الظرفية الراهنة تستوجب
تحصين أقاليمنا الجنوبية
سياسيا، إقتصاديا، اجتماعيا و"شبابيا"
إدريس ولد القابلة
الصجراء الأسبوعية
لاخيار أمامنا إلا وضع يد في يد لبناء المغرب، مغرب الغد،و إذا أردنا إسقاط شيئا ما علينا إسقاط الفساد.
لقد أكد جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي الذي ألقاه جلالته خلال تنصيب المجلس الاقتصادي والاجتماعي:
" (...) وهو ما يقتضي منكم إيلاء العناية القصوى لبلورة ميثاق اجتماعي جديد، قائم على تعاقدات كبرى، كفيلة بتوفير المناخ السليم، لكسب رهان تحديث الاقتصاد، والرفع من تنافسيته، وتحفيز الاستثمار المنتج، والانخراط الجماعي في مجهود التنمية، وتسريع وتيرتها; بغية تحقيق التوزيع العادل لثمارها، في نطاق الإنصاف الاجتماعي، والتضامن الوطني.
وباعتبار التكوين من صميم صلاحيات المجلس، فإننا ننتظر منكم اقتراح الحلول الناجعة، لمعضلة توفير التكوين المهني، والتعليم التقني للموارد البشرية المؤهلة لسوق العمل، ولمتطلبات الاستراتيجيات القطاعية، والأوراش الهيكلية. هدفنا الأسمى ضمان أسباب العيش الكريم لكافة المغاربة، ولاسيما الفئات المعوزة منهم، وتحقيق تنمية شاملة، كفيلة بتوفير فرص العمل المنتج، وخاصة للشباب، الذي نضعه في صلب سياستنا التنموية.
إن عزمنا لراسخ على الدفع قدما بالنموذج المغربي، الذي نؤكد أنه لا رجعة فيه; وأننا لن نكتفي بتحصين مكاسبه، وإنما سنواصل تعهده بالتطوير بإصلاحات جديدة، في تجاوب عميق ومتبادل بيننا وبين كافة مكونات شعبنا الوفي.
وبنفس العزم، فإننا حريصون على مواصلة إنجاز الإصلاحات الهيكلية، وفق خارطة طريق واضحة الرؤية والأهداف، عمادها التلاحم الوثيق بين العرش والشعب; غايتنا المثلى تمكين كافة المغاربة من مقومات المواطنة الكريمة; ضمن مغرب متقدم ومتضامن، كامل الوحدة والسيادة."
وأكد الوزير الأول عباس الفاسي، أن الحكومة ستواصل بوتيرة أسرع مباشرة الإصلاحات التي شرعت فيها منذ البدء. كما شرعت الحكومة في تدارس إصدار مرسوم يتيح للإدارة العمومية والجماعات المحلية إمكانية التوظيف المباشر، خلال السنة الجارية، بالنسبة لحاملي الشهادات العليا دون اللجوء إلى ضرورة إجراء مباريات حسب ما أدلى به محمد سعد العلمي، وزير تحديث القطاعات العامة.
كما سبق وأن أكد، من جانبه، وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة خالد الناصري، في معرض تطرقه للمظاهرات التي شهدها المغرب يوم 20 فبراير ،أن الحكومة استجابت، بتلقائية، لرغبة عدة جهات في تنظيم هذه المظاهرات، حيث تم التعامل معها بانفتاح من طرف السلطات العمومية ومختلف القوى الاجتماعية والسياسية، بما فيها تلك التي لم تشارك عمليا فيها. واستحضر الوزير الأول خطاب جلالة الملك محمد السادس، لدى تنصيب المجلس الاقتصادي والاجتماعي، والذي ضمنه جلالة الملك رسائل قوية في سياق الإصلاحات والأداء الحكومي.
إن الحكومة اتخذت، مؤخرا، عددا من الإجراءات الأولية الاحترازية التي من شأنها التخفيف من عبء المعيشة التي تثقل كاهل فئات واسعة من الشعب . ومن بين تلك الإجراءات تخصيص 10 في المائة من ميزانية الاستثمار لدعم صندوق الموازنة حفاظا على استقرار أسعار المواد الغذائية الأساسية وأسعار الوقود ؛ بالإضافة إلى قرار الحكومة تشغيل 4000 معطل من حملة الشهادات الجامعية العليا الذين ظلوا يخوضون اعتصامهم أمام مقر البرلمان على مدى السنوات الأخيرة ، فضلا عن إعلان عزمها على إجراء حوار جدي مع الهيئات النقابية التي ظلت تطالب الحكومة بتنفيذ وعودها والتزاماتها . إلا أن هذه الإجراءات غير كافية خصوصا وأن الشعارات التي رفعها المشاركون في تظاهرات 20 فبراير تندد بالفساد واللاعقاب وتطالب بالعدالة الاجتماعية . وسيكون على المسئولين المغاربة التقاط هذه الرسائل بغرض الانخراط في عملية الإصلاح واحتواء الحركات الاحتجاجية على خلفية ارتفاع الأسعار والتهميش والبطالة والفساد والمهانة ، وذلك بالاستجابة إلى مطالب الشعب وفئاته الشابة التي عبرت أغلبيتها عن نضجها الحضاري ووعيها السياسي وحرصت على التغيير من داخل النظام وليس من خارجه . لكن هناك جملة من الإجراءات تستوجبها الظرفية، وعلى القائمين على الأمر الإسراع بتنفيذها بأقاليم الجنوبية .
إن الأمر في أقاليمنا الجنوبية، بفعل الظرفية الحالية، يتطلب حلولا مستعجلة لتحصينها من مخططات الخصوم المبيتة والأعداء الذين لن يفوتوا فرصة لمحاولة النيل من استقرار بلادنا.
نعم، إن المغرب بلد سائر على درب ترسيخ الديمقراطية بخطى حثيثة و بلد متحضر تعامل مع مظاهرات 20 فبراير بمسؤولية كبيرة ونضج مميز، شهد به العالم كله، إلا أن الديمقراطية التي تتبناها المملكة ديمقراطية ناضجة وتتطلب التحام إرادات كل الأطراف سواء تعلق الأمر بالمؤسسات الحكومية أو المؤسسات السياسية غير الحكومية، كالأحزاب السياسية أو مؤسسات المجتمع المدني. كما تستوجب، من جهة أخرى، تحصينها أكثر بأقاليمنا الجنوبية بشكل يصد الأبواب في وجه خصوم وأعداء وحدة المغرب الترابية وسحب البساط من تحت أقدامهم حتى لا يتمكنوا من استغلال تداعيات الحركية التي تعيشها حاليا الشعوب العربية والمغاربية. وفي هذا المضمار وجب الإقرار أن يوم " 20 فبراير" شكل محطة متميزة في المسار التاريخي والسياسي لبلادنا، باعتباره دالا على حيوية وحركية المجتمع المغربي الذي أبان أنه فضاء للتعبير عن جميع الآراء والمطالب المشروعة المرتبطة بأوراش إصلاحات مفتوحة. كما شكل يوم 20 فبراير فرصة للانتباه إلى ضرورة تحصين أقاليمنا الجنوبية، وأخذ الاحتياطات اللازمة لتجنب وقوع أي مفاجآت من طرف المتربصين بوحدة المغرب الترابية.
في واقع الأمر إنها فرصة ذهبية لحث الأحزاب السياسية – إن هي أرادت الاستمرار المحترم- على التصالح مع الشباب وإعادة إستقطابهم . وعلى كل حزب سياسي الآن أن يقوم بحملة لاسترجاع صدقيته ومصداقيته وثقة المواطنين فيه، وإلا سيحكم على نفسه بمغادرة دائرة التاريخ.
فعلى ضوء ما يجري بالمغرب، واعتبارا لانعكاسات وتداعيات ما يدري ويدور بالعالم العربي- خصوصا ببعض جهات المغرب العربي الكبير- ما هي الإصلاحات الكبرى الواجب تحقيقها في الأقاليم الجنوبية لكسب، من جديد، الإنسان ثم المواطن؟ وما هي الإجراءات الواجب القيام بها لسد الطريق على أعداء المغرب وخصومه الذين، لا محالة خططوا للانقضاض على كل فرصة قد تتيحها تداعيات وانعكاسات تحركات الشعوب على الصعيد العربي؟ بعبارة أخرى ما هي المشاكل المطروحة وما هي الحلول المقترحة لحلها؟
المناخ العام
لا يخفى على أحد أن هناك انعكاسات لما يجري ويدور على الصعيد العربي على بلادنا، أراد من أراد وكره من كره، لأننا داخل دائرة التاريخ بامتياز وليس على هامشها، وبالتالي بالضرورة نتفاعل مع يقع حولنا بالتأثير والتأثر. وأمام الوضع الذي يتمر به العالم العربي والمغاربي والهزات التي تعرفها المنطقة ، أضحى من المستحيل تجاهلها من طرف أي نظام كان و كما يُقال العاقل من بغيره اتعظ.
لعل البعض قد يستغرب من الموقف الأمريكي، سيما عندما شرع البيت الأبيض يتحدث عن حق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، لكن الأمر ليس مرتبط بقناعة وموقف مبدئي، وإنما مرتبط بمصالح أولا وقبل كل شيء . فليس مستغرباً إذن من الولايات المتحدة، القوة العظمى الأكبر والمهيمنة، أن يكون موقفها أكثر المواقف السياسية تفاعلاً مع تحركات الشعوب العربية،لاسيما إذا نظرنا إلى مصالحها الضخمة التي أصبحت في خطر حقيقي و كدا مصالح العالم الغربي بشكل عام .
تتبنى الولايات المتحدة في سياستها الداخلية منظومةً ليبرالية من القيم والمبادئ والأفكار والرؤى والتصورات تتركز في مجملها حول الحرية المطلقة والمساواة وحق المشاركة السياسية لكل أبناء الشعب بشكل ديمقراطي حر وبات من المستقر في ذهن الشعب الأمريكي أن هذه القيم هي أسمى قيم الخير والصلاح في العالم، وما عدا هذه المنظومة القيمية من المنظومات فهي شر ينبغي على الدولة كما صوِّر للشعب الأمريكي أن تسعى لمحاربتها وأن تسعى لإحلال قيم الليبرالية محلها في أرجاء العالم حتى ولو استدعى ذلك التدخل العسكري المباشر وذلك كي يسود السلام والاستقرار ويمحى الشر والظلام، غير أن صناع السياسة الأمريكية الخارجية لا ينظرون إلى الأمور كما يراها المواطن العادي، فهم لا ينظرون إلى الأمور بمثل هذه النظرة المثالية والطوباوية، وإنما يتصرفون بالطريقة التي تحقق مصالحهم وتحفظها وتمنع الخصوم والأعداء من منافستهم ومزاحمتهم على الموارد والفرص المصلحية، حتى ولو اقتضى الأمر الكفر العملي بتلك القيم الليبرالية جملةً وتفصيلاً، ولكنهم يرون أنه من الضروري أن تكون ممارساتهم تلك مقنّعة بقناع قيمي وأخلاقي يصور لشعبهم وشعوب العالم أفعالهم على أنها سعي لنشر الخير ومحاربة الشر ودعم للسلام والاستقرار وحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية. إذاً فالخطاب الأمريكي الإعلامي ملمع ومصاغ للشعوب العاطفية، أما ممارسات الولايات المتحدة العملية في الواقع فهي مشكلة بما يخدم مصالحها فقط. في هذا الإطار العام وجب وضع موقف الرئيس الأمريكي،"أوباما"، الذي أضحى يشيد بتقرير مصير الشعوب، وهو موقف يوشي بشيء من الخطر.
إنه أمر سيسعى أعداء وخصوم وحدة المغرب الترابية الركوب عليه لا محالة، سيما في الظرفية الحالية، التي تنفست فيها "بوليساريو" بعد أن تمكنت مافيا جنرالات الجزائر من احتواء غضبة الشباب الجزائري.
فـ "بوليساريو" مازالت أمامها أيام وردية، ولا شك أنها ستعمل خلالها على الانقضاض على الفرص التي قد تتيحها ظرفية التحركات الشعبية العارمة على الصعيد العربي والمغاربي لمحاولة إثارة القلاقل بالأقاليم الجنوبية سعيا وراء النيل من استقرار المغرب. ويبدو قد تكون الظروف مواتية لتفعيل مخططاتها المبينة ضد بلادنا تحت إمرة مافيا جنرالات الجزائر بتوجيه منها. سيما وأن هذه المافيا قد تنفست الصعداء بعد أن اجتازت من عنق الزجاجة، بفضل القيام ببعض الإصلاحات والاعتماد على الثروة النفطية للتقليل من حدّة الانفجار الشعبي الذي كان من المتوقع أن تحرق النظام الجزائري. وفي هذا المضمار اضطر الرئيس عبد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بإعادة توزيع الريع النفطي وإشاعة الطمأنينة في نفوس الجزائريين الغاضبين.
فإذا كان 90 في المائة من ساكنة الأقاليم الجنوبية فخورين بمغربيتهم وبالانتماء إلى وطنهم، لكن في الظرفية الراهنة وجب الانتباه لـ 10 في المائة المتبقية، إذ من شأنها أن تشكل بعض الخطر بفعل تداعيات الظرفية، سيما وأنها يمكنها تأجيج الوضع عبر استغلال مساحات حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان ببلادنا ، وذلك بافتعال قلاقل أو التخطيط لتصرفات استفزازية لاستثمارها للنيل من استقرار البلاد. سيما وأن أقاليمنا الجنوبية تعرف الكثير من المعضلات الاجتماعية (بطالة، فقر، تهميش، سكن غير لائق...).
على الصعيد السياسي
لقد أضحى مطروحا اليوم على الأحزاب السياسية بالأقاليم الجنوبية، أكثر من أي وقت مضى، التفكير جديا في كيفية تحولها إلى قوّة سياسية حقيقية بأفكارها وممارساتها ونخبها، وإعادة النظر جذريا في طبيعة علاقتها بالمواطنين وارتباطها بقضاياهم. ولعل أول خطوة وجب الإقرار بها، في الأقاليم الجنوبية، التخلص من الاختلالات التي تعاني منها الأحزاب السياسية بفعل مركزيتها المفرطة والخانقة، تنظيميا وتدبيريا.
سياسيا، ومن أجل تحصين الأقاليم الجنوبية، هناك جملة من الإجراءات الواجب اعتمادها، منها التخلي عن الحلول الترقيعية و القطع مع عقلية التمايز والتمييز في التعامل و القضاء على أوجه "السيبة" وتعطيل تفعيل القانون كلما تطلب الظرف ذلك.
ومن هذه الإجراءات أيضا فسح المجال لتحركات الوحدويين التلقائية دون وصاية أو تضييق، ودون تدخل غير مرغوب فيه للتحكم في تحركاتهم وسكناتهم. وإجراء من هذا القبيل يدخل في نطاق الإجراءات الرامية إلى استرجاع الثقة في فعاليات المجتمع المدني عوض التوجس والخوف منها. وهذا باعتبار أن ما يجب أن يتصدى للانفصال ليست الهراوة، وإنما تفعيل القانون بحذافيره وأيضا ردود الفعل التلقائية الصادرة عن المجتمع المدني، إنه سلاح فتاك ضد الانفصاليين.
التصدي للانفصاليين
بكل المقاييس، سواء بالمضمرة منها أو المعلنة، لن يفوّت أعداء وحدة المغرب الترابية وخصومها، أي إمكانية للانقضاض على الفرصة المتاحة، وبذلك سيعملون على استغلال واستثمار أي تحرك اجتماعي بغية إثارة القلاقل.
ولن نكشف سرا بالقول إن الفكر أو الرأي الانفصالي موجود بين ظهرانينا وفي عقر دار بالأقاليم الجنوبية، وقد يتخذ ألوانا وأشكالا مختلفة ومتعددة، منه الجانح للانفصال بفعل الإحباط والتهميش وعدم إعطاء الاعتبار، ومنه الصادر عن قناعة، ومنه الناتج على مجرد المساومة ولي ذراع الدولة لربح امتيازات إضافية، ومنه كذلك المُحرّك والموجّه من جهات خارجية وحسب أجندة معدة سلفا، وهذا هو الأخطر.
كما أن الفكر أو الرأي الصادق الوحدوي ، موجود هو أيضا بتلاوين متعددة وأشكال متباينة، مادامت قضية الصحراء قضية كافة المغاربة، ولا يمكن أن يتصوّر الشعب المغربي، ولو على سبيل الافتراض، الخروج يوما من الصحراء، باعتبار أن قضية الأقاليم الجنوبية بالنسبة للمملكة المغربية هي قضية حياة أو موت.
إن هذه الحقيقة تدعونا إلى إعادة النظر في نهج وأسلوب التصدي للمكر الانفصالي وذيوله، سيما أن النهج المعتمد بهذا الخصوص جعلنا لم بكن على صواب أحيانا كثيرة في تدبيرنا لهذا الأمر. لقد تم اقتراف الكثير من الأخطاء الرسمية، كما أنه في العديد من المحطات أساء القائمون على ملف الصحراء التقدير، وتحمّلنا التبعات التي كانت وخيمة أحيانا، إلا أن هؤلاء لم يستخلصوا الدرس في لحظته، وتواكبت الأخطاء والزلاّت، خصوصا الأمنية منها والحقوقية. هذا إلى أن جاءت مبادرة الحكم الذاتي التي أخرجت الملف من عنق الزجاجة، وتبيّن أن قوّتنا الحقيقية تكمن في تكريس مسار ترسيخ الديمقراطية والإصلاح. وبات واضحا الأجدى والأنفع، هو أن لا يأتي رد الفعل من قوّات الحفاظ على الأمن أو من السلطات الرسمية، ولكن عليه أن يأتي من المواطن العادي ومن الشارع المقتنع، حقيقة، بوحدته الترابية.
إن المطلوب حاليا، أكثر من أي وقت مضى، هو ترك المغاربة يواجهون الانفصاليين ومواليهم، لأنهم قادرون على الدفاع عن قضيتهم العادلة والمشروعة من صميم القلب. هذه هي الوسيلة الناجعة للتصدي للأعداء والخصوم، والقادرة على هزم المؤامرات، هزيمة نهائية.
في جانب من تدبير ملف الصحراء
لقد ساد الاعتقاد سابقا أنه يكفي أن نعبّئ الرأي العام الداخلي لنقنع الرأي العام الخارجي بمغربية الصحراء، وضمان دعمه مساندته لقضيتها الوطنية، علما أن المغربة ليسوا في حاجة لمن يقنعهم بمشروعية وعدالة قضيتهم الأولى. وفي هذا المضمار، بُدلت جهود في غير محلها وصرفت أموال طائلة دون جدوى، وكان الأولى والأجدى أن تستثمر في خلق فرص شغل أو تساهم في خلق مشاريع مدرة لدخل دائم. وهذا نهج وجب التخلي عنه فورا، وتغيير هذا الأسلوب والاعتماد بالأساس على تعبئة الطاقات الوطنية وإشراكها بقوّة في الدفاع عن المصالح العليا للبلاد.
ووجب الإشارة كذلك إلى جملة من الأخطاء المطروح تداركها، ومنها التعاطي والتعامل مع العائدين عموما، وإعادة النظر في دورهم، سيما أولائك الذين يُعتبرون قادة في "بوليساريو"، الذين وُزّعت عليهم الفيلات والمساكن وتم توظيفهم، وفي النهاية قيل لهم كفاكم الجلوس في فيلاتكم والتمتع بالراتب الشهري. وفي هذا المضمار بدأ الكثيرون يتساءلون عن الدور الفعلي الذي يقوم به أمثال عمر الحضرمي وإبراهيم حكيم صاحب السيكار الكوبي والبشير ادخيل وامربيه ربو والحسين بن الطالب وغيرهم، إذ فضّل أغلبهم امتهان الكسب والتيه في رحاب الصحراء.
كما أنه في المجال الثقافي، أضحى يبدو بجلاء، كأن مثقفينا قد استقلوا من مهمة الدفاع عن القضية الوطنية الأولى –داخليا وخارجيا- والحال أن واجب الانتماء إلى الوطن يقتضي الدفاع عن حقوق البلاد التي احتضنتهم وساهمت مؤسساتها الثقافية والفنية في تكريسهم كرموز أو كنجوم. فأين مثقفي الأقاليم الجنوبية وفنانيها في مضمار الدفاع عن القضية الوطنية وتعبئة الأجيال الصاعدة من أجلها؟
في المقاربة الأمنية
لابد من الاعتراف أنه تحقق بعض التحسن المحتشم بخصوص التدبير الرسمي لقضية المغاربة الأولى، وأصبحنا نعاين أن الأهمية تُعطى للسياسة أكثر من إعطائها للهراوة كما كان عليه الحال من قبل. إلّا أن المقاربة الأمنية مازالت طاغية، ومساهم مرارا في إرباك الحسابات وخلط الأوراق، مما يدفع إلى تناسل السقوط في أخطاء مجانية تهدي قرصا سانحة ، على طبق من ذهب لخصومنا للنبل من وجدة المغرب الترابية.
وتدعو الظرفية الراهنة، أكثر من أي وقت مضى، إلى ضرورة إحداث قطيعة تامة مع العقليات المسكونة بالهاجس الأمني المضخم، باعتبار أن أحد مخططات أعداء وحدتنا الترابية يكمن في سقيهم الحثيث إلى افتعال قلاقل في أي مناسبة احتجاجية أو تحرك جماهيري قصد جرّ قوات حفظ الأمن والنظام إلى التدخل بعنف واستغلال أي انفلات ظرفي لإعطاء "البروباغندا" الانفصالية مادة دسمة للنيل استقرار البلاد ووحدته الترابية.
على الصعيد الاقتصادي
مهما قيل أو لمكن أن يُقال عن الإشكالية الثروات بالأقاليم الجنوبية، فإن الرهان الاقتصادي – بهذا الخصوص حصرا- يظل ثانويا قبالة القضية الوطنية الأولى في رمّتها، علما أن عائدات الفوسفاط وإيرادات اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي، كلها مجتمعة لا تصل إلى حجم الاستثمارات الهائلة والضخمة التي أنجزتها الدولة بتلك الأقاليم، وهذا ما يوضح رسالة التنمية الاجتماعية التي ظلت تحرك السياسات العمومية بالأقاليم الجنوبية.
ومن جهة أخرى لم يعد مقبولا الآن أن يستمر رجال الأعمال المغاربة من مختلف المناطق، سيما الأقاليم الجنوبية، الذين أهلهم الانتفاع ،على امتداد سنوات، من خيرات المغرب، في غض الطرف عن ضرورة مساهمتهم في "المعركة الوطنية" خاصة عبر القيام باستثمارات مُواطنة والقدوم على ضخّ جزء من رأسمالهم وأرباحهم لخلق فرص شغل تستوعب دزء من عاطلي الأقاليم الجنوبية، ولما لا كذلك استغلال صفتهم كرجال أعمال يتنقلون عبر العالم بحثا عن المكاسب، تخصيص قسط من أموالهم قصد إحداث لوبيات ذات ثقل في الدول الأجنبية التي يترددون عليها لحشد أنصار المغرب في الدفاع عن قضيته العادلة والمشروعة. ويمكنهم، كأضعف الإيمان، توجيه سياساتهم واستراتيجياتهم التجارية والتسويقية والاستثمارية وعلاقاتهم مع أسواق المال في اتجاه يخدم القضية الوطنية الأولى ووفق ما يساندها ويدعمّها.
وتماشيا مع مبدأ المساواة وعدم التمييز بين المواطنين أضحى من الضروري اليوم إعادة النظر في صيغة الإعفاء الضريبي الذي تستفيد منه الأقاليم الجنوبية بغية إرساء مقوّمات "المُقاولة المُواطنة"، سيما وأن الشركات المحققة لأرباح مهمة.
وسيرا على نفس الدري، وجب الحد من احتكار تحكم حفنة من العائلات في مصادر الثروات المحلية، وتوقيف مختلف أشكال الثراء غير المساهم في الاستثمارات المُواطنة. كدا حث المجموعات الاقتصادية والمالية الكبرى على القيام باستثمارات مُواطنة بالأقاليم الجنوبية دون التمسك بإعطاء الأولوية، كل الأولوية، لتحقيق الأرباح السريعة.
وفي نطاق التصدي لمختلف مظاهر اقتصاد الريع والتخلي عن سياسات العطايا والامتيازات غير المبررة، وجب عوض الاستمرار في توزيع بطائق الإنعاش الوطني، وما تنتج كم فساد و أحيانا من شطط في السلطة وتشجيع روح الاتكال، يبدو من الأجدى اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا، استخدام موارد الإنعاش الوطني لخلق صندوق يرمي للاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية لبعض فئات ساكنة الأقاليم الجنوبية وتنميتها عبر خلق أنشطة وتمويل مشاريع مدرة للدخل، عوض استمرار أسلوب الهبة والصدقة.
ومن الناحية الاقتصادية والاجتماعية أضحى من الضروري تثمين واستغلال مختلف المؤهلات، وما أكثرها، التي تتوفّر عليها مناطق الأقاليم الجنوبية، كل إقليم ومدينة على حدة – من سيدي إفني إلى وادي الذهب- لخلق فرص شغل وإحداث مقاولات صغرى ومشاريع مدرة للدخل قصد إطلاق آليات التنمية المحلية المستدامة.
على الصعيد الاجتماعي
تتمحور أغلب المطالب الاجتماعية حول الشغل والسكن وشروط العيش الكريم وتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين مهما كان أصلهم. وصحيح أن الفئات الغاضبة اجتماعيا غاضبة من جرّاء ما عناه جزء من ساكنة الأقاليم الجنوبية من إقصاء، إنها مطالب اجتماعية محضة ومشروعة وليست سياسية. لذا وجب التفكير في حلول لها قابلة للتطبيق فورا للشروع في تغيير هذا الواقع.
إن الفقر وانعدام المساواة بشكل فاحش، هو من أسوأ نكبات هذا الزمان، والدولة مطالبة اليوم بإيجاد حلول مجدية وفعّالة لتوفير شروط الشعور الفعلي بالانتماء للوطن.
في معضلة الفساد
لاخيار أمامنا إلا وضع يد في يد لبناء المغرب، مغرب الغد، وإذا أردنا إسقاط شيئا ما علينا إلا إسقاط الفساد، و إقرار القطيعة مع النهج السائد إلى حد الآن في تدبير ملف القضية الوطنية الأولى على أرض الواقع المعيش بالأقاليم الجنوبية. فهناك العديد من المشاكل والمعضلات، سببها الأساسي ليست هي الإختيارات التي اعتمدتها بلادنا، وإنما هل ناجمة، في واقع الأمر، أساسا عن سوء التدبير والتسيير للملفات المتراكمة، والاكتفاء بالحلول الترقيعية الظرفية من طرف المسؤولين، وترديدهم لشعارات أكل عليها الدهر وشرب، لا تغني ولا تسمن من جوع. فعموم المغاربة الآن، وساكنة الأقاليم الجنوبية متـفقـون على أن هناك مشاكل ومعضلات اجتماعية تستوجب حلول أو الشروع في حلول فورية دون انتظار. وربّ قائل يقول لو أن الملايير التي تصرف على مهرجانات البهرجة "خاوية الوفاض" تخصص لخلق فرص عمل للمعطلين لحلت بعض مشاكلهم، علما أن أكبر المستفيدين من هذه الملايير المغترفة من المال العام، هم منظمو هذه المهرجانات ومن يدور في فلكهم . هذا في وقت أضحى الجميع ينادي بضرورة ترسيخ قيم النزاهة والشفافية والمساءلة في تدبير الشأن العام وتخليق المعاملات الاقتصادية.
قد يتطلب التصدي للفساد مشروعا طويل الأمد ، لكن هناك جملة من الإجراءات الواجب اتخاذها لحصر بؤر الفساد والقطع مع بعض الممارسات التي تساهم في تشجيعه، وذلك من أجل إذكاء دينامية جديدة على سياسة الوقاية من هذه الآفة ومكافحتها. وهذا قصد تجميع الشروط لتفعيل الجيل الجديد من الإصلاحات التي يستعد المغرب لإقرارها لمحاربة الفساد والمفسدين، ووضع آليات تترجم التوجهات الاستراتيجية العامة إلى التزامات لجميع فعاليات المجتمع، وضمان البعد الاستراتيجي لمكافحة الفساد، وتطويق وتجريم جميع أشكال الفساد، وتعزيز الأثر الردعي لنظام العقوبات، والتصدي للإفلات من المتابعة والعقاب.
في معضلة الشباب و"الشبابقراطية"
إن الشباب سئم أن يتحدث الشيوخ الهرمون باسمه ويقررون مصيره دون أخذ طموحاته بعين الاعتبار، في اتجاه لا يخدم مصالح مغرب الغد والأجيال القادمة. هؤلاء الشباب، بالرغم كل ما يعانون منه، هم مستعدون للموت مقابل أن لا يضيع شبر من التراب المغربي، من طنجة إلى الكويرة ، ويؤمنون بدولة المؤسسات والقانون الذي يسمو فوق الجميع.
إن شباب المغرب – وخصوصا الأقاليم الجنوبية- المخلصين لا مشاكل لديهم مع النظام الملكي، وقد قالوها بلا نفاق في أكثر من مناسبة لكن التواصل ظل منقطعا بينهم وبين القائمين على الأمور، سيما وأن البعض ظل يخدم أهدافه ومصالحه الشخصية تحت غطاء حماية الملكية، وهذا أمر لم يعد يُطاق. فالملكية المغربية، ملك (بكسر الميم وسكون اللام ) للمغاربة جميعا،ولا مزايدة باسمها. إن الشباب المغربي يعلم علم اليقين الآن أن دور المؤسسة الملكية حيوي وجوهري في حماية الاستقرار والتوازن في الحياة السياسية في البلاد.
يحظى الشباب المغربي (رجال الغد) بتمثيلية مهمة في البنية والهرم السكانيين، وبذلك يشكل قوة اجتماعية، إلا أن انعكاسات نهج التدبير أضحت تهدد بشكل خطير مستقبل اغلب الشباب، باعتبار أن عددا كبيرا ومتزايدا لا مكان لهم تحت شمس وطنهم. هؤلاء لا يتوفرون على شروط الاندماج الطبيعي في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية، وهذا منحى سيؤدي بالضرورة، أراد من أراد وكره من كره، إلى إقصاء وتهميش جزء كبير من الجيل ، وهذا أمر خطير وخطير جدا على أكثر من مستوى وصعيد، فهل للأمور أن تستقيم في بلاد فئات واسعة من شبابها محرومة من أبسط شروط العيش الكريم؟ فماذا ننتظر من شباب لم يوفر له وطنه مكانا تحت شمسه؟ فمن يتحمل مسؤولية تكريس وضعية عدم توفير فرصة لهؤلاء في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الوطنية؟ سؤال بقدر ما يبدو الجواب عليه سهلا، بقدر ما هو معقد ومتشعب اعتبارا لارتباطه بالماضي والحاضر والمستقبل، لذا علينا أن نحتاط، لأن التجربة علمتنا بأنه ليس كل ما يلمع هو قابل لضمان غذ أفضل، بل يمكن أن يتحول إلى ما لا تحمد عقباه.
من المفروض أن يكون الشباب حاملا لعناوين المستقبل، لأن لا مستقبل بدون احترام حقوق الشباب، كما أنه لا مستقبل بدون تشبيب القائمين على الأمور وصناع القرار والحاملين للمسؤوليات في مختلف القطاعات والمجالات.
لذلك أضحى من الضروري، ليس المطالبة بالاهتمام بمشكل الشباب بالمغرب، وإنما المطالبة بإقرار "الشبابقراطية"، أي الدفاع عن حقوق الشباب بواسطة الشباب ومن أجل الشباب، لأنه أضحى واضحا أن مآل شباب المغرب الآن هو دفع فاتورة انعكاسات نهب وتدبير وهدر الثروات الوطنية من طرف أناس يحتلون مواقع مهمة ويغترفون اغترافا من خيرات البلاد، دون أية مساهمة في الاستثمارات المُواطنة.
إن لسان حال الكثير من الشباب يقول .. المهمشون والمقصيون مثلنا كثير... وما الوضعية التي نعيشها حاليا إلا نتيجة لممارسات من امتصوا دماء أبائنا.. واغتالوا أحلامنا.. وتاجروا بنا ردحا من الزمن.. لقد كان آباؤنا مستعدين للدفاع عن الفكرة حتى الموت.. لكنهم اكتشفوا أن العديد من السياسيين والمسؤولين قادوا –بتصرفاتهم وتناسل اقتراف الأخطاء الوخيمة - البلاد إلى شفا الهاوية، لأنهم ظلوا يهتمون بمصالحهم الضيقة.
هناك آلاف من الشباب آمنوا بهذا الوطن.. عشقوا هذا الوطن.. تغنوا به بصدق.. بعيدا عن الحسابات الضيقة والمزايدات لكنهم لم يحصدوا إلا الإحباط تلو الإحباط... وفي نهاية المطاف وجدوا أنفسهم على الهامش مقصيين.. قضوا اغلب فترات شبابهم عالة على أسرهم وذويهم يعاينون تبدد أحلامهم البسيطة.
إن إشكالية الشباب لم تعد مجرد مشكلة فئة عمرية، علما أن أغلبهم لم يفلحوا في إيجاد مكان تحت شمس وطنهم ليعيشوا بدفئها، إنما أضحت مشكلة مركبة تتضمن من بين ما تتضمن، الحرمان من الحق في متطلبات ومقومات أبسط مستوى العيش والحياة والاطمئنان عن الغد القريب، إنها معضلة اختلال ميزان العدالة الاجتماعية بشكل مفضوح، تكرس آلياته اليأس والإحباط وإعادة إنتاجهما، لذا أضحى من الضروري المطالبة بإقرار "الشبابقراطية" وليس مجرد الاهتمام بمشاكل الشباب، لأن هناك علاقة عضوية بين أنماط التدبير السائدة حاليا، وإنتاج وإعادة إنتاج التهميش والإقصاء الممنهجين.
نتحدث عن ضرورة الإقرار بــ "الشبابقراطية"، لأن الوضعية التي يتخبط فيها العديد من الشباب، نتيجة للإصرار بعض المسؤولين في مختلف المجالات – سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتنمويا وثقافيا وفنيا ورياضيا ...- على تكريس الفساد والنهب أحيانا عبر تفعيل جملة من الآليات.
لقد أضحت "الشبابقراطية" ضرورة تاريخية في زمن كساد مبادرات الحكومة وسياسات القيادات الحزبية الهرمة، إنها ضرورة تاريخية بفعل تنامي غضب الشباب واستشراء اليأس والإحباط في صفوفهم. إنها ضرورة تاريخية لأنه لا يمكن قبول التهميش والإقصاء.
إنها ضرورة تاريخية لأنه وجب قلب الطاولة على الانتهازيين ومصاصي دماء هذا الوطن ورموز مناهضة التغيير البنّاء. إنها ضرورة تاريخية، لأن من حق كل شاب أن يكون له مكان تحت شمس وطنهم. إنها ضرورة تاريخية لأننا أضحينا نعيش في زمن التسابق نحو المصالح الذاتية والفئوية الضيقة. إنها ضرورة تاريخية لأن شيوخ السياسة متشبثون بكراسيهم، ولأن النساء نظمن صفوفهن للدفاع عن حقوقهن، وضحايا الانتهاكات الجسيمة فرضوا مطالبهم، ولازال المهمشون والمقصيون لا مدافع عنهم، وأغلبهم من الشباب.
إنها ضرورة تاريخية لأنه لا حل لمأساة الشباب إلا بالعدل والعدالة الاجتماعية. إنها ضرورة تاريخية لأن 55 في المائة من سكان المغرب هم شباب. إنها ضرورة تاريخية لأن هؤلاء في عرف شيوخ السياسة لا يصلحون إلا لتأثيث المشهد السياسي ببعض المنظمات الشبابية.
إنها ضرورة تاريخية لأن تجاوز هذه الوضعية تستوجب رؤية جديدة وقيادات جديدة.
لهذا كله أضحت "الشبابقراطية" ضرورة تاريخية.
إسماعيل هموني / باحث في شؤون الصحراء
التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الصحراء لم تواكبها تنمية ثقافية وروحية
يرى إسماعيل هموني ، الباحث في شؤون الصحراء وجوب مباشرة إصلاحات حقيقية وعميقة على مستوى الترسانة القانونية، ثم على مستوى تطبيق عدالة اجتماعية تساوي بين جميع المغاربة من حيث الحقوق والواجبات ، مع الاستفادة من خيرات هذا البلد. كما يجب الاشتغال على معالجة المشاكل التي أفرزتها مجموعة من السياسات التي اتبعت في المنطقة في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن أهم هذه المعضلات اعتماد ساكنة المنطقة على تدخلات الدولة المباشرة من خلال ما يسمى باقتصاد الريع عبر بطائق الإنعاش وغيرها و التي أفرزت غياب أي تنمية حقيقية للعنصر البشري بالأقاليم الجنوبية ليكون عنصرا فاعلا ومتمكنا ومنتجا.
كيف تتصور تداعيات ما يجري في العالم العربي على القضية الوطنية وكيف يمكن التصدي لها؟
أعتقد أن المتأمل في الحركية التي تشهدها هذه الأيام مجموعة من الدولة العربية لابد أن يخرج بمجموعة من الخلاصات أهمها أن العقيدة السياسية التي كانت مبنية إما على المقاربات الأمنية أو على الإغراءات أو الاستمالات بشراء الذمم، أصبحت في خبر كان. ومن ثم فإن حضور نوع جديد من الشباب الذين يقودون هذه الحركية السياسية وتداعياتها الاجتماعية على المحيط القريب والبعيد يفترض صياغة عقائد سياسية جديدة. وأعتقد أن من التداعيات التي يمكن رصدها خاصة فيما يتعلق بالقضية الوطنية هو مفهوم "من كان بيته من زجاج فلا يرشق الناس بالحجارة". فإذا أخذنا الجزائر نموذجا التي هي دولة عسكرية أمنية استبدادية تغيب أي رأي للشعب، وهو ما يعبر عنه الجزائريون بسياسة "الحكرة"، انطلاقا من هذا المنظور نتوصل إلى استنتاج أن النار المحيطة بهذا البلد لابد أنها ستمس هذه اليد الحديدية المتسلطة على كل أشكال الحياة في الجزائر، ولهذا أجزم بأن القيادة السياسية الجزائرية ليست في مأمن . وهو نفس الأمر الذي اعتبر أنه ينطبق على قيادة جبهة بوليساريو التي لم تشهد أي شكل من أشكال الحرية عبر إجراء انتخابات وخلق مجال ديموقراطي . ويجب أن ننتبه إلى أن الشباب الذين تربوا في أحضان الجبهة لسنوات طوال هم جيل من نوع آخر، لم يعد يؤمن بالعقيدة القائمة على التجييش السياسي بقدر ما يبحث عن الكرامة الإنسانية وسبل الحياة الرغيدة. وأعتقد بأن هذه المعطيات مجتمعة ستؤدي إلى تشكيل خطورة على قيادة الجبهة التي تكبح وتقمع أي رأي مخالف ومنتقد. وقد آن الوقت للتحول عن هذا المنظور إلى شكل أكثر انفتاحا وحرية على عالم جديد.
لهذا يبدو لي شخصيا أن هذه الحركية التي يعرفها العالم العربي سينتج عنها الذهاب بعيدا إلى حد سقوط جميع الأنظمة السياسية القامعة. وعلى هذا الأساس تصبح أي مقاربة عنيفة ضد هذا التوجه من شأنها أن تسرع بفقدان تلك القيادات لمشروعيتها. وأكثر من هذا، أظن أنه على المستوى الدبلوماسي، إذا أردنا القيام بقراءة استشرافية للمستقبل وما ينبغي القيام به في المرحلة القادمة على صعيد استثمار النتائج التي ستفرزها هذه المرحلة، فيمكن للدبلوماسية المغربية أن تسخر هذا التغيير الذي شهدته بعض الأنظمة في المنطقة العربية من أجل تغيير جميع الصور النمطية التي ارتبطت بالقضية الوطنية. ومن هذا المنطلق يصبح لزاما على الدبلوماسية المغربية أن تشتغل بعمق وبعقلانية من أجل أن تستثمر الوضعية الحالية لنتمكن من قطع الطريق أمام كل من يريد أن يستغل بعض الأوضاع الداخلية في المغرب وتحويرها عن توجهاتها الاجتماعية والسياسية.
وما هي التدابير التي يجب اتخاذها في المرحلة القادمة؟
أعتقد أن أي تدابير يمكن اتخاذها في هذا الإطار يجب أن تركز على المستوى الداخلي بالأساس، فيجب أن يتم مباشرة إصلاحات حقيقية وعميقة على مستوى الترسانة القانونية، ثم على مستوى تطبيق عدالة اجتماعية تساوي بين جميع المغاربة من حيث الحقوق والواجبات وينبغي أن يستفيدوا بالتساوي من خيرات هذا البلد. يجب كذلك أن يتم إعادة النظر في قانون الانتخابات يضمن إجراء انتخابات شفافة ونزيهة. وهذا الأمر يستدعي بالضرورة إعادة النظر في المشهد السياسي الحزبي لخلق أحزاب قوية وتمتلك شرعية حقيقية لدى المواطنين.
أما فيما يتعلق بالأقاليم الجنوبية بالضبط، فأرى بأنه يجب الاشتغال على معالجة المشاكل التي أفرزتها مجموعة من السياسات التي اتبعت في المنطقة في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن أهم هذه المعضلات اعتماد ساكنة المنطقة على تدخلات الدولة المباشرة من خلال ما يسمى باقتصاد الريع عبر بطائق الإنعاش التي أفرزت غياب أي تنمية حقيقية للعنصر البشري بالأقاليم الجنوبية ليكون عنصرا فاعلا ومتمكنا. بالإضافة إلى هذا أظن أنه يجب التنبه كذلك إلى أهمية إحداث تنمية على مستوى البنية الوجدانية لدى سكان الأقاليم الجنوبية، وأعتقد أن الضعف على مستوى التنمية الوجدانية يعود إلى أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الصحراء لم تواكبها تنمية ثقافية وروحية. أما الجانب الآخر فأعتقد أنه مرتبط بالنخب في الصحراء التي أرى أنها مشدودة إلى أمرين هما القبلية وبالتالي تجد بأنه تكرس دائما العمق القبلي الأحادي بدل أن تكرس قيم المواطنة المجتمعية، ثم في المستوى الآخر الارتباط ببنية الأعيان والشيوخ الذين يحتكرون ميكانيزمات المشورة والرأي التي يجب أن تكون أساسا ضمن مؤسسات الدولة. فيجب العمل في رأيي العمل على تجاوز هذه البنية التقليدية الهشة التي ثبت ضعفها. يجب كذلك أن يتم تشجيع كل ما من شأنه أن يرشد قيم التسيير والحكامة الإدارية نابعة ومدارة من طرف أبناء المنطقة الذين هم أدرى بالمعطيات الاجتماعية والثقافية.
إذن ما هو التصور الذي تقدمه من أجل تمكين القائمين على تسيير ملف الصحراء لإعادة ربح الإنسان بالمنطقة إن ثبت أن السياسات القديمة لم تتمكن من فعل ذلك؟
أعتقد أنه يجب انتهاج مقاربة تشاركية ،لأن كل غلو في تطبيق مقاربات مخزنية عتيقة لا يفرز إلا التصادم مع وجدان ساكنة المنطقة. ولهذا أعتقد بأن النموذج المجتمعي المغربي ظل غريبا عن الوجدان الصحراوي. إن المقاربة التشاركية الحقيقية ستساعد في تحديد المسؤوليات أمام أبناء الأقاليم الجنوبية وفتح المجال أمامهم لأن يسيروا شؤونهم بأنفسهم، وهذا هو المفهوم الذي يقوم عليه مشروع الحكم الذاتي والجهوية الموسعة. لكن يجب الإشارة بأن هذا الطموح لا يمكن أن يتم بدون تأهيل العنصر البشري وتمتيعه بكفاءات أساسية. أعتقد أنه كلما استطعنا النفاذ إلى سيكولوجية الإنسان الصحراوي ووضعناه أمام مسؤولياته التي تحددها خياراته النابعة من طبيعة ثقافة المنطقة، كلما تمكنا من إيجاد نقاط تقاطع وتصالح مع النموذج المغربي كشكل ثقافي وحضاري ومع الدولة المغربية كمؤسسات.
إبراهيم بلغزال / حقوقي من الأقاليم الجنوبية
كل الخصوم معنيون بمقاومة جميع البرامج والمشاريع الهادفة إلى التغيير
يرى إبراهيم بلغزال أنه يجب أن نعترف بأن سيرورة مشروع التغيير والإصلاحات كانت مرتبكة ومترددة في بعض المحطات، وعرف مجموعة الكبوات التي أفقدتها كثيرا من الزخم والاندفاع. ويرجع هذا الأمر في رأيي إلى وجود جيوب مقاومة قوية لهذا المشروع في الأقاليم الجنوبية. وكذلك خصوم يهدفون إلى إضعافه بسبب مصالحهم التي يحققونها من خلال منطق الريع وتركة الفساد الذي خلفته الفترة السابقة. ويقرّ أن الخصوم يهدفون إلى إضعاف هذا المسار بسبب مصالحهم التي يحققونها من خلال منطق الريع وتركة الفساد الذي خلفته الفترة السابقة.
ويعتقد إبراهيم بلغزال أن هناك حاجة لنفس القدر من الشجاعة التي تحلّت بها الدولة في المجال الحقوقي من أجل تنفيذ مشاريع تتصف بذات الدرجة من الجرأة في مجالات أخرى من قبيل المشاكل المرتبطة بإهدار المال العام والمجال الاقتصادي والعقار، وعرض قضايا مرتبطة بتلك المخالفات على القضاء.
إلى أي حد تعتقد بأن خصوم الوحدة الترابية سيتمكنون من استغلال الظروف التي تمر منها المنطقة بهدف القيام بتحركات في الأقاليم الجنوبية؟
أعتقد أنه لا مجال لقياس واقع بعض الدول العربية على واقع المشهد السياسي بالمغرب، من حيث أننا في المغرب انخرطنا في مشاريع إصلاحية كبرى وكأنه كان هناك استقراء مستقبلي للتغيرات التي يشهدها العالم العربي حاليا وتوقع استباقي لمطالب الشعوب. وتم الشروع في أوراش الإصلاح على أساس فكري وفلسفي قوي هو المصالحة الوطنية التي كان أطرافها هم المواطنون وشتى الفرقاء السياسيين إلى جانب الدولة.
ولم تكن الأقاليم الجنوبية استثناء حيث تم تنزيل مشروع الإصلاح بشكل متناسق وقوي. لكن يجب أن نعترف كذلك بأن سيرورة ذلك المشروع كانت مرتبكة ومترددة في بعض المحطات، وعرف مجموعة من النكسات والكبوات التي أفقدتها كثيرا من الزخم والاندفاع. ويرجع هذا الأمر في رأيي إلى وجود جيوب مقاومة قوية لهذا المشروع في الأقاليم الجنوبية. وكذلك خصوم يهدفون إلى إضعافه بسبب مصالحهم التي يحققونها من خلال منطق الريع وتركة الفساد الذي خلفته الفترة السابقة. فمن المعروف أن أغلب الوجوه التي تتقدم المشهد السياسي في الأقاليم الجنوبية هم حصيلة المرحلة الماضية، إن لم نقل بأنهم من الحرس القديم. ولذلك فهم معنيون بمقاومة جميع البرامج والمشاريع الهادفة إلى التغيير. وفي رأيي أن الدولة يجب أن تكون صارمة في هذا الصدد وتواصل خطواتها الشجاعة بتحييد الشروط والظروف التي يمكن أن تؤدي إلى الوصول إلى ما وصلت إليه بعض الدول العربية.
كيف إذن يمكن التعامل مع تلك النخب التي تقول بأنها تقاوم التغيير؟
أعتقد بأن الدولة تحلت بشجاعة كبيرة في التعامل مع الملفات الحقوقية واعترفت في ذلك الصدد بارتكاب انتهاكات جسيمة، فتم فتح عدد كبير من الملفات القديمة من أجل تحقيق إنصاف لضحايا تلك الانتهاكات وبدء مصالحة حقيقية مع الماضي الأليم. وراقب العالم أجمع ما بذله المغرب في ذلك الصدد من مجهود وخطوات حياه عليها. وقد أدت تلك المبادرة إلى إشاعة أجواء حقيقية من الثقة داخل الأقاليم الجنوبية لكن أعتقد أن هناك حاجة لنفس القدر من الشجاعة التي تحلينا بها في المجال الحقوقي من أجل تنفيذ مشاريع تتصف بذات الدرجة من الجرأة في مجالات أخرى من قبيل المشاكل المرتبطة بإهدار المال العام والمجال الاقتصادي والعقار، وعرض قضايا مرتبطة بتلك المخالفات على القضاء. وأعتقد أن تردد الدولة وخشيتها من انفلات الأمور إذا تم فتح عدد من تلك الملفات إنما يزيد الطين بلة ويصعد من مستوى السخط لدى المواطنين سكان الأقاليم الجنوبية.
هل تعتقد بأن الظرفية التي تمر منها المنطقة تشكل فرصة من أجل التخلي عن انتهاج المقاربة الأمنية فقط في تدبير ملف الصحراء؟
هذا صحيح، وأعتقد أن هذه الظرفية توفر لنا فرصة من أجل القطع مع الإيديولوجية التي يتم من خلالها التعامل وتدبير الأمور في الصحراء على أساس الخصوصية والاستثناء. فأظن بأن ادعاء الخصوصية والاستثناء بالنسبة لوضع الأقاليم الجنوبية هو ادعاء يختفي وراءه الكثير من المفسدين وأصحاب المصالح الذين يستغلون دعوى الخصوصية والاستثناء لتمرير أجنداتهم الخاصة. يجب على الدولة أن تتحلى بالشجاعة من أجل القطع مع ذلك الأسلوب في التعامل مع الأقاليم الجنوبية وبدء التحرك في اتجاه إرساء قواعد عمل تساوي ما بين الأقاليم الجنوبية وغيرها من مناطق المغرب، على مختلف المستويات المرتبطة بالحقوق والواجبات وقيم المواطنة. إن سياسة الاستثناء التي يتم التعامل بها مع الأقاليم الجنوبية خلقت أولا صورة نمطية لدى إخواننا من سكان الأقاليم الشمالية عن كون الصحراوي يعامل وفق أسس وقواعد مختلفة عن غيره ويستفيد من مميزات محصورة عليه فقط. ويجب العمل بشكل جدي من أجل إزالة هذه الصورة النمطية. كم أن تلك السياسة أثرت حتى على المواطن الصحراوي الذي يتربى منذ الصغر على قاعدة الخصوصية والاستثناء وهو الذي يولد مختلف المشاكل التي تواجهنا حاليا في تدبير عدد من القضايا المرتبطة بالصحراء.
كيف يمكن برأيك يمكن تغيير هذه الصورة النمطية عن الأقاليم الجنوبية كما وصفتها؟
أعتقد أنه يجب فتح نقاشات عمومية شبيهة بتلك النقاشات التي فتحت إبان عمل هيئة الإنصاف والمصالحة وما بعدها. ويجب أن تتصف تلك النقاشات بكثير من المكاشفة والمصارحة ثم المصالحة التي يجب أن تتم في هذه المرحلة ما بين الصحراويين أنفسهم الذي أصبحوا شيعا ومللا، ويقدمون أنفسهم على أساس أنهم قبائل مهمشة يسعى كل منها إلى تحقيق مكاسب ضيقة لكل قبيلة على حدة، فاختفى مفهوم المواطنة الحقة ولهذا نحن في حاجة إلى مثل تلك النقاشات التي أعتقد أنها يجب أن تكون تحت رعاية الدولة من أجل الخروج بتوصيات عملية حول سبل الخروج من سياسة الريع والصراع القبلي والتوزيع غير العادل للثروات.
مصطفى ناعمي/ باحث في شؤون الصحراء
ضرورة إعادة النظر في تسيير ملف الصحراء من حيث الحكامة الأمنية والإدارية والتنمية
يرى مصطفى ناعمي أن الحل الوحيد لمواجهة كل الحسابات والتحديات الممكنة يكمن في العمل على إعادة النظر في تسيير هذا ملف الصحراء من حيث الحكامة الأمنية والإدارية ومصداقية الطرح الشمولي لمعضلة التنمية بهذه المنطقة وتبني منظور جديد يحد مع التوجهات القديمة، من محسوبية وتمايز واختلالات ما بين مختلف الأطراف حسب الموقع الجغرافي، وكذا التعامل مع أبناء المنطقة من منطلق أمني محض يحد من صلاحياتهم ويبعدهم عن صنع القرار ويجعل منهم أعداء للمغرب إما بشكل مباشر أو غير مباشر. هذه، في نظر الباحث في شؤون الصحراء هي أهم مكامن الضعف في أسلوب التسيير المتبع مع هذا الملف. لذا يعتقد أن الدولة المغربية إن قررت أن تعيد النظر في المفاهيم وفي أساليب العمل فستتمكن عندئذ من تشييد بناء قوي يتحدى صعاب هذه المرحلة وغيرها.
كيف تقيمون انعكاسات الحركية الجماهيرية العربية على قضية الصحراء؟
فيما يتعلق بالمضاعفات الممكنة لما يقع حاليا في العالم العربي على ملف الصحراء، أعتقد من الصعب بلورة تصور واضح حوله باعتبار أن المعطيات المتوفرة تجعل من العسير توقع ما يمكن أن تحمله الأسابيع والأشهر القليلة القادمة. إن مشكل الصحراء في نظري ليس مرتبطا بالشرعية الدولية وبدور الجزائر بقدر ما هو مرتبط بنوعية الاختلالات المتراكمة بمنطقة الصحراء منذ سنة 1974 وما قبلها. والحل الوحيد لمواجهة كل الحسابات والتحديات الممكنة يبقى دائما هو العمل على إعادة النظر في تسيير هذا الملف من حيث الحكامة الأمنية والإدارية ومصداقية الطرح الشمولي لمعضلة التنمية بهذه المنطقة، وتبني منظور جديد يحد من التوجهات القديمة، من محسوبية وتمايز واختلالات ما بين مختلف الأطراف حسب الموقع الجغرافي وكذا التعامل مع أبناء المنطقة من منطلق أمني محض يحد من صلاحياتهم ويبعدهم عن صنع القرار ويجعل منهم أعداء للمغرب إما بشكل مباشر أو غير مباشر. أعتقد أن هذه هي أهم مكامن الضعف في أسلوب التسيير المتبع مع هذا الملف. ولذا أرى أن الدولة المغربية، إن هي قررت أن تعيد النظر في المفاهيم وفي أساليب العمل، فستتمكن عندئذ من تشييد بناء قوي يتحدى صعاب هذه المرحلة وغيرها.
ما هي إذن الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل تخطي ألغام هذه المرحلة؟
أظن أنه يجب وضع الهاجس الأمني في الخانة الثانية من حيث الأهمية وتسخيره لمصلحة مخطط سياسي يغلب عليه العقل السياسي، و على هذا الأخير أن يجعل من الهاجس الأمني معطى مكملا وليس أساسيا كما هو الشأن حاليا. أما فيما يتعلق بالقبيلة فأقول بأنها معطى أنتروبولوجي يجب ألا نصدر في حقه أي حكم قيمة، ونتعامل مع القبائل على قدم المساوة ونتجنب الأساليب والحسابات الضيقة التي تفضل بعض القبائل عن البعض الآخر. يجب أن نعلم بأن مسألة الثقة في أبناء الصحراء معطى أساسي تفتقده القدرة التحليلية لأصحاب القرار. ومن هنا وجب إعادة النظر في مفهوم الثقة هذا والتعامل مع الفاعلين السياسيين والجمعويين والاقتصاديين في الأقاليم الجنوبية على أساس أنهم منتجون فعليون وقادرون على الإسهام في صنع القرار وعلى العمل بشكل جدي وقوي للحد من الفكر الانفصالي الذي يعود السبب في ترسيخه إلى السياسة المتبعة من طرف الإدارة المركزية.
وكيف يمكن إشراك الشباب في الأقاليم الجنوبية في هذه المقاربة المستقبلية ؟
أعتقد أنه وجب تفعيل مفهوم الجهوية ، وكدا القيام بإعادة النظر في أساليب الانتخاب وضع حد لهيمنة الأعيان وتجار الحرب. يجب أن يتم النظر بشكل جدي لكل ما من شأنه أن يعطي للحكامة الإدارية قسطا من المصداقية، وأن يتم الدفع بآليات تشجيع الاستثمار، وإعطاء تمثيلية حقيقية للشباب ودعم عملهم ونشاطهم الجمعوي ، إذ ذاك فقط يمكن أن نتمنى خيرا.
عبد الفتاح الفاتحي / باحث في الشؤون الصحراوية
ضرورة صياغة استراتيجيات لمواكبة الشباب في الأقاليم الجنوبية
فيما يخص الشق الاقتصادي والاجتماعي يرى عبد الفتاح الفاتحي ضرورة المزيد من الاستثمارات في الأقاليم الجنوبية من أجل سد احتياجات المطالب الاجتماعية وتوفير مناصب الشغل، إضافة إلى خلق حراك تنموي واقتصادي بالأقاليم الجنوبية، وهو الأمر الذي سيقطع الطريق أمام أي قلاقل تخطط "بوليساريو" فيافتعالها. كما يجب أن ننتبه في نفس السياق إلى المعطى البشري والذي ظهر خلال عدد من المحطات بأن تأطير المواطنين وخاصة الشباب ضعيف جدا في الأقاليم الجنوبية إن لم نقل أنه غائب تماما.
ما هو المدى الذي تعتقد بأن خصوم الوحدة الترابية للمغرب يمكن أن يصلوا إليه في استغلال ظروف العالم العربي من أجل الدفع بأجندتهم الإنفصالية؟
إن الملاحظ هو أن الرأي العام العالمي يتفاعل بشكل إيجابي مع التغير الذي تشهده المنطقة العربية بسبب أنه تغير يقوم على أساس قيم الوحدة في إطار تحقيق مجموعة من المطالب الدستورية والاجتماعية والسياسية.. وأظن بأن هذا الأمر يستوجب الفصل بين قضية الصحراء المغربية ومختلف المطالب التي حركت شعوب عدد من الدول العربية. فإذا وضعنا جبهة البوليساريو في هذا السياق سنجد بأن ينطبق عليها كل ما هو معاكس ومخالف لقيم الوحدة. من خلال هذه المعطيات يتبين بأن النزعة الانفصالية باتت صوتا مبحوحا لا يمكن للعالم أن يلتفت إليه بدليل أن المنتظم الدولي يتفاعل بشكل إيجابي مع مختلف التحركات التي يعرفها العالم العربي والتي أشرت بأنه ترتكز على أسس وحدوية قوية، كما شهدنا ذلك في مصر التي تلاحم فيها المسلمون والأقباط وتوحدوا من أجل هدف واحد هو إنجاح الثورة.
وأعتقد أنه إذا تنبهنا لمجموعة من المعطيات حول تعاطي جبهة بوليساريو مع تحركات 20 فبراير في المغرب ومحاولتها التدخل في شأن مغربي داخلي عبر ترويج مجموعة من الإشاعات والمغالطات التي لن تخدم "قضيتها" بأي شكل من الأشكال في إطار النزاع حول الصحراء. ولن تنعكس كيفما كان الحال على الملف التفاوضي الذي يربطها بالمغرب، نجد بأن الجبهة خلال تلك الفترة ظلت معزولة ومهمشة لينطبق عليها ما يسري على الجماعات المتطرفة التي تسعى رغم انتمائها لوطن معين إلى الابتعاد والانفصال عنه.
أعتقد بأن أعداء الوحدة الترابية للمغرب وعلى رأسهم "بوليساريو" كانوا يراهنون بالفعل على استغلال ظروف المنطقة والتي تجسدت انعكاساتها داخل المغرب على شكل تحركات 20 فبراير. وكانوا يحاولون تسخير تلك التحركات لمصلحتهم. لكن أقول بأن الأمر سينقلب عليهم خاصة إذا مرت العاصفة وتمكن المغرب من أن يستطرد مجموعة من المطالب الاجتماعية والسياسية التي يعبر عنها هذا الحراك المجتمعي الذي يشهده المغرب حاليا. وإذا تمكنا من الوصول عبر هذا الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي إلى توافق جماعي من أجل إنضاج تطور دستوري يتم داخل إطار وطني. وأظن أن التوصل إلى إصلاحات دستورية قوية في هذا الإطار سيعطي دفعة ومصداقية أكبر للمقترح المغربي للحكم الذاتي حينما يتم شرعنته من خلال دستور جديد.
كيف إذن تعتقد بأن المغرب يمكن أن يستفيد على مستوى الملف التفاوضي من هذا الحراك الشعبي الذي تشهده المنطقة؟
أعتقد أن مؤشرات الاستفادة من هذا الحراك على المستوى الدبلوماسي بدا واضحا من خلال التصريح الذي قدمه وزير الخارجية المغربي الطيب الفاسي الفهري لأحد البرامج التلفزيونية، عندما تحدث عن وجود قنوات دبلوماسية على أعلى مستوى مفتوحة ما بين المغرب والجزائر. وأعتقد بأن قناعة الجزائر بالدخول في هذه المحادثات من أجل التعاون يرجع إلى وجود حراك شعبي يدفع في ذلك الاتجاه، إلى جانب وجود إكراهات اقتصادية وسياسية تعاني منها الجزائر. أعتقد أن الشعب الجزائري تنبه إلى مفارقة منح السلطة الحاكمة هناك لامتيازات وعائدات يوفرها البترول لجماعات انفصالية لا علاقة لها بالجزائر، هذا في الوقت الذي يعيش فيه الشعب الجزائر مشاكل اقتصادية تتعلق بالسكن وبالتشغيل...
أعتقد أن المنتظم الدولي في ظل الظرفية الحالية هو أكثر تخوفا من أي وقت مضى من المشاكل التي يمكن أن تخلقها أي جماعات انفصالية تهدف إلى خلق دويلات هشة وضعيفة أصبح ثابتا أنها أكثر عرضة لاختراق المجموعات الإرهابية. ولهذا أعتقد بأن السياق موات الآن للمغرب سواء على المستوى الإقليمي في علاقته مع الجزائر وكذلك في نشوء حكومات جديدة مثلا في تونس التي جددت وأكدت ترحيبها بنشوء اتحاد مغاربي، فهذه الإشارات تدل على ان جبهة بوليساريو ستضعف أكثر وأكثر تحت هذه الظروف ويخفت صوتها ودورها مستقبلا.
ما هي في رأيك التدابير الفورية التي يجب على المسؤولين عن تدبير ملف الصحراء اتخاذها من أجل الاستفادة من الظرفية الحالية وربما إعادة النظر في بعض السياسات القديمة بالأقاليم الجنوبية؟
أعتقد أنه يجب التنبه في إطار رسم أي سياسة في هذا الخصوص إلى أن أحداث "كديم إيزيك" كانت مبنية على أساس وجود مطالب اجتماعية واقتصادية حقيقية مرتبطة بمشاكل السكن والتشغيل.. وهي نفس المطالب التي تستغلها جبهة بوليساريو من أجل تصوير أن تلك المطالب ستؤدي إلى بروز حركات ثورية على شاكلة ما عرفته بعض الدول العربية من أجل إظهار المغرب في موقف الضعيف.
ولهذا أعتقد بأن المغرب مطالب في المضي في الاختيار الذي التزم به أمام المنتظم الدولي من أنه سيمنح الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا باعتبار أن الأمر يقع في خانة آخر ما سيقدمه المغرب على الطاولة من أجل التوصل إلى تسوية النزاع. وعليه أرى بأن المغرب وفي إطار الحراك الاجتماعي الذي يهدف إلى إحداث إصلاحات دستورية، مطالب بإضافة بند خاص بالجهوية الموسعة في الدستور وفق إصلاحات تمكن سكان الأقاليم الجنوبية من تدبير شؤونهم في إطار دولة مركزية ووحدة وطنية. أعتقد أن التنصيص على الحكم الذاتي في الدستور المغربي من شأنه أن يحل مجموعة من الإشكالات التي تركب عليها جبهة البوليساريو، وخاصة ما يتعلق بالشق الحقوقي الذي تحاول جعله مطية من أجل توسيع اختصاصات بعثة "المينورسو". وهو الأمر الذي سينتفي عندما يتمكن سكان الأقاليم الجنوبية من حكم أنفسهم بأنفسهم، وسيخلق ارتباكا للخصوم في متابعة سيرورة النقاش مع مجلس الأمن والمنتظم الدولي. لكن يجب التسريع بتطبيق حكم ذاتي حقيقي عبر رفع اليد عن تدبير الشأن المحلي.
أما في الشق الاقتصادي والاجتماعي فأعتقد أن على المغرب أن يتنبه إلى الإشارات التي بعثها الاتحاد الأوروبي من خلال النقاش حول تجديد اتفاقية الصيد البحري من أجل القيام بمزيد من الاستثمارات في الأقاليم الجنوبية من اجل سد احتياجات المطالب الاجتماعية وتوفير مناصب الشغل، إضافة إلى خلق حراك تنموي واقتصادي بالأقاليم الجنوبية، وهو الأمر الذي سيقطع الطريق أمام أي قلاقل تدفع بوليساريو في اتجاهه. كما يجب أن ننتبه في نفس السياق إلى المعطى البشري والذي ظهر خلال عدد من المحطات بأن تأطير المواطنين وخاصة الشباب ضعيف جدا في الأقاليم الجنوبية إن لم نقل أنه غائب تماما. وهذا الأمر يعري الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني ويسائلها باعتبارها المسؤول المباشر عن تأطير المواطنين. أعتقد أن على الأحزاب والهيئات المدنية التي انشغلت لحد الآن بإصدار بيانات وتصريحات وإقامة أيام دراسية وندوات في المدن الداخلية، أن تبحث في المرحلة القادمة عن سبل صياغة استراتيجيات واضحة بهدف تكوين وتأهيل ومواكبة الشباب في المناطق الجنوبية خاصة وفي المغرب عامة.
محمد غماري ، خبير استراتيجي وعسكري
النظام الجزائري منشغل بوضعه الداخلي
شكك الخبير العسكري محمد غماري في إمكانية قيام الجزائر بأي تحرك يستهدف المغرب في قضية وحدته الترابية معللا ذلك بانشغالها في أوضاعها الداخلية التي ساهمت الظرفية التي يمر منها العالم العربي في تأزيمها، لكنه لم يستثن إمكانية قيام بوليساريو بتحرك من ذلك القبيل، بسبب انتعاش الجماعات الانفصالية على الأزمات والاضطرابات. ودعا غماري في هذا الحوار إلى ضرورة توجه المسؤولين في المغرب على القيام بإصلاحات أكثر عمقا وتأثيرا قصد التصدي لأي محاولات من خصوم الوحدة الترابية لاستغلال أوضاع المنطقة بما يخدم مشاريعهم الانفصالية.
كيف يمكن أن تؤثر الظروف التي تشهدها المنطقة العربية على قضية الوحدة الترابية وكيف يمكن أن يستغل الخصوم هذه المرحلة لتمرير أجنداتهم الانفصالية؟
رغم التباينات والاختلافات بين الشعوب العربية فإن لها مشاغل وهموم مشتركة وأوضاع متشابهة وواقع اقتصادي وسياسي واجتماعي جد متشابه. فكلما كان هناك مشكل في أحد الدول كان له انعكاسات وعواقب على باقي الدول المنتمية إلى مجموعة معينة سواء كانت عربية أو أوروبية أو إفريقية.. لأن التقارب يفرض التأثر المتبادل. أما فيما يتعلق بالقضية الوطنية للمغرب فأظن أن أي تأثير يمكن أن يكون للتغيرات التي تشهدها المنطقة العربية على تلك القضية سيكون تأثيرا محدودا جدا وليس بالغ الأهمية. وأعتقد أن الأمر راجع لأن المغرب ليس هو الوحيد المعني بالتخوف من أي تأثيرات محتملة للظروف القائمة في المنطقة العربية على قضيته الأولى وهي قضية الوحدة الترابية، فالجزائر كذلك معنية بهذا الامر وربما تكون منشغلة أكثر من المغرب بهذه الظرفية التي يعيشها العالم العربي. لذلك أعتقد أن انشغال النظام الجزائري بوضعه الداخلي ومحاولة التركيز على تدارك الوضع قبل أن يحدث أي شيء غير مفاجئ يحد من أي إمكانية كان يمكن في أي ظروف أخرى أن يستغلها أعداء الوحدة الترابية من أجل القيام بتحركات على الأرض تهدد أمان واستقرار الأوضاع في الأقاليم الجنوبية وذلك بهدف معاكسة والإضرار بمصالح المغرب.
لكن ماذا عن البوليساريو؟ إن كانت الجزائر مشغولة بأوضاعها الداخلية، ألا يمكن أن تقوم بوليساريو بتحركات في المنطقة نابعة من يأس ورغبة في استغلال الظروف المضطربة في المنطقة؟
في الحقيقة أن هذا سيناريو محتمل، فكلما كانت الظروف صعبة على الدول كلما كانت سهلة على المجموعات والتنظيمات من قبيل جبهة بوليساريو الانفصالية، فهذه المجموعات تستغل الفرص التي تنهمك فيها الدول في مشاكلها الداخلية، حيث تجد هذه المنظمات نفسها إلى حد ما بأنها ذات تأثير وذات فعالية لأنه كلما تقلصت فعالية الدول كلما ازدادت فعالية المجموعات والمنظمات. ومن هذا المنطلق يمكن أن نتوقع استغلال جبهة بوليساريو الانفصالية من أجل أن تتحرك لتصدر المشهد العام في الواقع السياسي، وتحاول الدفع بنفوذها لمحاولة توسيع رقعته. هذا الأمر يمكن أن يتم أحيانا عبر الدعاية فقط لكنه في أحيان أخرى يتم عبر القيام بعمليات ذات الطابع العسكري، إلا أن أي عمليات عسكرية محتملة من ذلك القبيل لا يمكن أن تكون مهمة نظرا للفرق الشاسع في المستوى العسكري ما بين المغرب و"بوليساريو"، حيث تعلم هذه الأخيرة أنها لا يمكن أن تصمد أمام أي مواجهة أمام المغرب، لكن يبقى الحذر واجبا رغم جميع التحليلات.
كيف تتوقع أن تتغير الأمور عل مستوى ملف الصحراء على خلفية التوجه الجديد لدى مراكز القرار الغربية في تدعيم الشعوب بشكل أكبر؟
الحقيقة أن الدول العظمى دائما تدافع عن مصلحتها أكثر من كونها تتخذ موقفا أخلاقيا. وهذه المصلحة كانت تظهر لها سابقا في شكل معين، تغير على ضوء المعطيات الجديدة للمرحلة والظرفية الحالية. ففي السابق كان يظهر لها أن مصالحها مضمونة عبر التعامل مع القادة رغم بعض الملاحظات التي تكون لها على بعض الأنظمة فيما يتعلق ببعض القضايا المرتبطة بالديموقراطية والحريات. أما الآن فأصبحت تلك القوى العظمى تحاول أن تظهر للشعوب أنها في صفها. ولهذا فأعتقد أن التخوف هو أنه سيتم التركيز في المرحلة القادمة بشكل أكبر على مفهوم "حق الشعوب في تقرير مصيرها".
كيف يمكن مواجهة هذا الأمر من الطرف المغربي من أجل تقليل الخسائر؟
يجب القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية ومعالجة المشاكل الناجمة أساسا عن الفساد الإداري المستفحل في الأقاليم الجنوبية والتفاوت الاجتماعي المفرط، فقد مضى الوقت على الحلول الترقيعية التي كان يتم انتهاجها سابقا بل لابد من حلول حقيقية لمختلف تلك المشاكل. كما يجب على المغرب أن يتشبث بموقفه المتعلق بمشروع الحكم الذاتي. كما أن التعامل مع الأقاليم الجنوبية على أساس أنها ذات حالة استثنائية يجب أن يصبح متجاوزا ويتم تبني مقاربة شمولية تجمع بين مختلف المحاور الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بدل التركيز فقط على المقاربة الأمنية.
محمد المسكاوي / رئيس هيئة الحفاظ على المال العام
التعامل الاستثنائي مع الأقاليم الجنوبية هو الذي خلق نخبا تقدم ولاءات على قدرالامتيازات
بطبيعة الحال، يقول محمد المسكاوي، أن خصوم الوحدة الترابية للمغرب وعلى رأسهم الجزائر وبوليساريو يتربصون أي فرصة سانحة من أجل معاكسة المغرب في وحدته الترابية التي قدم المغاربة، من الشمال إلى الجنوب، الكثير من التضحيات من أجل استكمالها. فخصوم المغرب يحاولون استغلال جميع الفرص من أجل إثارة القلاقل. لذا يعتقد أن على المسؤولين عن تدبير ملف الصحراء الانتباه إلى أن الوقت قد حان بالفعل من أجل أن تدبير هذا الملف بمنطق اقتصادي واجتماعي وسياسي سليم ، وأن تكون هناك مساواة في التعامل بين مختلف جهات المغرب من حيث الحقوق والواجبات.. إذن يجب أن يتوقف المسؤولون عن التعامل مع الأقاليم الجنوبية كمنطقة استثنائية.
كما يعتقد المسكاوي أن الانطلاقة الأساسية هي أن يفكر القائمون على الأمورفي نوع الأنشطة الاقتصادية التي يمكن أن تنجح في كل منطقة ويباشروا تدعيم الاستثمار فيها دون عقدة التخوف مما تخبئه المتغيرات السياسية في المستقبل.
ما هي تداعيات ما تعرفه المنطقة العربية من حراك شعبي على قضية الصحراء وإلى أي حد يمكن أن يستغل الخصوم هذه الظرفية ؟
أود التأكيد بداية على أنه من حق الشعوب أن تتظاهر بشكل سلمي من أجل مطالب اجتماعية وسياسية تسعى إلى تحسين الحياة اليومية للوصول إلى الحياة الكريمة وإلى العدالة الاجتماعية. فبالتالي منطق الأمور والتطورات التي يعرفها العالم والتطور التكنولوجي من خلال شبكة الانترنت، أصبح العالم كما يقال أنه قرية صغيرة، ومن الطبيعي أن تحدث مثل هذه الاحتجاجات السلمية الهادفة إلى مطالب اجتماعية.
بطبيعة الحال أن خصوم الوحدة الترابية للمغرب وعلى رأسهم الجزائر وبوليساريو يتربصون أي فرصة سانحة من أجل معاكسة المغرب في وحدته الترابية التي قدم المغاربة من الشمال إلى الجنوب الكثير من التضحيات من أجل استكمالها. فخصوم المغرب يحاولون استغلال جميع الفرص من أجل إثارة القلاقل وتصعيد الأمور داخل الأقاليم الجنوبية. مع العلم أن الدولة الجزائرية نفسها ليست بمنأى عن مثل تلك الاحتجاجات إذ أن ما يصل من أخبار يدل على لجوء القيادة الجزائرية إلى استخدام آلة القمع تارة ووسائل الترغيب تارة أخرى بهدف إسكات الشعب الجزائري الذي أعتقد بأنه سيذهب بعيدا في المطالبة بحقه في دولة بترولية تتوفر على رصيد مالي مهم في الوقت الذي يعيش فيه الشعب في فقر أسوء مما يوجد في المغرب. ولهذا أنا متأكد أنهم سيحاولون استغلال الفرصة لأن الفوضى تسمح بتمرير أي شيء بما في ذلك الأسلحة لا قدر الله.
ما هي الإجراءات التي يمكن للمغرب اتخاذها من أجل قطع الطريق أمام أي محاولات من ذلك القبيل؟
أعتقد أن أهم القضايا التي يجب أن نتنبه إليها على هذا الصعيد هي سياسة الامتيازات المعتمدة في الأقاليم الجنوبية، والتي أشار لها بصراحة تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية في أحداث "كديم أيزيك". ولهذا أعتقد بأن المسؤولين عن تدبير ملف الصحراء يجب أن ينتبهوا إلى أنه قد حان الوقت بالفعل من أجل أن يدبر الملف بمنطق اقتصادي واجتماعي وسياسي سليم مشابه لباقي مناطق المغرب. فيجب أن تكون هناك مساواة في التعامل بين مختلف جهات المغرب من حيث الحقوق والواجبات.. إذن يجب أن يتوقف المسؤولون عن التعامل مع الأقاليم الجنوبية كمنطقة استثنائية. فحتى السياسات التنموية يجب أن تطبق وفق المنظور والتصور الرسمي للحكومة بشكل طبيعي لا يفرق بين منطقة وأخرى. بل إنني أعتقد أن التعامل الاستثنائي مع الأقاليم الجنوبية هو الذي خلق نخبا تقدم ولاءات على قدرالامتيازات، وهذا أمر خطير جدا. إننا أحوج ما نكون إلى نخب وطنية تدافع عن القضية الوطنية ولو خسرت مصالحها التي يضمنها لها اقتصاد الريع مع ما يوفره من امتيازات مرتبطة بالرخص الخاصة بالصيد في أعالي البحار والرمال وفي المرتبات التي تصرف دون عمل يؤدى في مقابلها. يجب أن نقطع مع هذا المنطق الذي لا يفرز نخبا سياسية واقتصادية واجتماعية طبيعية، بل ينتج نخبا لا يمكن بكل صراحة التنبؤ بردود أفعالها في حال حرمانها مستقبلا من الامتيازات التي اعتادت عليها.
أعتقد أن القطع مع سياسة الامتيازات يجب أن يتم في إطار مشروع الجهوية الموسعة التي دعا لها جلالة الملك، إلى جانب القطع مع اقتصاد الريع والدخول في اقتصاد منظم يخلق فرص عمل حقيقية ويساوي بين المواطنين في الأقاليم الجنوبية كما يجعل تكاليف المعيشة مماثلة لغيرها من المدن المغربية.
ما هي التدابير الاقتصادية التي يمكن للقائمين على ملف الصحراء اتخاذها قصد تجاوز أخطاء الماضي والتأسيس لمرحلة جديدة؟
أظن أنه يجب أن تكون هناك جلسات عمل بين المتخصصين في المجال الاقتصادي من أجل التوصل إلى بلورة صورة واضحة عن نوع الاقتصاد المستهدف في الأقاليم الجنوبية وسبل الاستفادة من موارد المنطقة من أجل تنمية وتطوير مشاريع اقتصادية تعود بالفائدة على المنطقة وسكانها وعلى المغرب بشكل عام. ولهذا أعتقد بأن مشروع الطاقة الشمسية والطاقة الريحية - التي تهم في شق أساسي منها الأقاليم الجنوبية - هو من المشاريع التي يجب على المغرب أن يمضي فيه بكل جدية. هناك كذلك قطاع الصيد البحري الذي لا أظن بأن المغرب استثمر واستفاد منه بالقدر الممكن الذي تسمح به مؤهلات المنطقة من شواطئ تمتد لمئات الكيلومترات، فلا يعقل مثلا أن اليابانيين يقومون بالصيد والتصنيع والتصدير في أعالي البحار دون أن يستفيد المغرب إلا من القليل جدا من ثرواته، فحتى التفريغ داخل الموانئ المغربية لا يتم.
كما يمكن كذلك تشجيع أصحاب المشاريع الصغرى وفق الخصوصية الثقافية للمنطقة. كذلك من الممكن ضخ أموال من أجل استغلال وتنمية القطاع السياحي الذي يملك مقومات مهمة في المناطق الجنوبية، وهو الأمر الذي يمكن أن يستدعي التفكير مستقبلا في إقامة مطار دولي بالعيون. وهنا أود الإشارة إلى أهمية إقامة جامعة تستوعب طلبة بإحدى المدن في الأقاليم الجنوبية . ولم لا يتم التفكير في إقامة مستشفى جامعي في مستوى مستشفى ابن سينا بالرباط وابن رشد بالدار البيضاء. فلا يمكن لمواطن وفرت له شروط التعليم والتطبيب المتقدمة والجيدة إلا أن يكون منتجا ومساهما في التنمية. أعتقد أن الانطلاقة الأساسية هي أن يفكر المتخصصون في نوع الأنشطة الاقتصادية التي يمكن أن تنجح في المنطقة ويباشر تدعيم الاستثمار فيها دون عقدة التخوف مما تخبئه المغيرات السياسية في المستقبل.
ماذا عن دور الشباب في هذه الأوراش وكيف يمكن تأطيرهم من أجل انخراط حقيقي يتجاوز صعوبات المرحلة الحالية؟
بالتأكيد أن أهم الموارد التي تعتمد عليها الدول المتقدمة هي الموارد البشرية، ولهذا أظن بأن أول إجراء يمكن أن تقوم به الدولة من أجل تشجيع الشباب في الأقاليم الجنوبية على الانخراط في أوراش التنمية هو عبر القطع تماما مع الهاجس الأمني. وهذا الأمر إن تم سيفسح المجال أمام بروز المبادرات الفردية والمبادرات الحرة، كما سيكون الشباب أكثر إقبالا على ممارسة العمل الجمعوي والسياسي. أعتقد أن القطع مع الهاجس الأمني سيؤدي إلى فتح آفاق متعددة أمام الجميع المواطنين والمسؤولين، لأن التدبير الأمني لا ينتج إلاّ الانهزامية والانغلاق والخوف والحذر. ويجب كذلك أن يتم إشراك أبناء المنطقة الجنوبية في تسيير الشأن المحلي وهو الأمر الذي يعد جوهر مقترح الحكم الذاتي، وهنا لابد من التنويه بخطوة تعيين والي من أبناء المنطقة بالعيون إذ لا يعقل أن يكون القائمون على تسيير الأمور في الأقاليم الجنوبية غرباء عنها من حيث الجهل بمجموعة من التقاليد والأعراف المنظمة والمؤثرة هناك. أعتقد أن ما تشهده المنطقة من تغيرات التي انعكست بشكل طبيعي على المغرب، تشكل فرصة للقائمين على الأمور من أجل مراجعة عدد من السياسات الخاصة بالمجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وتكوين جيل من الشباب المتعلم والواعي، القادر على مواجهة التحديات التي تفرضها التغيرات التي يمر منها العالم بكامله، وليس فقط العالم العربي. وهنا أقول أن المغرب يملك فرصة أفضل من كثير من الدول العربية بسبب تقدمه في عدد من المجالات المرتبطة أساسا بحرية التعبير والعمل السياسي وعدد من الأوراش الاقتصادية، لكن الطبيعة البشرية تقتضي دائما الطموح إلى ما هو أفضل.
Interviews effectués par Melle Khawla AJANANE
Sahara hebdo
التعليقات (0)