كيفَ تستمرّ خدمة يقدّمها تاجر أو صاحبُ مهنة إلا إذا كانَ زبائن هذا المجال في توفّر دائم يضمن تواصل المبيعات والدّخل ، وعندما تقترب منابع المال من الجفاف نتيجة ضعف الإقبال على نوعيّة معيّنة من الخدَمات أو السّلع فإنّ العقول والأبحاث والاجتماعات تتواصل لتنظر في مخرج من هذا الكساد ..
ويأتي مبدأ الترويج والدعاية والإعلان نافذة إنقاذٍ لمثل هذه البضائع المتكدّسة في المخازن أو للحرفيّين وأصحاب المهن التي استغنى عنها كثير من النّاس ببدائل أخرى أو للخدمات التي يتمنى أصحابها اكتظاظ مبانيهم بالمراجعين وطالبي القرب ، ولسنا بمأمن عن كوننا مسرحاً أو ميداناً لأي ممارسة لاصطياد زبون ..
في الغالب أنّ الجميع يَذْكُر ما كنّا نتابعه في المسلسلات القديمة من طريقة (العجلاتي) الذي يهتمّ بإصلاح إطارات السيّارات نفخاً وترقيعاً ، حيث يضطّر في أوقات الكساد لاستئجار أحد معاونيه من الصّبيان لبعثرة كثير من المسامير في طريق مرور سيّارات الحيّ ليضمن قدوم بعضهم أو أغلبهم إليه مضطرّين لإسعافاته الأوليّة وضمادات ترميمه السّوداء في سرور وبهجة ..
وهذه الطّريقة الذّكية بمقياس النظرة القديمة رغم عدم احترامها لحقوق الإنسان وارتكابها للإضرار والتغرير بالنّاس وهم في غياب عمّا يُحَاك لعجلات سيّاراتهم من مؤامرات مسماريّة ، إلا أنّها بدَت قاعدة انطلق منها جذب الزّبائن بأي وسيلة وأي ثمن وأية تكاليف خروجاً من دائرة المحرّم أو الممنوع ..
فالحَانوتيّ يصبح صباحاً بقوله : يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم ، ميّتٌ نسترزق منه يارب ، والطّبيب في المستشفيات الخاصّة يفرح بكثرة المرتادين المرضى وزيادة عدد الأمراض في الجسد الواحد ولا يمانع في إغراء مريضه باستخدام أدوية وعقاقير قد لا يحتاج لها من باب الرّزق والدّخل ، والمحامي تعجبه قضايا النّهب والسرقة والنّصب والاحتيال التي تخصّص في إيجاد مخرج للمتهمين منها ليتقاسم الغلّة معهم بعد ظهور براءتهم المزيّفة أو صدور أحكام مخفّفة مع وقف التنفيذ ..
ومن المعقول أن نستسيغ هذه التوجّهات وهذا الشعور بالامتنان عند هؤلاء لتكالب الزبائن عليهم مما يترتب عليه مصاريف خياليّة يتقاضونها وتملأ جيوبهم ، في نفس الوقت الذي ننكر فيه أخلاقية هذا الإحساس أو ذاك لما يحمله من نفس أمّارة بالسّوء ، لكنّه أمر يقع ومن ضروريات الوجود في هذه الحياة ..
الجديد هو أن ينقلب الحالُ لتنظيمات وسياسات وخطط وبرامج معدّة سلفاً لتُجبر النّاس على ارتياد أماكن الخدمة المدفوعة الثّمن اضطراراً وليس اختياراً ، وذلك من خلال حجبِ خدمة مجّانيّة معيّنة أو فعل فاضح فيه استهداف للإنسان بضرر مباشر يجعل احتياجه لتلك الخدمة ملحّاً وهو ما يأملُه المستشارون ..
ومن حقّنا أن ننسلخ من الظّنّ الحسَن لزميله السيّء أحياناً لنفهمَ أو نتوقّع ما يدور ، فالشّوارع ذات المطبّات الجغرافيّة المفتعلة بصنع المقاولين حفراً وردماً دون عناية أو مراعاة لظروف السيّارات المسكينة التي تعبت من اهتزازات الطّرق مدعاة لمراجعة العديد من ورش السيّارات وعيادات الصّيانة الباهظة الثّمن ..
والبيئة التي تشكو من هتك لكلّ أغلفتها وحرمتها بمخرجات ومخلّفات المصانع والأدخنة والأبخرة والغازات والتقصير في نظافة المدن ومحاربة الحشرات الضارّة داعٍ كبير لاصطفاف الصدور المحتقنة بالكُحّة والبلغم والعيون المحمرّة والمصابة بالرّمد والتّعشيش في كلّ أقسام الطّوارئ لدى العيادات الخاصّة صاحبة السّبق في دخول موسوعة جينس للأرقام القياسيّة بتضخّم فواتيرها ..
وحتّى ينتعش قطاع التأمين تفرض الحكومات إلزاماً على النّاس أن تؤمّن على موضوعات مختلفة وقضايا عديدة حسب طبيعة الدول والمجتمعات ممّا يجعل شركات هذا القطاع كالثيران الهائجة تفتك بكلّ ما يملكه البسيط من مال يدّخره ليوم كريهة أو لقاء عدوّ ..
وما وقود السيّارت (البنزين) ببعيد عن هذه النظريّة إذْ يشيع في مجالس العامّة أنّ تنقيته وتخفيفه وتقليل نسبة الرّصاص فيه وتسميته (بالممتاز) أو درجة أولى ونحو ذلك من باب الحرص على محرّكات وبطون السيّارات الفارهة إنما هو لزيادة استهلاكه وتبخّره أكثر من ذي قبل ليضطّر قائد السيّارة أن يحفظ أماكن المحطّات في مدينته أو قريته لكي لا يقع في موقف يحرمه من الوصول لدوامه مبكّراً ..
جعَلني هذا الأمر أفكّر حتى في الأطعمة سريعة الهضم المنتشرة هذه الأيام والتي تعقبُكَ جوعاً محرقاً أكثرَ من حالة الجوع التي كنتَ فيها قبل تناولها لأتّهمَ مصنّعيها بأنّهم قصدوا ذلك حتّى يكون احتياجك لها دائماً ومتزامناً مع رغبتهم في المحافظة على القدر المضمون من نقود الجائعين وثرواتهم ..
لا أودّ أن أكونَ متشائماً لكنّ مسامير العجلاتي أثّرَت في كلّ شيء حولنا بسلبيّة واضحة يتعذّر معها القول بأنّ الاحتياج للخدمات جميعاً من ضروريّات الحياة العاديّة ..
وكما قالَ الجِدَار للمسمار يوما : لِمَ تَشُقّني ؟ فأجاب المسمارُ : اسأَلْ من يدُقّني ..
التعليقات (0)