العثمانيون الجدد في مستنقع الأرمن.
منذ وصول حزب " العدالة والتنمية " الى رأس هرم السلطة في تركيا، بدأت تلوح في الأفق بوادر تغييرات حقيقية في سياسة البلاد الخارجية على الخصوص. وقد كانت آخر تجليات و تداعيات هذه الاستراتيجية الجديدة في تركيا تتمثل في استدعاء أنقرة لسفيرها في واشنطن على خلفية القرار الصادر عن لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، والذي دعا الرئيس باراك أوباما الى التعامل مع الأحداث الدامية في شبه جزيرة الأناضول بين عامي 1915 و 1917 باعتبارها حرب ابادة شنها الأتراك ضد الأرمن. وقد شكل هذا الملف على الدوام عائقا حقيقيا أمام طموحات تركيا الأوربية على وجه التحديد.اذ ظلت كل الحكومات التركية المتعاقبة ترفض الاعتراف باقتراف العثمانيين مذابح ضد الأرمن... لكن قرار المشرعين الأمريكيين يمثل سابقة خطيرة في العلاقات الأمريكية التركية، ويضفي على الملف المذكور مزيدا من الحساسية والتعقيد.
لا يمكن فهم الموقف الأمريكي الجديد الا اذا تم استدعاء اعتبارات متعددة. ولنتفق أولا أن الأمر لا يتعلق بمجرد قرار تشريعي يحاول الأمريكيون من خلاله تسليط الضوء على واقعة مؤلمة في التاريخ البشري من منطلق دورها القيادي في العالم. والا فالادارة الأمريكية والكونغرس مطالبان باستصدار عشرات القرارات المشابهة، بل انهما سيكونان مطالبين بادانة الحكومات الأمريكية نفسها، والتي تتهم بممارسة هذا النوع من الحروب في غزواتها العسكرية المتعددة، بالاضافة الى سكوتها فيما يتعلق بجرائم أكثر فظاعة مثل ماحدث في كمبوديا على يد النظام العسكري بقيادة " بول بوت" سنة 1978، أو خلال الحرب الأهلية بين " الهوتو" و " التوتسي " في رواندا سنة 1994 و كذا المجازر الوحشية التي يرتكبها الاسرائيليون في حق الفلسطينيين، وحرب غزة الأخيرة احدى الشواهد الحية في هذا المقام.
وحرب غزة بالمناسبة هي احدى المداخل المهمة لفهم دلالات قرار الكونغرس الأمريكي بوصف ماحدث بين الأتراك والأرمن ب " حرب ابادة ". ولأن السياسة هي فن الممكن، فان رئيس وزراء تركيا " رجب طيب أردوغان " لم يقرأ كل الاحتمالات الممكنة عندما أخذته عاطفته الدينية و (الانسانية) خلال منتدى دافوس الاقتصادي بسويسرا في فبراير 2009، حيث واجه الرئيس الاسرائيلي " شيمون بيريز " بشجاعة كبيرة ( في ظل صمت عربي مطبق) ، واتهم الاسرائيليين بكونهم قتلة أطفال تنديدا بما حدث قبل ذلك بأسابيع قليلة في غزة من مجازر في حق الفلسطينيين. كانت هذه الحادثة الشهيرة اهانة كبيرة لاسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية. وتطاول رئيس الوزراء التركي على قادة اسرائيل ما كان ليمر مرور الكرام طبعا. وبالرغم من أن القرار الأخير لا يرقى الى مستوى القانون، فان تبعاته ستكون سلبية على المساعي التركية لتجاوز الماضي وبناء سلام دائم في منطقة القوقاز من بوابة التطبيع مع أرمينيا... وتنضاف الولايات المتحدة الأمريكية بذلك الى فرنسا وكندا اللتين أقرتا سابقا مفهوم الابادة في وصف تلك الأحداث المؤلمة، وهو مفهوم ترفضه تركيا جملة وتفصيلا. وهكذا يزيد الخلاف حول ما حدث في تلك الحقبة من أحداث في ابعاد تركيا أكثر فأكثر عن حلمها في الانضمام الى الاتحاد الأوربي. ويبدو أن الأتراك مازالوا حتى الآن يراهنون على الوقت و الجهود الديبلوماسية للتقارب مع ارمينيا وطي صفحة الماضي بأقل الخسائر الممكنة. والأتراك يعرفون جيدا خطورة الاقرار بالابادة الجماعية في حق الأرمن، فالاعتراف بذلك سيجر على أنقرة ويلات كثيرة لا تتوقف عند الحدود الأخلاقية فقط، بل ترتبط أيضا بالمسؤولية الجنائية، وما يترتب عنها من مطالب بجبر الضرر والتعويض المادي الذي سيثقل - لا محالة - كاهل الاقتصاد التركي.
من الواضح اذن أن اللوبي اليهودي النافذ بقوة في ردهات مراكز القرار في واشنطن، كان المشرف المباشر على هذا القرار الجديد. والرسالة التي يحملها هذا الموقف الأمريكي بالواضح والمرموز تدعو أنقرة الى التزام حدودها في لعبة توزيع الأدوار، وخصوصا ما يتصل بالأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، حيث نجحت الادارة التركية بديبلوماسيتها النشيطة في فرض نفسها كفاعل أساسي في المنطقة خلال السنوات القليلة الأخيرة. ويبدو أن توصية لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس بمثابة عصا في عجلة تركيا، لا بد أن تؤثر في سرعة عودة العثمانيين الجدد الى الواجهة الدولية.
محمد مغوتي.05/03/2010.
التعليقات (0)