أخيرا, لم يطرق العصر الحديث باب عالمنا العربي طرق من يطلب الاستئذان. اقتحمه اقتحاما بعد طول صد وانتظار. دخله فجأة, فاتحا, بكل ما تعنيه كلمة الفتح. فتح للداخل ومن الداخل, بسواعد وهمم وعقول الشباب المتفتح المتنور الواعد من أهل الداخل. فتح من أبناء هذا العصر وبوسائل العصر. فتح لكل الأبواب والنوافذ المغلقة, وكشف لكل الأسرار المظلمة, المحكمة. فتح منطقة كان يقدر لها أن تبقى خارج هذا العصر وخارج مسار التاريخ, أن تبقى جزيرة معزولة تتحكم بها عقول ما قبل حضارية, ما قبل سياسية, لا ترتبط بقيم الماضي ولا بمعطيات الحاضر, مغلقة على كل مستقبل, وصولا إلى الانسداد الكامل. فتح ليس بمعنى الغزو أو الفتوحات القادمة من الخارج ولا على غرارها, ليس بعقليتها ولا بأساليبها. فتح للوطن على الحياة الحرة الكريمة. فتح يضع المواطن في وطنه وفي زمنه كإنسان ومواطن. فتح للعقول والقلوب والأذهان وتحريرها مما علق بها عبر عقود وعقود من الطغيان, من ارث عبادة الشخصية وتأليه الأوثان. فتح غير مسبوق في التاريخ العربي.
لم يأت هذا الفتح لمجرد إصلاح ما فسد وتداعى, وتخلف, وإنما لتغيير جذري يرقى إلى درجة الثورة على كل ما يعيق دخول الحداثة وبناء المجتمع, وبناء دولة القانون والديمقراطية, دولة المؤسسات وحقوق الإنسان.
قد يفيد الإصلاح إن كان لإعادة شيء معيب إلى طبيعته, أو شيء غير ملائم إلى الملائمة, أو شيء أصابه بعض التشوه إلى حالته السوية السابقة. أو من حاد به الرشد إلى رشده. أو المنحرف إلى خط سير مستقيم.
ولكن هل يفيد إصلاح صرح متهاو عابت أسسه, وتآكلت دعائمه وتصدع هيكله؟.هل يفيد في ذلك مجرد الترميم؟. وهل بالإمكان إصلاح عقل فقد نهائيا ميزة الإدراك السليم والاستيعاب, ولو في حدوده الدنيا, والوثوق به وبإدارته؟. إصلاح مكابر أخذه الغرور وقادته السلطة إلى الطغيان والتسلط؟. إصلاح أنظمة قامت بالنقيض لطبيعة الأشياء. بُنيت على الفساد وكرست نفسها دكتاتوريات بوسائل القمع والقهر, فأخرجت الدولة عن طبيعتها ووظيفتها ومهامها, ودمجتها برأس السلطة التنفيذية, الذي أصبح الدولة والسلطة معا, ومعبود الجماهير. (تخرج الجماهير للتراقص بالتلويح بصوره وعلى محبته وهواه, كما كانت تتراقص جماهير المرحوم مايكل جاكسن على ضوء الشموع وولاعات السجائر). فهو العالم والمعلم, المخطط والاستراتيجي, المفكر والمبدع, العسكري والمدني. المركز الذي تبدأ به الأشياء واليه تنتهي. فيه نفحات فوق بشرية, وقدرات غير عادية !!!. وقد رأى العالم أجمع حقيقة من سقط من هؤلاء, تلاحقهم فضائحهم, من أية طينة مصنوعين. و بأية عظمة كاذبة مسكونين.
هل على مثل هذا, وبمثل هؤلاء, يمكن إعادة بناء الدولة الحديثة؟. هل على مثل هذا, وبمثل هؤلاء, يمكن إعادة بناء الإنسان؟ هل بمثل هذا, وبزعامة مثل هؤلاء, تزدهر الأوطان ويؤتمن على الإنسان؟. هل لمثل هذا, وضد مثل هؤلاء, بديل عن الثورة؟ ولكن هل يكون هناك ثورة جديرة باسمها إن لم تتجسد في قيم حضارية ومبادئ أخلاقية وقانونية, تتضافر لرفاه وحماية الإنسان؟. وأسس عصرية لبناء دولة الديمقراطية والمؤسسات وحقوق الإنسان؟.
ما قبل الثورة أطاحت به الثورة, وأصبح يُذكر إن ذُكر الماضي الأليم المظلم, وذُكرت الهزائم العسكرية, والأزمات الاقتصادية, وإفساد البُنى الاجتماعية, وتخلف المستويات الثقافية, وذُكر القهر واضطهاد الإنسان. وكلما أُريد التأريخ للفساد والطغاة و للطغيان.
الثورة غير جديرة باسمها إن اكتفت بما قامت به إلى الآن, على أهميته وعظمته, من إسقاط لرؤوس نظم استبدادية وبعض من أزلامها, وهز أخرى عنيفا وحتى السقوط. أمامها مهام إكمال إسقاط النظام القديم كل النظام, ليصبح عهدا بائدا. النظام المسمى تجاوزا نظاما ليس في حقيقته إلا مجرد تنظيم "عصابي" يضبط وينظم قدر الإمكان تقاسم ميزات ومنافع ومغانم السلطة, وحماية مراكز ومصالح المتقاسمين. يصدر قوانين وأنظمة تضمن مصالح التنظيم /النظام, ومع ذلك لا يحترم قوانينه وأنظمته التي وضعها بنفسه. يلعب خارجها كلما اقتضت منافعه. ويسلطها على رقاب الرعية كلما اقتضت مصلحته. ومنافعه ومصالحه دائمة, غير مشبعة ودائمة الاقتضاء.
الثورة العربية المنتصرة إلى الآن, والساعية للانتصار في كل مكان في وطننا, ليست ثورة عنف وسلاح ودماء, كما يوحي به اسم الثورة للأذهان. ليست على غرار الانقلابات العسكرية, المنتحلة اسم الثورة. الثورة في تونس ومصر كانت ثورة الشعب, سلاحها التظاهر السلمي والاحتجاجات والاعتصام, لم يرفع الثوار سلاحا ولم يهاجموا بعصي, ولم يقذفوا حجرا, دفعوا ثمن سلميتهم هذه غاليا, و انتصروا سلما. وهذه تجربة غير مسبوقة, وتعديل جوهري لمفهوم الثورة, بنقله من مفهوم السائد, العنف, إلى اللاعنف.
الثورة التي جاءت فتحا سلميا حضاريا في العالم العربي ليست "الربيع العربي" كما يُطلق عليها. الربيع فصل مؤقت يعقبه صيف وخريف وشتاء. والثورة ليست مؤقتة تزدهر حينا ثم تذبل ويصيبها الجفاف. الشهور والفصول العربية, بما فيها الربيع, عرفت انتكاسات والآم شعبنا, "تشرين", و"الفاتح " من سبتمبر من شهور فصل الخريف ", و"آذار" من الربيع. و"شباط " من الشتاء. وهزائم الصيف في حزيران وتموز. مجازر ومآسي الاستبداد العربي عمرها عقود وفصولها غير كل الفصول.
الثورة ليست فصلا في كتاب يُكتب الآن ثم يُطوى, ولا فصلا من فصول الطبيعة يدخل برهة وينتهي. هي انطلاقة مسيرة تصبح الوقت كله. مهامها دائمة متجددة وغير منتهية بما تحمله من مشروع يحمل البناء, بناء الدولة, بناء المجتمع, وبناء الإنسان. وطالما أن الدولة مشروع غير منته, والمجتمع غير ساكن, والإنسان خلق وإبداع وتطور مستمر, ومنه تكون الثورة حركة ومسيرة, عنيفة أحيانا, هادئة أحيانا أخرى, شديدة الهدوء غالبا حتى يظن أنها السكون.
الثورة الفرنسية العنيفة الدموية عام 1789, على سبيل المثال, لم تكن مجرد ربيع فرنسي. إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي هو احد معطياتها, لم يكن مجرد ربيع في تلك الحقبة, وإلا لكان قد ذهب به صيف وخريف وشتاء سنوات وسنوات تعاقبت عليه لأكثر من قرنين. بقي فوق كل الفصول, رغم ما مر به من انتكاسات في مجال التطبيق, شعلة دائمة منيرة إلى يومنا هذا, بفضل استمرار الروح المتطورة فيه. وتطلبت استمراريته حركة دائمة أخرجته من مجرد مبادئ نظرية أخلاقية وقيم روحية, لتصيغه قواعد, ملزمة, دستورية وقانونية لها الصفة الدستورية, تطبيقها مراقب من قبل المحاكم, ومعاقب على مخالفتها. وقد جهدت الدساتير العالمية على تضمينه في نصوصها. أي دستور يخلو اليوم مما جاء في هذا الإعلان؟ أي قانون يمكن أن يذهب علنا بالتناقض معه ويحظى مع ذلك على قيمة أو احترام (حتى دساتير وقوانين الأنظمة الشمولية أدرجته, "بجاعة" وخداعا, في نصوصها !!!) .لا ينتقص من قيمته اختراقه ومخالفته هنا وهناك. ومع تغيير مضامين ومعايير واتساع وعمق مفهوم حقوق الإنسان عبر القرون, فان المفاهيم الجديدة لم تقطع مع القديمة, وإنما عرفت تطورا طبيعيا لها, فرضته معطيات العصر, وحمله النضال المستمر العنيف حينا, والهادئ أحينا, وغير المريء غالبا, من اجل التطور مع العصر وتطوير العصر نفسه.
لا يرقى الفتح العربي الى ثورة إن أبقى على ما كان قائم قبل الثورة حيث انتصرت. لقد وجد الإنسان نفسه بالثورة وبعدها ــ ويجدها الثائر الذي لم تنتصر بعد ثورته ــ تحرر, وامتلك أداة البناء. وجد نفسه مواطنا بحقوق وواجبات غير منقوصة , إنسانا بكرامة وإرادة ومسؤوليات. مسؤوليات التصدي للثورة المضادة, مسؤوليات بناء الدولة دولة القانون والديمقراطية. الدولة التي لا يمكنها إعادة إنتاج الاستبداد ونُظُمه.
الفتح العربي الجديد بداية مسيرة في طريق طويل, المبشر والواعد فيه أن عماده ومحركه الشباب, اندفاع وحذر الشباب, العقل والذهن المتفتح للشباب. الشباب الذي قلب كل المعادلات التي كانت قائمة بإسقاطه النظام العربي وعقليته. ويسعى لإسقاط كل ما تبقي من أدوات على جوانب هذا النظام من مؤيدين, ومعارضين لا يختلفون في طينتهم عن المؤيدين, والأحزاب الحاكمة النفعية, والأخرى المعارضة الباهتة "المخصية". والمنظومات الفكرية والإيديولوجية, والتنظيرية, والدينية المتطرفة, والطائفية, والعشائرية, وكل متربص يسعى ليكون بديلا للنظام البائد وخلفا له على شاكلته. وكل متربص بالصحوة والثورة والشباب.
د.هايل نصر
التعليقات (0)