بداية لابد من السؤال الاتي : هل العرب محكوم عليهم بالهزيمة دائما ؟ . ام ان حالهم حال كل الامم عرفوا الهزيمة والنصر ؟ . وهل نصر الامم مرهون بمقومات قادتهم , ام بتاريخهم ومقومات النصر المادية ؟ .
للاجابة على هذه الاسئلة نقر :
1 . ان المنطقة العربية وخاصة المشرق العربي قد شهدت كل المواقع والاحداث التاريخية التي كونت التاريخ البشري الانساني .وعلى ارضها سارت مواكب الجيوش المنتصرة والجيوش المهزومة , وعليها تكالبت الدول والامبراطوريات بدعوى انها تفيض " لبنا وعسلا " . فمنذ قرون قبل الميلاد شهدت هذه المنطقة صراع القوى الكبرى من الشرق ومن الغرب , صراعا استمر لسنوات طويلة بين امبراطوريتي اليونان والرومان في الغرب , ودولتي الفرس والاتراك السلاحقة في الشرق . وصراعا بين الدولة العربية الاسلامية الجديدة وبين الرومان والفرس معا , وكانت الغلبة للعرب عليهما في معركتي القادسية واليرموك .
2 . ارتبط المد العربي الاسلامي منذ نشأة الدولة في عهد الرسول العربي الكريم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) , ومن ثم في عهد الخلافة الاموية والعباسية , برموز قيادية متميزة في العطاء والابداع والايمان والشجاعة والعدالة , وقد ارتبطت الاحداث التاريخية بهم , سواء كانت تلك الاحداث عسكرية او علمية او اجتماعية . فالخلفاء الراشدون لهم بصماتهم المتميزة في هذه السمات الانف ذكرها . اما الخلافة الاموية فقد ارتبطت بعدد من الخلفاء مثل معاوية وعبد الملك بن مروان والوليد ابن عبد الملك , وعمر ابن عبد العزيز . اما الخلافة العباسية فقد شهدت رموزا قيادية تركت بصماتها على التاريخ العربي الاسلامي مثل ابو جعفر المنصور وهارون الرشيد , والمأمون .
وعندما انهارت الدولة العباسية كانت الغزوات الصليبية قد حققت بعض غاياتها واهدافها باحتلال المقدسات الاسلامية , ولكن عمليات تحريرها , كانت على يد قادة عظماء امثال صلاح الدين الايوبي , ونور الدين زنكي وابنه عماد الدين زنكي .
3 . بالمقابل كل الانهيارات والانكسارات التي ابتليت بها الامة العربية كانت في زمن زعماء ضعفاء رهنوا مصائر الامة بايدي قادة عسكريين اجانب , وركنوا الى الهدؤ والدعة والركض وراء الملذات وجمع الاموال . ومن خلالهم تسلل الاجانب الى قلب الدول العربية قديما وحديثا . فالفرس والسلاجقة تسللوا في عهد زعماء ضعاف في زمن الخلافة العباسية . والصليبيون دخلوا الى المدن العربية بسبب خنوع الامراء انذاك واستسلامهم للغزاة , وسلمت القدس للصليبين في زمن زعماء خانعين اثروا السلامة لانفسهم وعائلاتهم واموالهم .
4 . القادة العظام يخرجون من بيئة حضارية مكتملة السمات الجغرافية والاقتصادية والثقافية والروحية والاجتماعية . فمثل هذه البيئات تنتج حتما عظماء في شتى المجالات .
5. التاريخ يعيد نفسه في المعاني والدروس والعبر , ففي العصر الحديث ارتبط تاريخنا بقادة مميزين امثال جمال عبد الناصر وصدام حسين وياسر عرفات , بدليل انهم ماتوا او قتلوا بمؤامرات معروفة للجميع . وتهاوت دول عربية وتسلل الاجانب اليها وتم غزوها من خلال زعماء وصوليين وعملاء "علاقمة" ـ نسبة الى ابن العلقمي ـ , فتحوا ابواب بلادهم للاجنبي كما حصل في العراق , وما يحصل الان في اكثر من قطر عربي بدعوى الحراك الشعبي والثورة على التسلط والديكتاتورية .
6. تكالبت القوى الكبرى قديما وحديثا على بلادنا العربية , لانها بلاد تدر لبنا وعسلا حقا . فمن حكمة الله تعالى ان بارك هذه الارض فانزل كل الانبياء والرسل فيها وفوق اديمها , واحتضنت الارض رفات الانبياء والرسل والعظماء , وهاهي مقابرهم ومقاماتهم تملؤ هذه الارض . وصارت المعابد والمساجد والكنائس والكنس محجا للزائرين من كل اتباع الديانات السماوية . واختزنت ارض العرب كل الثروات التي يحتاجها الانسان في الحياة البشرية والتقدم الحضارة ففيها النفط والحديد وباقي المعادن الاخرى , وفوق ارضها تجري اعظم الانهار التي تبعث الحياة الكريمة . والانسان العربي الذي كرمه الله بحمل رسالات السماء الى كل البشر هو الذي اشاد الحضارة الانسانية التي افاضت بالخير على الامم كلها .
7 . من السياق الاتف ذكره يتبين لنا ان الامة العربية لم تعش مسيرتها في خط مستقيم , بل كان خطا متعرجا في الزمان والمكان , فعاشت في مد وجزر , هبوط وارتفاع . وكانت تنهض دائما بعد كل نكسة من بين الرماد , تنهض بفعل مؤثرات روحية او بفعل رمز قيادي يستنهض الههم في ابناء الشعب , فيتغلبون على ضعفهم وركودهم واستكانتهم .
سبات طويل :
منذ ان سقطت الدولة العباسية لم تعش الامة العربية في حالة تهوض دائمة . بل عاشت في مد وجزر , الى ان خضعت الى الحكم العثماني طيلة 400 سنه . وفي تلك المدة تخلف العرب , وتفشت الامية والفقر والجهل , بسبب التهميش الذي مارسه الحكم العثماني للعرب , حتى انهم حرموا في اواخر الحكم العثماني من حق التكلم بلغتهم في المدارس او كتابة عقود زواجهم باللغة العربية ايضا . وما ان كاد العرب ينالون استقلالهم بعد الثورة العربية الكبرى حتى جاء الاستعمار الغربي البريطاني والفرنسي , الذي زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي , ليشكل خنجرا في هذا القلب , يحول دوت سريان الدم الى كل اجزاء الجسم .
وبسبب هذه الاوضاع سهل على العصابات الصهيونية ان تتمكن من الارض العربية واقامة المستوطنات فوقها بمعونة القوات البريطانية التي كانت تحتل فلسطين , ومن ثم التغلب على الجيوش العربية في حرب عام 1948 , رغم ان الجيوش العربية كان عددها سبعة جيوش , ولكنها كانت متفرقة لا تأخذ اوامرها من قائد واحد .
ورغم هذا السبات نهض العرب من تحت الرماد , فقامت ثورات كبيرة في فلسطين وفي مصر والعراق وسوريا , وطردت الاستعمار المباشر من هذه البلدان , واستدركت القوى الاستعمارية مختطر هذه الثورات , فأثرت الانسحاب من باقي البلدان العربية مقابل وضع رموز قيادية تابعة لها , تنفذ رغباتها واهدافها , وفي مقدمة هذه الاهداف منع قيام الوحدة العربية او التضامن العربي في حده الادنى . فغذت النعرات المذهبية والطائفية والدينية , وما نشهده اليوم هو ثمار تلك السياسة الاستعمارية القديمة .
هزيمة حزيران :
جاءت هزيمة حرب حزيران نتيجة هذه الاوضاع العربية المتردية , حيث الانقسام القطري , والتخلف الاقتصادي في معظم الاقطار العربية , اضف الى ذلك الانانيات التي يتسم بها الزعماء العرب .
الهزيمة كانت مدوية حيث حطت من الروح المعنوية لدى الانسان العربي , وهزت ثقته بالقيادات العربية . الامر الذي دفعه الى الانتماء الى الفصائل الفدائية التي برزت كرد على الهزيمة الرسمية . العمل الفدائي شكل بارقة امل لابناء الامة , واندفع الشباب العرب نحو العمل الفدائي بهدف تحرير فلسطين .
لقد اعاد العمل الفدائي بعد الهزيمة الى الذهن الصهيوني الثورات الفلسطينية في عقدي ثلاثينات واربعينات القرن الماضي , فعقدت العزم على ضرب العمل الفدائي في الاردن قبل ان يقوى ويتجذر في الحياة العربية . فاقدمت الحكومة الصهيونية على خوض معركة الكرامة في الحادي والعشرين من اذار من عام 1968 .
الاهداف الصهيونية :
1 . اولى الاهداف الصهيونية طرد فصائل الفدائيين من مواقعهم على ضفة نهر الاردن الشرقية .
2 . لتحقيق الهدف الاول لابد من احتلال المرتفعات الشرقية في محافظة البلقاء في الاردن , لضمان امن كيانهم الاستيطاني ,وابعاد خطر الفدائيين عنه .
3 . تدمير قوات الفدائيين العرب في مواقعهم , في غور الاردن .
4 . تحطيم المعنويات الاردنية بعد النهوض الذي حدث بفعل الوجود الجديد للعمل الفدائي .
5 . ارغام الاردن على قبول السلام المفروض من قبل الكيان الصهيوني .
اعتقادات صهيونية :
1. استهانة الصهاينة بالجيش الاردني , وبالجيوش العربية , بعد تجربتي عامي 1948 و 1967 .
2. اعتقادهم ان الروح المعنوية عند العرب في ادنى مستوياتها بعد هزيمة حزيران .
3. اعتقادهم أن الجيش الاردني لم يستعد تدريبه وتسليحه .
4. اعتقادهم ان الاردن لم يتمكن من اعادة سلاح الجو .
5. الخلافات بين الفصائل الفلسطينية سهلت مهمة القوات الصهيونية في خوض معركة سهلة في غور الاردن .
دور الفصائل الفدائية :
من خلال الرصد المسبق ادركت الفصائل ان العدو سوف يشن هجوما عسكريا عليها , فاتخذت استعداداتها المسبقة كالاتي :
1 . توزيع عدد من المقاتلين في قرية الكرامة وعلى اطرافها للدفاع عنها .
2. زرع كمائن على امتداد الطريق المتوقع ان يسلكها العدو اثناء هجومه .
3 . سحب العناصر المتبقية الى المرتفعات لمقاتلة العدو اذا تمكن من الوصول اليها .
دور القوات الاردنية :
قاد القوات الاردنية في الميدان كل من ـ
الملك الحسين ابن طلال
الفريق عامر خماش
اللواء مشهور جازي حديثه
كان للاستخبارات الاردنية دور كبير في كشف نوايا العدو قبل العدوان , فاخذت القوات الاردنية استعدادها مسبقا .وكانت المدفعية الاردنية جاهزة للرد على قطعات العدو المهاجمة , وتدميرها قبل وصولها الى اهدافها . كما كان للدروع دور كبير في الدفاع ومن ثم الهجوم المعاكس ومتابعة فلول العدو المنسحبة دون تنظيم . وسجل اللواء ال60 والكتيبة الخامسة دورا كبيرا في افشال خطة العدو .
قوات العدو :
تشكلت قوات العدو المهاجمة من :
4 الوية .. لواءان مدرعان ( اللواء السابع واللواء ال60 ) . ولواءان مشاة ( لواء مظليين 35 , ولواء مشاة 80 ) , اضافة الى 5 كتائب مدفعية عيار 155 ملم و 105 ملم .وكذلك وحدات هندسه واربعة اسراب جوية و35 طائرة سمتية لنقل المظليين , وبهذا قدرت قوات العدو ب 15 الف جندي .
نفذت قوات العدو هجومها من ثلاثة محاور :
ـ محور من جسر الامير محمد باتجاه مثلث المصري ـ طريق العارضة .
ـ محور من جسر الملك حسين باتجاه الشونة الجنوبية والى وادي شعيب ومنه الى السلط .
ـ محور من جسر الملك عبدالله ( سويمه ) الى غور الرامه ـ ناعور , ومنه الى عمان .
ـ ومحور رابع للتمويه اتجه الى غور الصافي ثم الى الكرك .
امتدت المعركة من الساعة الخامسة والنصف صباحا وحتى الثامنة مساء .وكان هدف المعركة العسكري احتلال جبال السلط لتصبح بمثابة جنوب لبنان او الجولان , اي منطقة خالية من كل قوة للعرب , سواء كانت نظامية او فدائية .
فشل الهجوم بفعل كثافة نيران المدفعية الاردنية , وسرعة حركة الدبابات الاردنية التي قامت بالهجوم المعاكس وكبدت العدو خسائر كبيرة في الارواح والمعدات , وكانت خسائره كالاتي :
ـ 250 قتيل و 450 جريح .
ـ 88 ألية منها 27 دبابة ,و 18 ناقله و24 سيارة مسلحة و18 سيارة شحن وطائرة واحدة .
اما خسائر الاردن فكانت 86 شهيد و 108 جرحى , و13 دبابة و 39 ألية .
ردود الفعل :
ـ قالت صحيفة نيوزويك الامريكية " قاوم الجيش الاردني المعتدين بضراوة وتصميم , ونتائجها جعلت الملك حسين بطل العالم العربي .
ـ قال حاييم بارليف رئيس الاركان الصهيوني " معركة الكرامة كانت فريدة لم يتعود عليها الاسرائيليون , فقد اعتادوا ان يروا جيشنا يخرج منتصرا "
ـ اهارون بيلد قال " شاهدت قصفا شديدا لم ارى مثله , فقد اصيبت دباباتي ودمرت منها اثنتين .
ـ بارليف ايضا قال " اسرائيل فقدت ثلاثة اضعاف ما فقدته في حرب حزيران .
لقد حقق النصر العربي في معركة الكرامة نتائج مذهلة في رفع معنويات الانسان العربي بعد تلك الهزيمة المنكرة في حزيران 1967 . واحدثت شرخا في صفوف القوات الصهيونية , التي اعتادت على قطف النصر على الجيوش العربية بسهولة . الامر الذي اجبر قيادة الجيش الصهيوني على تشكيل لجنة لدراسة الهزيمة التي مني بها في معركة الكرامة . ( نص المحاضرة التي القيتها بالمناسبة في منتدى سحم الثقافي )
التعليقات (0)