليمية الضعيفة خلال حكم الإنقاذ التي هي أسوأ ديكتاتورية حيث أفرغت روح الوطنية داخل الآلاف من السودانيين ونجحت إلى حدٍ كبير في خلق جيل أُطْمسَت هُويته الوطنية جيل خامل لا دور له في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية وذلك لضمان بقاءها على سُدة الحكم ، فالمحاولة تتناول الحرية ومفاهيمها لنصل بعدها للعدل وقيمه والعلاقة بين المواطن والسلطة وتناول الحرية بين الصلاحيات والآلية فأبدأ تجميعي لمجموعة كتابات لعلماء وكُتاب نسجوا بأقلامهم قمة الوعي والطرح المنمي والمحرك للعقل الإنساني أجتهد إلتقاطها وتلخيصها وطرحها على شكل مبسط يسهم في نماء وعي جيل الحاضر والذي أجد نفسي منه .
في حلقة ماضية من محاولة الإسهام في طرق تلك المفاهيم لأجل معالجة إشكالات الوعي في جيلنا ، كنت قد تناولت الحرية من خلال آراء وكتابات مجموعة من المفكرين والكُتاب كان عنوانها (حرية عدل لا حرية هوى) واليوم أستمر الطرق على هذه المفاهيم لنصل معاً لجيل قادر على بناء نفسه من جهة و وطنه من جهة أخرى وهذه المرة أجمع وألخص و أكتب عن العدل والذي هو أساس سلامة ونهوض الحياة وإنضباطها وقبل الدخول في ما سنكتب لابد أن نؤمن بأن العدل والحرية والمساواة مفاهيم متداخلة ، متشابكة ، يصعب الفصل بينها أو تحييد أي منها عن الآخر . وهي ثلاثية تشكل أبرز عناصر الصراع بين البشر وهي لذلك السبب تتصدر الشعارات ، وتخاض بإسمها المعارك وتنشب الحروب .. بين الأفراد .. الجماعات .. الدول .. بها تتحقق الكرامة الإنسانية ، وبإسمها تداس أحياناً .. بل تقطع الرقاب ، وتعجُ السجون بأنين المظلومين والمحرومين والمقهورين .
عندما يتحقق العدل في أي علاقة سياسية أو إقتصادية أو اجتماعية تتحقق الحرية تلقائياً ، كنتيجة منطقية واقعية لنفي الظلم ، لأن الحرية ليست سوى أخذ حق واستخدامه ، ودفع ظلم يمنعه ، ويمنع استخدامه .
فعندما يتحقق العدل السياسي ، ويقف كل فرد أو جهة أو سلطة عند حده فيطالب به ، ولا يتجاوزه إلى غيره ، تتحقق حرية المواطن . وعندما يتحقق العدل الاجتماعي ويعرف كل فرد قدره ، كإنسان وكمواطن له من الحقوق ما يجعله عزيزاً بإنسانيته وبمواطنيته ، تتحقق كرامة المواطن . وعندما تتأسس العلاقة (أي علاقة) بين الوطن والمواطن ، أو بين المواطن والسلطة (أي سلطة) على العدل تستقر حرية المواطن ، وتقوى وتستمر ، لأنها تستند على الحق وتقوم عليه ، أما عندما تتأسس هذه العلاقة على الحرية وحدها ، فسرعان ما يطغى طرف على طرف ، قوة على ضعف ، بل حتى قوة على قوة ، لتنال منها أو تتغلب عليها .
ولقد حقق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) العدل أولاً ، في القصة المشهورة التي قال فيها: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " ، فتحققت الحرية بعد ذلك للرجل كنتيجة واقعية لتحقق العدد .
فالعدل في هذه الحادثة هو الذي أخرج الرجل من دائرة الإستبداد إلى فضاء الحرية الرحب ، وليست الحرية وحدها التي فعلت ذلك ، إذ لو كانت الحرية وحدها لما استطاع الرجل أن يقتص أو يعفو . لأن تحقق الحرية وحده لا يستوجب تحقق العدل ، ولأن " غياب القانون يعني غياب الحرية" .
والفعل الحر قد لا يكون فعلاً عادلاً ، ولا يترتب عنه ما يحقق العدل ، أما الفعل العادل فهو فعل يحقق الحرية ، حتى لو كان ذلك الفعل قيداً على الحرية نفسها ، لأنه عندئذ سيكون " خنقاً للحرية من أجل الحرية " ، ومنعاً لها من أن تتحول إلى غاية ننشدها لذاتها . لأنه متى صارت الحرية هي الغاية تراجع العدل عن تحقيق أهدافه بما في ذلك العدل في الحرية ذاتها . لتصبح الحرية بذلك حكراً على فرد دون آخر ، أو مجموعة دون أخرى ، أو حكراً على السلطة دون المواطن ، فيحجب الرأي الآخر ، والفكرة الأخرى ، والكيفية الأخرى لتطبيق فكرة أو تنفيذ قرار ما .
وحرية الرأي وحرية التعبير عنه .. شأنها شأن حرية الفعل ، ممارسة للحرية .. ولكنها أيضاً تخضع لما يخضع له الفعل من قيود وأحكام ، يفرضها العدل بين الناس ، فالعدل في القول كما هو العدل في الفعل ، فنحن عندما نطالب مثلاً بحرية الرأي ... حرية الكلام .. حرية النشر ... فإننا ننادي بالحرية (الحرية في القول) ، وعندما نقيد هذه الحرية بعدم القذف ، أو عدم سب الغير ، ولا شتمه ، أو الحاق أي أذى معنوي به ، أو نقيدها باحترام الآداب العامة ، أو المحافظة على الشخصية الثقافية الاجتماعية للمجتمع .. الخ فإننا هنا إنما نطالب بالعدل في هذه الحرية . حتى لا يتحول الرأي الآخر إلى مجرد وسيلة أو أداة تبرير لتصرفات غير عادلة ، ولنتحمل بذلك أيضاً مسؤولية ما نفعل ، وما نقول ، وما نشهد عليه ، وما نشهد به ، ولنرعى حق الغير في ذلك القول أو الفعل ، وأن نفهم حدوده ، حدود الفعل ، وحدود الرأي وحرية التعبير عنه ، كحق لنا ، يجب أن نتلمسه ، وكواجب علينا ، علينا أن نقوم به ، وكحق للآخر ، علينا أن نيسر له قوله ، أو فعله ، وكواجب عليه ، عليه أن يقوله ، وعلينا أن نتقبل ذلك دون خوف أو وجل ، ودون ضغط أو إكراه ودون منع أو كبت .
والله سبحانه وتعالى يأمرنا بالعدل في الفعل ، كما يأمرنا بالعدل في القول فيقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ .
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
فالعدل هو الغاية الحقيقية ، بل هو غاية الحرية ذاتها – هكذا يجب أن يكون – والحرية وسيلة من وسائله لتحقيق الكرامة الإنسانية – هكذا يجب أن تكون – وإذا ما فقدت الحرية وسيلتها للعدل ، وتحررت من قيده ، طغت عليه ، وطغيان الحرية على العدل هو أبشع أنواع الطغيان ، لأنه يشتمل على جميع صنوف الطغيان وأشكاله و ألوانه .
ولعل هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل حرية المواطن في الغرب ، وحرية السلطة في الشرق الأوسط ، غير قادرتين على تحقيق الكرامة الإنسانية ، لا في الشرق ولا في الغرب . لأن أياً منها يرفض أن تكون وسيلة لغاية أكبر ، وأشمل ، هي العدل .
فكما هو الحال في الغرب حيث تلهث الديمقراطيات الغربية أو ما يسمى (بالنظام الحر) خلف الحرية .. حرية الفرد بل هي قامت على أساسها ، تستمد منها العون والسند ، لتأكيد انسانيتها ، أو عالميتها ، (فيما يعرف بحقوق الإنسان وحماية الديمقراطية) ، وتعتبر هذه الأنظمة أن الحرية في حد ذاتها ، لتحقيق سعادة الإنسان وتتجاهل في ذات الوقت مآسي الظلم الاجتماعي ، الناشئة عن إهدار كرامة الإنسان ، وفقدانه لآدميته ، وما يترتب عن ذلك من مشكلات اجتماعية خطيرة ، تعاني منها هذه الأنظمة ، بسبب التطرف في ممارسة الحرية الفردية ، واتخاذها غاية لذاتها لا وسيلة لتحقيق الكرامة والتقدير المناسب للإنسان ، بما هو إنسان .
وكما هو الحال في شرقنا الأوسط ( غالباً ) ، حيث تلهث الأنظمة خلف الحرية (حرية السلطة) تستمد منها الصلاحية والشرعية والقوة لفرض هيبتها وسلطانها على شعوبها ، و تتجاهل في ذات الوقت مآسي القمع والاستبداد ، والغبن والقهر ، الذي ينفي أي إمكانية للتقدم الحقيقي ، أي إمكانية للإبتكار والابداع ، أي إمكانية لحرية المواطن بما هو مواطن وهذا ما يحدث الآن في وطننا السودان في ظل نظام الإنقاذ الذي لا يحتاج لإستبانة إن كان ما ذكرته في واقع الحرية في هذه المنطقة ينطبق على حالة بلادنا فلا حرية حقيقية ولا عدل حقيقي يحقق الحرية والكرامة .
فالإنسان يطلب الحرية ، ويسعى جهده للحصول عليها ، لا ليكون حراً فحسب ، ولكن ليحقق بذلك ، أو من خلال ذلك حقه في العيش كإنسان .. هذا الحق الذي لا يجب أن يقل بأي حال عن حق أي إنسان آخر ، ولا يجب من ناحية أخرى أن يعلو فوق حق أي إنسان آخر ، " لأن الحرية هي نوع من الحقوق ، هو حق المرء في ممارسة ما كفل له ، وإقتداء من الآخرين لواجب مراعاتها ، وعدم الإعتداء عليها بالمقابلة حتى يمكنه ممارسته " .
فنحن لا نطلب الحرية من أجل الحرية ، " لأن الحرية ليست الهدف الوحيد للفرد " ولكن نطلبها من أجل تحقيق الشراكة في الكرامة الإنسانية ، وفي قيمة هذه الكرامة ومعناها .
والله خلق الإنسان وكرمه : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) . وهذا التكريم وهذا التفضيل هو ما يبحث عنه الإنسان ، وهو ما يطلبه من الجماعة التي يعيش بينها ، فالإنسان يريد من الآخرين " الاعتراف به وتقديره ، إنه يريد أساساً أن يعترف به الغير (كائناً بشرياً ) موجوداً ، له قدره وكرامته ، فالإنسان على خلاف الحيوان لا يقتصر في سلوكه على المحافظة على بقائه ، بل إن في وسعه أن يقبل التضحية بحياته ، من أجل العمل على صيانة (معناها) إنه على استعداد للمخاطرة بحياته في صراع من أجل (المنزلة المجردة ) وهو وحده القادر على التغلب على أكثر غرائزه الأساسية حيوانية وأهمها غريزة حب البقاء ، في سبيل مبادئ وأهداف وأرقى ، وأكثر تجريداً " .
لكن هذا التكريم والتفضيل والتقدير المناسب والمكانة والمنزلة المجردة لن تتحقق بالحرية وحدها ، بل إن تحققها في الواقع الإنساني هو الذي يحقق الحرية ، وفقدانها ينفي أي معنى للحرية ذاتها ، لأن " فقدان الحرية إنما يرجع إلى فقدان التقدير المناسب " ، للفرد أو لمجموعة من الأفراد من قبل الآخرين ، أو لمجتمع ما من قبل السلطة التي تحكمه أو لدولة ما من قبل دولة أو دول أخرى .
لأن الكرامة تقوم أصلاً بالعدل .. تقوم على الحق المجرد (منطقياً) على الحق بما هو حق ، وعلى تحققه في الواقع عملياً ... على تحوله من مفهوم مجرد إلى وقائع وعلاقات ونظم ومؤسسات سياسية ، وثقافية ، اجتماعية وليس على الحرية وحدها ، وما الحرية في هذا السياق إلا نتيجة منطقية و واقعية ، تلزم عن تحقق العدل ، الذي يؤدي إلى تحقيق الكرامة للإنسان ، وبالتالي الحرية كتحصيل حاصل .
تلك عزيزي القارئ هي محاولة إجتهدت جمعها وتلخيصها وكتابتها لكم لأجل ما ذكرت أنها محاولة إسهام في طرق مجموعة من المفاهيم والقيم التي في أصلها مفاهيم وقيم سماوية تحدثت عنها كل الديانات السماوية سلبتها وإنتزعتها الأنظمة الشمولية العسكرية رغم سماويتها قبل أن تكون نظريات وفلسفات بشرية عصرية . آمل أن أكون قد رميت بحجر في بركة الوعي الساكنة لهذا الجيل الذي لم تسكن بركته بإرادته لكنها كما سبق وذكرت نتاج سياسات الأنظمة التي لا تؤمن بقيم العدل والحرية والمساواة أو التي تدعيها زيفاً كمخدر لفئات المجتمعات المختلفة .
يتواصل الطرق في حلقات قادمة ... المراجع والكتابات لهذه الحلقة: سورة النساء 135
سورة المائدة 8
سورة الإسراء 70
حدود الحرية : أزايا برلين – ترجمة جمانا طالب ص6 + 56
أصول فلسفة الحق – هيجل – ترجمة امام عبدالفتاح ص 20
الحريات العامة في الإسلام – راشد الغنوشي
ضمانات الحرية في النظام الإسلامي – د. منيب محمد ربيع ص19
كتابات الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك) حول الحرية والكرامة .
التعليقات (0)