وقفتْ تتأملُ بعينيها الجميلتين- على الرغم من ذبول جفنيها الذي ربما قد يؤخذ على انه سهر وردي لليالي حالكة تقترب فيه من نجمة بعيدة في سماء غربتها - وثوبها الخرق، وشعر تمري أمسى خصلا لهجره المشط أياما، في منتصف ذلك السلم المؤدي إلى ((المشتمل)) الذي تقطن فيه وأمها، طفلتين بعمرها كانتا ترتادان عيادة طب الأسنان التي في الطابق الأرضي.
وبرشاقة جسدها الناحل وخفة دمها سألت: أنى لك هذا ؟ وأشارت إلى طوق كان يربط شعر الفتاة لا إلى طوق أسنانها البلاتيني فأجابت انه من صاحب الإكسسوارات بعد أن نظرت لأختها واضعة كلتا يديها الصغيرتين على فمها العالي لتطلق ضحكة بسيطة لتكاد تكون صوت موسيقى وبانحناءة قليلة برأسها ململمة جسدها للأعلى ثم أشاحتا بوجهيهما عنها ليتطاير شعرهما بتناسق مذهل كانسياب العطر الذي عبق في المكان منذ لحظة دخولهما وأمهما الفارعة .
عكفت راجعة لامها لتسألها المرة الألف عن اقتناء طوق وكالعادة أجابت الأم المسكينة بدمعة باردة اعتادت طريقها على وجنتيها الخشبية بينما أكملت "نوارة" بتهكم هذه المرة ما أرادت الأم قوله (رحم الله أباك)...... أبي الذي وعدني أن يشتري لي طوقا ولم يرجع آآآآآآه كم حلمت بعودته والطوق طوال قترة ذهابه لأداء الزيارة مشيا لا لأنه لا يملك الأجرة فحسب بل لإيمانه بالأجر على قدر المشقة، ضربت احدي يديها بالأخرى وصنعت حركتها المعهودة التي تشبه إلى حد ما رقصة السامبا لكنها جانبية بساقين مستقيمتين كأنهما بندول أفكارها الذي يزيح بها هنا وهناك ، والمعلق بمركز فقرها المدقع.
كأن رقصتها انتفاضة ضد واقع مؤلم لا تريد أن تقره وربما صارت لازمة لها،
أدارت ظهرها لأمها وراحت تجوب المكان بحثا عن بديل.
أفلحت هذه المرة أن تجد ضالتها المنشودة بعد أن أرسلها فراش العيادة لتلقي بعض القمامة.
شيء حديدي، نصف دائري، ربما هو جزء من محرك سيارة ، أو شيء من هذا القبيل المهم انه احتضن رأسها كأنه طوق فطالت السماء زهوا وأخذت تقفز كفراشات الصبح في خمائل الملذات تتراقص كأنها وجدت كنزا، ولكن بم أزينه؟ كي يكون براقا!!
مسحته بثوبها الذي لا يقل اتساخا عنه، سائرة مفكرة في طريق متعرجة والبهجة كادت تشقق وجنتيها الصفراوين تميل هنا تارة وأخرى هناك تستكشف هذا العالم الكبير الذي ضاق بها وأمها بعينين غير مستقرتين كأنهما عصفورتان لفت انتباهها بريق متناثر من ذلك البيت الذي أن طالما حلم به أبوها وانتظره طويلا كيما يضمن عملا متواصلا ولو لمدة وجيزة بدلا من ذهابه إلى ساحة العمال لينتظر من يخرجه وهو الذي يجر برجلة التي أصيبت في الحرب الأولى فكانت فرصته في العمل شحيحة نعم كان جاره الثري مولعا بالعمارة فكأنما يعالج مشكلة سايكلوجية بفخامة البناء الذي ماانفك مذ تحوله الفجائي عن الهدم والبناء حتى ان الشارع هجر من المركبات نتيجة لذلك وقيل انه سرق الكثير في الحرب الأخيرة
كان احد العاملين في البيت مديرا ظهره للشارع وهو يرمي بالحجارة والبلاط وأشياء أخرى عالقة فصادف أن وقعت عيناها على شريط زينة ظنته يصلح لطوقها المزعوم فهرعت إليه مسرعة تقفز فوق الركام كجرادة قاضمة خوفها وحزنها وبينما هي تروم اخذ ذلك الشيء أحست بهول واقع فتحاشت مجموعة طابوق مرصوفة بالاسمنت كادت تودي بها بينما هي راغت إذ أصابها احد قضبان التسليح، أرسل طرفه الصدئ إلى فروة رأسها وأطاح بطوقها المشئوم فصرخت مذعورة طوقي، طوقي، انحنت غير بعيد وأمسكت طوقها بيد والأخرى وضعتها على مكان الجرح فإذا بدم شاحب يخرج من بين فتائل الشعر لكنها لم تأبه لذلك حيث أصبح لديها طوق وزينته معا ،
وبعد ليلة ،ورم الرأس فعصبته أمها ببقايا قطعة قماش تعتقد أنها تشفي، وهي لا تكلم أمها إلا رمزا، مد الورم ظلاله على مساحة أوسع، وهي مابرحت من ارتداء طوقها الذي صار قضية.
جاءت الأم على استحياء لطبيبة الأسنان تلتمس عطفها فعادت ببعض المال ونصحتها بالذهاب لطبيب اختصاص لان مناعتها قليلة، فاجتهدت الأم وأعزت قلة المناعة لعدم تناولها اللحم شهورا، فاشترت بالمال بعضا منه لكنها لم تشف!
ما من شيء يباع!! حتى الجسد خاو، امتصت نضارته السنون العجاف، من أين لي التطبب الآن.
مالك والطوق متى تشعرين بيتمك وضياعنا ودموعها لم تنضب، ياله من حظ سيء فلو كنا نملك منه شيئا لحفظنا أباك أو على الأقل استلمنا التعويض عن (حادثة الجسر) لكنما زوروا الموت واخذوا حقنا ،فلم تكتف كروشهم الشرهة بالإحياء فقط،
فمن أين لي بالدواء.
أشار احدهم لِمَ لا تذهبي إلى الحاج كيما يساعدكم؟ فان عمله مساعدة المعوزين، واخرج من جيبه نصف شريط باراسيتول وموزه،
أعاد المشاهِد بكلامه وفجر الألم فبعيد الفاتحة ذهبت الى الحاج للمساعدة فأرسل احد أعوانه لاستطلاع الحال الذي أورد في تقريره الشفهي (( إن عندهم مؤنه تكفيهم ، فما زاد عن الفاتحة من دقيق ورز وسمن كثير )) تصور ياحاج حتى معجون الطماطم!! لا أظن إن لدينا معجون بقدرهم!
أنها ذلة...لكن مالعمل!!
اجترت حسراتها ولاكت أعنة صبرها وعزمت الذهاب، ماذا عساه أن يقول لي هذه المرة ؟
ذهبت والفتاة المسكينة مازالت ترزح تحت أجندة الورم الذي شمل عينيها برعايته.
مط الحاج شفتيه الطويلتين ورفع كفيه وئيدا لمستوى الكتف الذي رفعه معهما ورمق صويحبه وقال الأخير :
نعم سنعرضها على طبيبنا الخاص، ولكن تمهلي ريثما يعود من العمرة ،
ولا مناص لها من الانتظار على عكس الورم الذي كان مسرعا.
وهناك في المقبرة بينما انتهى الحفار من فتح تلك الروضة وقبيل أن يدسوها في التراب فجأة سقط شيء ما في القبر!!
اندهش أهل الخير- الذين تكفلوا الدفن كانوا لايسمعون تأوهاتها في الحياة- نظر كل منهم إلى الآخر، بادر الحفار بإخراجه فإذا به طوق جميل وفي طرفه دم وسخام
ظنوها معجزة حيث أنهم علموا بقضيتها مع الطوق،
ولكن اتضح فيما بعد انه فر من هول انفجار في السوق الملاصق للمقبرة
التعليقات (0)