العائدون من رحلة الموت.
على مدار تسعة و ستين يوما عاش ثلاثة و ثلاثون عاملا من عمال المناجم في الشيلي قصة ستروى للأجيال القادمة بكل تفاصيلها التي تحتفظ بها ذاكرة العمال، و تلك التي وثقتها وسائل الإعلام منذ بدأت عملية الإنقاذ الأكبر من نوعها في تاريخ المناجم.
هناك في منجم " سان خوسيه " للذهب و النحاس في صحراء " أتاكاما " شمال الشيلي بدأت الحكاية يوم 5 غشت، حينما تسبب انهيار أرضي ضخم في إغلاق منافذ المنجم، و في أثناء ذلك كان يتواجد بداخله عدد من العمال الذين وجدوا أنفسهم منعزلين عن العالم الخارجي على عمق يبلغ 622 مترا تحت الأرض في مواجهة موت بدا محققا في نظر الجميع، خصوصا عندما أعلن وزير المناجم في الشيلي أسبوعا بعد الحادثة أن فرص العثور على أحياء باتت ضئيلة جدا... لكن تاريخ 22 غشت شكل منعطفا فاصلا في مأساة العمال القابعين في غياهب المنجم. حيث التقط مسبار فضائي أمريكي رسالة كتبها أحد العمال على ورقة صغيرة يقول فيها: " نحن بخير جميعنا ال33 في الملجأ". و كانت الرسالة إيذانا بوجود أحياء داخل المنجم لتبدأ رحلة إنقاذ طويلة ساهمت فيها الخبرات التكنولوجية لوكالة الفضاء الأمريكية " ناسا " بشكل كبير سواء في إمداد المحتجزين بالأدوية و الأغذية و المياه أو من خلال عملية حفر البئر التي كانت طوقا لنجاة العمال.
قيمة العلم و التكنولوجيا، الإرادة و الإصرار على النجاح، الشجاعة و الصمود، و قبل كل هذا: تقدير الإنسان و الإنتصار للإنسانية. إنها العناوين و الدروس المستخلصة من عملية الإنقاذ التاريخية التي عرفت اهتماما إعلاميا منقطع النظير في أكثر برامج " تلفزيون الواقع " صدقا و إثارة للمشاعر. و طيلة المدة التي استغرقتها عملية الإنقاذ تحول العمال العالقون في المنجم إلى أبطال حقيقيين في عيون الشيليين الذين اعتبروا قضيتهم شأنا وطنيا عاشوا تفاصيله لحظة بلحظة بكل أمل في نهاية سعيدة لمأساة إنسانية حقيقية. لذلك فإن حدثا تاريخيا من هذا النوع أظهر أن الإنسان كائن يتمتع بقدرات خارقة من الرائع جدا لو استغلت في خدمة الإنسانية. و سيظل يوم 13 أكتوبر موعدا سنويا يتوقف عنده الشيليون طويلا لتذكر ملحمة ملأت الدنيا و شغلت الناس خلال أكثر من شهرين في صراع بين الإنسان و الطبيعة، انتصرت فيه العزيمة و حب الحياة على مارد الموت الذي كان قريبا من رقاب عمال المنجم الأسطوريين. و لا مناص أن محنة العمال ستفتح نقاشا واسعا في الشيلي و في غيرها من دول العالم حول الظروف التي يشتغل فيها عمال المناجم، و التي تتكرر فيها حوادث مماثلة يذهب ضحيتها عدد كبير منهم في رحلات عذاب يومية نحو أعماق الأرض من أجل لقمة العيش.
لابد أن حياة جديدة تنتظر " فلورينثيو أفالوس" ( أول العمال الناجين) و رفاقه بعد عودة مظفرة من رحلة الموت في أعماق منجم " سان جوزيه ". و قد لا يفكر أغلبهم في العودة مجددا إلى هذا المكان حتى لا توقظ الذكريات كابوسا استمر تسعة و ستين يوما من الموت البطيء. محمد مغوتي.14/10/2010.
التعليقات (0)