تحدثنا سابقا عن الهبات الأربعة التي وهبها الله تعالى للإنسان ، وذكرنا أنها تشكل المادة الخام للإنسان ، والتي تمثل عملية تطويرها الحكمة الأساسية والوظيفة الحقيقة لوجود الإنسان ، وتحدثنا في المقالة الأخيرة عن تطوير هبة العقل ومفهوم العتبة الفكرية ، واليوم سنتحدث عن الهبة الثانية ومفهوم العتبة الروحية والتي تمثل عملية تطوير لهبة الروح (وهي القيمة اللامادية للإنسان)
إن هذه القيم اللامادية تتعلق بمفهومين : المفهوم الأول : يتعلق بالقيمة الروحية للفرد في المجتمع والتي تشكل مجموعة الأفكار والمعتقدات التي يملكها الفرد حول المفاهيم الغيبية والتي لا يمكن لعقل مادي أن يدركها ولا بد من عقائد تفسرها ، وتؤمن هذه القيمة استقرار المجتمع الداخلي
يمكن لأي باحث في هذا المجال أن يلاحظ فراغا روحيا واضحا لدى المجتمعات المعاصرة ، ويفهم ذلك من خلال الاندفاع الواضح للإنسان المادي المعاصر باتجاه الإلحاد المطلق لنبذ جميع هذه المعتقدات والأديان التي أعيت عقله وأجهدته نتيجة تناقضها وعدم تناسقها وسهولة إبطالها بالأدلة العقلية
بينما تجد المجتمع الإسلامي الصحيح عاش تاريخيا في ظل استقرار روحي وعقائدي غير مسبوق في تاريخ البشرية ، وسبب ذلك قدرة العقيدة الإسلامية على احتواء التسارع التقني والمادي للإنسان ، وتناسقها (إلى حد ما وليس بالمطلق كما يقول المعتزلة) يمكن للعقل المادي أن يتقبلها ويستدل على صحة محتواها لعدم وجود تناقض وتضاد في مضمونها
المفهوم الثاني : ويتعلق بالقيمة الأخلاقية للفرد في المجتمع ، ولا نتحدث هنا عن القانون داخل المجتمع إنما نتحدث على المستوى الفردي ، فلا بد لكل فرد في المجتمع ليكون فاعل اجتماعيا أن يكتسب حد أدنى من القيم الأخلاقية تؤمن كذلك استقرار المجتمع الداخلي
ولم أجد في تحديد هذا الحد الأدنى الذي يمثل العتبة الأخلاقية أجمل من قوله صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" وهذه الشعب لابد لكل فرد في المجتمع أن يملكها نظريا وتطبيقيا
فهذه القيم الأخلاقية بحدها الأدنى لا بد أن تتحول إلى قيمة تطبيقية وظاهرة تفاعلية ضمن المجتمع ، وأجمل ما يقال في ذلك قول سيدنا عمرو بن عبد العزيز رضي الله عنه : "كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون" بالتالي فالهدف من هذه القيم الأخلاقية هو ظاهرة اجتماعية تطبيقية
إن مجموع هذه القيم بحدها الأدنى الذي ذكرناه يمثل العتبة الروحية والأخلاقية في المجتمع ، والتي تؤمن التماسك الداخي للمجتمع ، ويتجلى ذلك بقوله تعالى : "وألف بين قلوبهم ، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم" ، حيث أن كل القوانين الوضعية غير قادرة على صنع هذا التماسك ضمن المجتمع
ونهاية : لا بد أن تعلم أن هذا التماسك وظيفة النخبة الاجتماعية (الدعاة والمصلحون) والأفراد الموجودة ضمن هذه العتبة الروحية ، والتي تتمثل وظيفتها الأساسية في إنقاذ المجتمع وتأهيل الأفراد ما دون العتبة روحيا وأخلاقيا ونقلهم باتجاه العتبة ، وهذا ما يمكن أن تفهمه من قول الفاروق عمر رضي الله عنه : "نحنا دعاة وهداة لاطغاة ولا جباة" وهذا هو جوهر الإنسان
وما يجب أن تعلمه أيضا ولا تستريب فيه أن تقاعس هذه النخبة (المصلحون وليس الصالحون) عن وظيفتها في عملية التأهيل هذه هو السبب في انحلال المجتمعات المعاصرة وانزلاقها في مستنقعات ودروك الحيوانية ، وتاريخيا كان السبب في العذاب الإلهي للكثير من الشعوب وهذا ما نفهمه من قوله تعالى : (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)
التعليقات (0)