الطفل المغربي وجمالية التلقي
يتيح أدب الأطفال فرصا غنية وهامة للناقد الأدبي كي يكشف عن جوانب من آليات جمالية التلقي. يكمن أن يتم ذلك عبر تقصير المسافة الوهمية أو الحقيقية الممتدة بين الإبداع والطفل المستقبل لأجناس الأدب من خلال قراءة يزاولها بنفسه أو يقوم بها وسيط ( الأب/الأم/المعلم ). والواقع أن أدب الأطفال يثير شبكة معقدة من القضايا الجمالية التي لها صلة بالتلقي. من ذلك أن طفل المرحلة المبكرة ( من السنة الثالثة إلى السنة الخامسة ) ينوب عنه الراشد في قراءة وتفسير النص أو التعليق على رسوم شريط مصورة كما أن الطفل الأمي لايزاول «القراءة» في صورتها الطبيعية، بل من خلال الاستماع، تماما كما يحدث مع متلقي الأدب الشعبي، إضافة إلى صعوبة الضبط العلمي والجمالي ل "درجة" التلقي في ذهن ونفسية الطفل.
إلا أن الإشكال الحقيقي الذي يفرض نفسه في هذا المجال يتمثل في كون نظرية التلقي، حسب صورتها في النقد الغربي الحديث، تؤسس مفاهيمها النظرية انطلاقا من :
1 : الإبداع الأدبي في نماذجه ونصوصه الغربية.
: اعتبار المتلقي راشدا2
3 : اعتماد الـأدب المدون خاصة
من هنا يصبح من اللازم –متى تم العزم على الاستفادة من إمكانيات تلك النظرية- مراعاة الشروط الموضوعية التي يقتضيها أدب الأطفال لدى أمة ما. والواقع يكشف بجلاء أن نظرية التلقي لا تكفي بمفردها في حل كثير من قضايا أدب الأطفال، مما يقتضي القول بأن إسهامات بعض منظري علم نفس الطفل (أرنلد جزل/جان بياجيه/هنري فالون) تزود الناقد الأدبي بمجموعة منة القوانين التي بإمكانها الكشف عن جوانب من آليات التلقي لدى الطفل. كما أن الدراسات الميدانية التي ينجزها الباحثون في مجال القراءة، لأهداف تربوية أو سلوكية، قد تفيد بدورها ناقد أدب الأطفال
أن حضور الطفل في الحياة المغربية قد يعالج اجتماعيا أو لغويا أو نفسيا أو تعليميا أو حرفيا، ولكنه قلما يعرض على مستوى النقد الأدبي لسبب بسيط يرجع إلى النقد عندما يغيب إما عن جهل أو عن قصد فئة عريضة من جمهور المتلقين، تكاد تكون نصف المجتمع المغربي.
فالنقد الأدبي بالمغرب هو نقد الراشدين، والتركيبة الذهنية للناقد تستبعد الطفل. كما أن وظيفة فحص أنواع التخيل من قبل المختصين تستشرف هموم الكبار والعقول الناضجة والإشكالات الإنسانية ذات السمة الرجولي، وتنسى هموم الصغار ومشاكلهم النفسية وتتقاعس عن الاهتمام بالحد الأدنى من حاجاتهم للقيم الجمالية.
من نتائج ذلك التغيب أن الطفل المغربي صار يعاني ما يمكن تسميته ب "عمى الأجناس الأدبية" حيث لا يفلح في التمييز بين وسائط الاتصال وقنوات الإبلاغ وأنواع الخطاب التي يحاصره بها الراشد، ويفتقر إلى الحد الأدنى من المعرفة التقريبية ببعض الصيغ والأساليب التقنية وأدوات الإقناع الخاصة بكل نوع أو وسيط، مما ينتج عنه غموض في عملية التلقي، وهبوط في درجات الاستمتاع بالإمكانيات الجمالية الموظفة في النص.
كما أن غموض مهمة النقد تجاه أدب الأطفال، يجعل الإبداع الموجه للصغار لايحدد بدقة فئات جمهوره، الشيء الذي يؤدي إلى تواصل مضطرب. فعلاقة الطفل القارئ بالقصة-مثلا- تتجاوز العلاقة العادية القائمة بين النص والمتلقي، بل هي يبادل في المواقع بين مجموعة الأحداث والشخصيات والطفل المتلقي الذي يكتشف في نفسه ميلا جارفا لتقليد مغامرات النص، وتقمص صورة بطله، عكس القارئ الراشد الذي يقيم حاجزا بين ما يقرؤه في رواية ومكونات شخصيته الحقيقية. ومن هنا خطورة التعامل الأدبي مع الأطفال من دون تحديد فئات أعمارهم. وباستثناء بعض التوضيحات التي يوردها أحمد عبد السلام البقالي –كرواية للفتيان، وقصة للكبار والصغار،ورواية للكبار والصغار- لم تفلح قصص الأطفال بالمغرب في ترسيخ هذا التقليد النقدي.
حيرة الطفل: قصة أم درس أخلاقي؟
تسود بكثرة بين الأطفال القصص ذات الخطاب القيمي الذي يلح على الوعظ أو المباشرة في التعليم. ومن المعروف أن القارئ الطفل قد يستطيع الإجابة آليا عن بعض سمات القيمة المعالجة في النص، ولكنه في المقابل سيعجز عجزا شبه تام عن بلورة خيبة أمله التي عاناها بسبب عدم انسجامه مع نص من هذا القبيل، وعدم استمتاعه بفقراته التي أقبل على قراءتها منذ الوهلة الأولى ومتوهما أنه بصدد «قصة» لا بصدد درس أخلاقي، ومن هنا تبرز أهمية ناقد الأطفال الذي ينصب نفسه وسيطا بين الصغار ونصوصهم، ويعمل على تقمص مشاعرهم وانفعالاتهم وإدراكهم بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، مستعينا في ذلك ببعض أصول علم النفس، وجماليات الكتابة للصغار، وبدرجة نبض الطفولة التي يحملها في أعماقه.
يأنف الأديب المغربي-عموما- من النزول إلى الأطفال، ولعل عملية إحصاء الذين كتبوا للصغار في عقد الثمانينات بالمقارنة بالسنوات السابقة عليها تفصح عن ضآلة عدد هؤلاء. أما من حيث الكيف فيبدو أن المباشرة في مخاطبة الطفل، من خلال صيغ وعظية لاتزال سائدة إلى اليوم في قصص الأطفال المغربية على الرغم من أنها نغمة تعليمية مباشرة. من ذلك خاتمة قصة «معركة النمل» لغازى الصغير:
« لقد قدمت جماعات النمل الآلاف من الضحايا، من أجل تكمل مسيرتها في العيش بسلام وطمأنينة ولقنت الفيل درسا لن ينساه أبدا لقد انتصرت جماعات النمل، لأنها كانت مصممة على تحقيق الانتصار»
الشكل البوليسي.
يستعير أحمد عبد السلام البقالي في بعض رواياته للفتيان الشكل الروائي البوليسي بصيغته المحيرة، كما هي عند الرواد الأوربيين كأجاثا كريستي وجورج سيمنون وألفريد هيتشكوك، ويستدرح الطفل لينخرط في عالم مشحون بكثافة ذهنية، تملي عليه شروطا قرائية جديدة، ويبرر القالي توظيف الشكل البوليسي –إلى جانب أشكال أخرى- بحجتي التجريب والتنويع.
إلى جانب ذلك فكثير من قصص البقالي تنبني على مواصفات سينمائية من ذلك هذه الصورة التي تتوالى فيها الأفعال والوظائف في نظام وتسلسل ملموسين:
« ومن تحت الماء نظر منصور إلى بطن المركب الكبير كحوت ضخم معلق في الهواء ودار حوله حتى وصل المروحة الحديدية، وأخذ السلك من حزامه فعلقه عليها. تم ربط الشريط بالإطار الذي تدور بداخله المروحة، واستنشق نفسا عميقا، وغطس إلى القعر. وهناك بحث عن حجر صلب، وربطه بطرف الشريط، وصعد بسرعة إلى سطح الماء وقد ضاقت أنفاسه، وأطلع الحجر بالشريط حتى أمسك به فوضعه على إطار الرفاص (المروحة) وأدخله بين شفرتيه، وشده إلى الإطار والمروحة بالسلك شدا وثيقا»
أسلوب الرواية الجديدة
كما يستلهم الكاتب المغربي أحيانا في خطابه القصصي لغة مجردة، متوترة التراكيب، تنحوا في اتجاه سردي متسم بالحياد من خلال تعرية اللغة العربية من دفئها ودلالاتها المعهودة، وتضمينها صيغا شفافة تصف الأشياء هندسيا، وتستعير من أسلوب »"الرواية الجديدة" برودته:
ففي افتتاحية قصة "عمارة العمالقة" لعبد الرحيم المودن تتكلم الأشكال الهندسية والألوان والأحجام، مثلما تتكلم مكونات إحدى لوحات بيكاسو في مرحلته التكعيبية أو مثلما تتشكل بعض ديكورات فيلم « انفجار»
« ألقى أمين نظرة أخيرة على العلبة الكارتونية قبل أن يغلق جناحي النسر العريضتين. في العلبة الكارتونية مكعبات ومربعات ومثلثات ذات أحجام مختلفة وألوان عديدة: المربعات حمراء والمكعبات صفراء والمثلثات زرقاء.
أطل " أمين" من النافذة وقلد صوت الفيل ذي الخرطوم الطويل، فبرز على التوالي "عدي"و "صفاء"و "بهية" والتقى الجميع أمام العتبة على شكل دائرة وقف أمين في وسطها خطيبا»
والغريب أن المودن – الذي دخل أخيرا إلى ميدان أدب الأطفال- يؤمن بإمكانات الحكي الشعبي الذي يستلهمه في كثير من إنتاجه القصصي الصادر حديثا والموجه للراشدين ولكن لم يحاول لحد الآن استغلال جوانب من تلك الإمكانات في مخاطبة الطفل.
الشاعرية الملغزة:
أما نهج محمد الصباغ في مخاطبة الطفل المغربي فلا يخرج خطته المعهودة في الكتابة القصصية التي رسمناها يوما بالحكاية الشاعرية حيث الرمز والتلغيز والكلمات الموحية والشفافية المفرطة التي تتجاوز في كثير من نماذجها أفق انتظار الطفل.
« تقلب "بسمة" الصفحة. وتسترسل في القراءة، وبجوارها تيطا: ومن ثم، وبمجرد ماتكسرت البيضة الرمادية، جنحت من جوفها الرمادي القاتم غلالة رمادية.
الغلالة تحولت إلى سحابة. السحابة، نزلت الأمطار بلون الغزارة، عصفت الرياح، ومن أثر دويها انحبست الأودية والسواقي، وجرت مهارة سقسقاتها»
ففي هذه المقطوعة تمثل « بسمة» دورين: فهي قارئة.. وهي بطلة. كما أن النص في مجموعه يتركب مما يمكن تسميته بقصة داخل قصة: الأولى تتصل "ببسمة"نفسها باعتبارها قارئة، والثانية هي القصة التي تقرؤها "بسمة" حول فصول السنة، ولاشك أن هذه الثنائية المضاعفة: القارئة/ البطلة-قصة في/ قصة ستكيف التلقي بشروط تتجاوز مدارك الطفل.
تلك عينات محدودة من الجماليات الأدبية السائدة حديثا في قصص الأطفال بالمغرب، أوردنل بعض نماذجها على سبيل التمثيل دونما دخول في التفاصيل العامة للصورة.
أفق انتظار الطفل المغربي:
من الملاحظ أن مخلية الطفل المغربي المعاصر تحتفظ بصيغ جمالية منسوجة في معظمها من النماذج التعليمية، أو من تلك التي يقدمها التلفاز في مسلسلات أو أشرطة مصورة، مصرية، أو لبنانية، أو أجنبية أو من تلك التي تستعار من الأدب الغربي. وهذا يعني أن الطفل ما بعد الاستقلال لم تتح له كثير من الفرص لإغناء مخيلته بنماذج الأدب الشعبي، من حكايات عجيبة، وسير الأبطال والأمثال والمقامات والألغاز والأحاجي.
وبديهي أن الحكي الخارق يستهوي، بجميع مستوياته، جمهور الصغار. وهذه الحقيقة للأسف الشديد ليست معيارية، ولكنها نتيجة للمعاينة الجزئية والحدس وبعض الاستطلاعات الميدانية المحدودة التي تكشف عن ميل واضح للطفل المغربي نحو أصناف" الخارق" المتداولة محليا في الفصحى والعامية أكثر من ميله إلى النماذج المترجمة من قبل حكاية "أليس في بلاد العجائب" للويس كارول، أو حكاية «الأمير السعيد» لأسكار وايلد، أو حكاية شارل بيرو.
إلا أن الأديب المغربي قلما يستثمر السمات الخارقة في استثارة الطفل، ولكنه عندما ينجز نصوصا عجيبة مثل «عمتي جيدة» لمحمد العمري، وحكاية «القمر المعلق» لمصطفى رسام، يكون في مستوى الطاقة الجمالية لتلك السمات.
ومع ذلك فإن جماليات الأدب الشعبي لم تؤثر بوضوح في مسيرة الإبداع المغربي المعاصر إلى الآن.
إن هذه الحقائق تغري منظر أدب الأطفال كي يثير التساؤلين الآتيين:
1 : أليس في إمكان الكاتب المغربي استلهام الحكايات العجيبة، وحكايات الجنيات والخرافات المتداولة في المدن والقرى، لانجاز جمالية ذات صلة حميمة بالموروث المغربي والعربي؟
2 : ألا يمكن استثمار الطقوس التي كانت تواكب جلسات حكي الجدات لترسيخ أفق جمالي لايشعر الطفل المغربي ضمنه بالغرابة والاستلاب؟
إن واقع قصص الأطفال بالمغرب يشكو من فقر في جمال استثمار حكايات الجدات . والأمر نفسه يمكن أن يقال عن ظاهرة الحلقة التي استغلها المسرح المغربي في بعض محاولاته، شكليا فقط . صحيح أن الحلقة تحتوي مجموعة من الجماليات المتداخلية كالتشخيص والإيماء والغناء والسجع، والتقديم والتأخير، والإيقاع، والتشويق، وتضخيم صورتي البطلين الحقيقي والمزيف، والسرد والحوار والشعر...ولكنها، مع ذلك ليست في حقيقتها مجموع جماليات فحسب، بل هي صيغة تواصلية موروثا.وهذه الصيغة المشروطة بالموروث بإمكانها إغناء دائرة تلقي الطفل المغربي بأشكال ومستويات أدبية عديدة ،كالقصة والمسرح و الشعر القصصي.
إن الدعوة إلى إغناء دائرة أدب الطفل المغربي بالرجوع إلى الموروث الشعبي لاتنسى ما لهذا الموروث من صلات طبيعية بين تلقائية كل من الأدب الشعبي و الطفولة . إن «قيمة أدب الأطفال ليست تربوية فقط،بل فنية أيضا،فهو كالأدب الشعبي يمنح من ذلك المورد الثر،مورد اللاوعي الجماعي ، القديم قدم البشرية نفسها، ومن هنا نهتز - نحن الكبار-لأدب الطفولة كما نهتز لأدب الشعب.بل لا تعلو إذا قلنا إن القصاص أو الشاعر إذا انقطع مابينه وبين طفولته فإنه لايعود قادرا على أن يخلق أدبا له قيمة، لأنه يفقد الدهشة المتجددة والحكمة العتيقة اللتين تتميز بهما نظرة الشعب ونظرة الأطفال إلى الحياة»
التعليقات (0)