البرجوازية
يرجع أصل هذا المصطلح الإغريقي (pyrgos) إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وتحديداً عندما بدأت حكومة النبلاء في اليونان بالسماح للمستثمرين الأجانب بتملك الأراضي وإقامة مشاريعهم الخاصة داخل البلاد، وفي بداية الأمر لم تكن الجنسية اليونانية تمنح لأولئك التجار الفينيقيين، بل منحت لهم أنواعاً من تصاريح الإقامة تتحدد مدتها حسب أحجام استثماراتهم ونوعيتها.
وبمرور الوقت تشكلت من أولئك التجار طبقة اجتماعية وسطى بين طبقتي الأشراف (النبلاء) والموالي (المدنيين)، وكانت تلك الطبقة تتمتع بنوع فريد من الحرية بفضل ثرائهم وامتلاكهم لرأس المال السائل الذي كان يفتقد إليه كل من النبلاء والموالي، في نفس الوقت لم تكن تقيدهم قيود المواطنة التي تفرض على أهل البلاد قدراً من التضحية في سبيل المصلحة الوطبية العليا. وبالتالي كانت كلمة "برجوز" تعني التاجر أو المهني الحر الذي لا يعمل أجيراً في مزارع النبلاء أو منشآتهم الاقتصادية، بل يملك منشأته الخاصة التي يديرها بنفسه ويسخر أبناء البلاد كي يعملوا تحت إمرته، في نفس الوقت يستطيع الانتقال متى شاء بتجارته ومهنته من بلد إلى بلد دون أن يقيده رباط من المواطنة أو الانتماء القومي. إذاً كونت تلك الطبقة النواة الأولى لما يسمى في زمننا هذا بالشركات متعددة الجنسيات.
وفي سبيل سعيهم لتدعيم مصالحهم الاقتصادية وتأمينها في الدول المضيفة؛ لم يتوان التجار عن استخدام كافة الوسائل والأساليب الملتوية لإضعاف قوة حكومة النبلاء والتقليص من حجم سلطاتهم السياسية، فالنبلاء هم أعدى أعداء التجار، وهم الخطر الأكبر الذي يهدد مصالح الرأسماليين في جميع بقاع العالم، وذلك يرجع لسبب وحيد أو نقطة وحيدة تتمركز فيها روح الاختلاف بين ثقافة الرأسماليين وثقافة النبلاء، إنها مسالة الانتماء القومي.
فالنبلاء في الأساس بدو قبليون لا يؤمنون بشيء إيمانهم بقدسية الانتماء العرقي والولاء المطلق غير المشروط للقبيلة، والثقافة القبلية ثقافة تضحوية فدائية تميل للتضحية بالفرد في سبيل الجماعة وتربط بين مفهومي البطولة والفداء بحيث تجعل مقياس الشرف والفضيلة في الإنسان منوط بمدى قدرته على نكران الذات في سبيل الآخرين، وبذلك خرجت مفردات الثقافة القبلية تحمل في مجملها هذا المعنى كالشهامة والمروءة والنخوة والفزعة... إلخ.
وبطبيعة الحال كانت حكومة النبلاء رمزاً لشدة الولاء القومي والوطنية المفرطة التي لا تقبل بأي نوع من السيطرة الأجنبية على مقدرات البلاد الاقتصادية؛ أو أي شكل من أشكال التملك والتحكم الأجنبي في أراضي الدولة أو منشآتها الاستراتيجية؛ حتى لو كان في هذا التحكم منفعة اقتصادية أو ثراء مادي محقق، فغاية النظام السياسي لحكومة النبلاء تحقيق السيادة الوطنية الكاملة حتى لو على حساب الازدهار الاقتصادي، وهو الأمر الذي يجعل من طبقة البرجوازيين –على الدوام- طبقة أجنبية غريبة ومهددة بالطرد والإبعاد ومصادرة الممتلكات في أي وقت يظهر أفرادها نواياهم غير السليمة تجاه سيادة البلاد؛ بصرف النظر عن مدى ضخامة رأس مالهم.
يصور لنا هوميروس في ملحمته الثانية ذلك النجاح الذي حققه التجار في حدود القرن الثاني عشر قبل الميلاد عندما تمكنوا من إغراء حاشية الملك الإغريقي "أوديسيوس" أثناء غيابه عن القصر للمشاركة في حرب طروادة، فاستغلوا شيخوخة والده وضعفه والتفوا حوله وأصبحوا بطانته التي تدير نيابة عنه مقدرات الدولة وتعبث بقرارها السياسي، فقد صورت الأوديسا كيف عم الفساد في البلاد وتمكن الضعف من القصر وانتشرت في أركانه مظاهر العبث والمجون، وبلغ من شدة سيطرتهم على عقول أهل القصر أنهم أقنعوا الملكة بوفاة زوجها في الحرب، وهموا بتزويجها من أحد أعيان البرجوازيين. وكان هوميروس يشير إلى بداية عصر الانحلال في الدولة الموكينية، ذلك العصر الذي بدأ بتساهل النبلاء في تزويج بناتهم بالأغراب ليؤدي ذلك الاختلاط العرقي إلى تغلغل العناصر الغريبة داخل الطبقة السياسية الحاكمة ويفضي لضعف الأواصر القبلية وتفكك اللحمة القومية، وأخيراً تمكن الغرباء من الهيمنة على السلطة السياسية في الدولة لينتهي الأمر بانهيارها وسقوطها في أيدي الغزاة الدوريين.
وبينما تمكن الدوريون البدو من إعادة الأمور إلى نصابها في اليونان؛ بقيت أثينا مرتعاً لعبث التجار كونها المدينة الوحيدة التي لم يتمكن الدوريون من دخولها بسبب أسوارها الشاهقة التي استعصى على فرسانهم اقتحامها.
كوّن التجار في أثينا حكومة رأسمالية بقيت تكافح زمناً طويلاً حتى قضت على آخر بقايا النبلاء في المدينة، عندها انطلقت في عملية استعمار بحري شمل معظم الجزر والسواحل الاستراتيجية في البحر المتوسط، حيث كانت قوتهم تكمن في أساطيلهم لما كانوا يمتلكونه من خبرة في ارتياد البحار، كانوا يلقبون بشعوب البحر، فالتاجر ليس له انتماء قومي أو وطن سوى البحر. الشعور القومي لدى الدول هو عدوهم الوحيد، ومسألة تحطيم هذا الشعور لدى شعوب العالم هي بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت يتوقف عليها وجودهم كمؤسسة عالمية غير قومية، ولا تمثل لها بطاقة الجنسية سوى فرصة أخرى من فرص الاستثمار المالي.
تمكن البورجوازيون من حكم أثينا طيلة تلك القرون بفضل نجاحهم في إبقاء النبلاء بعيداً عن مواضع صنع القرار السياسي، وكان المركز الجيوستراتيجي لمدينة أثينا خير معين لهم في ذلك، فأسوارها المحيطة بها من كل جانب وفرت لها حماية قوية ضد هجمات القبائل الدورية التي كانت تحكم اليونان آنذاك، وميناؤها المفتوح على المتوسط شكّل لها منفذا تجارياً على العالم يحميها من العزلة ويمكنها من الصمود أمام الحصار البري إلى ما لا نهاية، بالإضافة إلى أسطولها القوي والضخم الذي جعل منها مركزاً عسكرياً بحرياً تستطيع جميع سفن التجار والقراصنة اللجوء إليه والاختباء فيه من الأخطار، أو الانطلاق منه للهجوم على جميع السواحل والموانيء والمراكز التجارية في المتوسط، بل إن أثينا كانت مركز الاستعمار البحري الوحيد في العالم آنذاك. لا ريب إذاً أن يبذل التجار أعظم الجهد للسيطرة عليها والحؤول دون قيام أي شكل من أشكال الحكم القومي، أو تربع أي طبقة اجتماعية أو سياسية ذات طابع عرقي وطني على عرشها، ولكن ما هي التقنية التي مكنت البرجوازيين من إزاحة النبلاء عن مراكز السلطة وإبقائهم خارج دائرة صنع القرار السياسي طيلة تلك المدة؟
Demos – kratia
لم تكن حكومة النبلاء تسمح لطبقة المدنيين –من حرفيين وصناع وعمال وفلاحين وتجار- بالمشاركة في صنع القرار السياسي في البلاد لسببين أساسيين:
أولاً: كانت حكومة النبلاء بجميع أفرادها من سياسيين وعسكريين ينحدرون من أصل عرقي واحد وينتمون جميعهم لقبيلة واحدة وتربط بينهم رابطة الدم ويحملون جميعهم نفس الاسم العائلي الذي عادة ما يكون هو اسم الدولة التي يحكمونها، فدولة النبلاء كانت قبيلتهم، وبالتالي كان الولاء الوطني مرهوناً بالانتماء العرقي لهذه القبيلة، وهو الأمر الذي لم يكن متوفراً لدى المدنيين. فطبقة المدنيين لم تكن تنتمي عرقياً للقبيلة السياسية الحاكمة، وبالتالي لم تكن تلك الطبقة شديدة الحماس للنظام السياسي القائم أو للمصلحة القومية العليا.
ثانياً: تتشكل طبقة المدنيين من عنصرين رئيسين: العنصر الأول هم الشعوب المغلوبة التي خضعت لحكم الغزاة القبليين بعد أن تمكن أولئك الغزاة من انتزاع حكم البلاد منهم بالقوة، وبالتالي فقد منح ذلك النصر العسكري حكومة النبلاء شرعية دستورية للتفرد بحكم البلاد، إلا أن تلك الفئة المغلوبة الذين تحولوا فجأة إلى محكومين بعد أن كانوا حكاماً؛ كانوا على استعداد دائم للثورة وقلب نظام الحكم واستغلال أدنى فرصة تلوح لهم في الأفق ليستعيدوا مجدهم التليد، وبالتالي لم يكن من الحكمة الوثوق بهم من قبل طبقة النبلاء المنتصرين، أو تمكينهم من المشاركة في صنع القرار الاستراتيجي للدولة. أما العنصر الديموغرافي الثاني فهم التجار الأغراب وأصحاب المهن الحرة من شعوب البحر الذين قدموا إلى البلاد بغرض العمل والاستثمار والاستيطان الاقتصادي، وهؤلاء بطبيعة الحال ليسوا أكثر حماساً لمصلحة البلاد الوطنية من سابقيهم.
دائماً ما كانت الأوساط المدنية تشكل بيئة استراتيجية لتجنيد الأتباع بالنسبة للبرجوازيين، فمشاعر العوام جاهزة للتأجج باستمرار، وأرواحهم متحفزة كي تهيم في أي لحظة خلف كل ناعق يحرضهم ضد النبلاء ويؤلبهم على السلطة الحاكمة.
رأى البرجوازيون أن القوة الانقلابية الكامنة في العوام تنتظر فقط الفرصة العملية للتعبير عن نفسها؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن من الصعب على البرجوازيين قيادة العوام والسيطرة على قلوبهم وعقولهم، وتوجيههم مثل القطيع، وتحويلهم في أي وقت إلى جماعة ضغط سياسي ضد حكومات النبلاء، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن الحياة المدنية قد حولت طبقة العوام إلى عبيد للمال، فهم يقدسون كل من يملك هذا المال بصرف النظر عن أصله وفصله وشرفه ونبل أخلاقه، حيث أن مقياس الشرف والفضيلة لدى المدني هو الثراء المادي.
ثانياً: إن امتلاك البرجوازيين للشركات والمؤسسات الاقتصادية والمصانع والمعامل والمتاجر جعل منهم أسياداً لطبقة المدنيين الذين يعمل أغلبهم أجراء في تلك المنشآت الاقتصادية المملوكة للبرجوازيين، والأجير في النهاية عبد لرب عمله.
ثالثاً: بفضل ثرواتهم الطائلة؛ استطاع البرجوازيين امتلاك جميع وسائل الإعلام وتخصيصها لصالحهم والسيطرة المطلقة على وسائل البرمجة العصبية والبث الإيحائي قديمها وحديثها، كالمسارح والمكتبات والمدارس والمعاهد ومنابر الشعر والأدب والغناء والفنون ودور العرض الترفيهية والثقافية ودور النشر والطباعة والنحت والرسم... إلخ، ومن المعلوم أن طبقة العوام هي الأكثر قابلية للتأثر النفسي بوسائل الإعلام، والأكثر استعداداً للتبرمج العصبي والتميع العقدي والانحراف الفكري والخلقي وضعف الحس بالمسئولية الاجتماعية، وذلك يرجع للنزعة الفردية التي تفرضها المدينة على أهلها، وما يتبع ذلك من تفكك في الروابط الاجتماعية بدءاً من الأسرة وانتهاءً بالرابطة القومية والوطنية بشكل عام، فتمحور المدني على ذاته يجعل ولاءه منصرفاً لما يحقق مصلحته الشخصية حتى لو على حساب الجماعة، وبطبيعة الحال الوطن. وهو ما يجعله أكثر قابلية للانجذاب نحو التيارات الفكرية والعقدية والثقافية التي يتم الترويج لها عبر الإعلام إذا ما وجد فيها نوعاً من الإشباع لميوله الشخصانية بصرف النظر عن تناغمها مع المصلحة الوطنية العامة من عدمه.
في حدود القرن الخامس قبل الميلاد؛ كانت أثينا أكثر مدن العالم قابلية لتسلط الرأسماليين عليها، فأسوارها بقيت سداً منيعاً يحميهم من هجمات القبائل الدورية، حيث ظلوا يسرحون ويمرحون في أرجائها دون أن يعيقهم عائق، أما بقايا النبلاء من أهلها فكانوا أقلية ضئيلة أمام الرأسماليين والعوام، وتلك الظروف مكنت الرأسماليين من إزاحة بقايا النبلاء تماماً عن السلطة عندما ابتكروا نظامهم السياسي الخبيث والعبقري في نفس الوقت، والذي أسموه بـ "الديموقراطية".
في الحقيقة لم تكن الديموقراطية اختراعاً جديداً جاء به التجار من العدم، ولكنها كانت مجرد تحوير لنظام الشورى الذي كان متبعاً لدى حكومات النبلاء، والذي بواسطته كان أبناء القبائل النبيلة يشاركون أمراءهم صنع القرار السياسي للدولة. إلا أن الابتكار الجديد الذي أضافته الديموقراطية إلى الشورى هو نوعية أعضاء المجلس.
فبعد أن كان أعضاء مجلس الشورى هم شيوخ العشائر وأبطال الحرب وحكماء الأمة وعقلاؤها وأهل الحل والعقد من أشرافها وعلمائها ومفكريها وقادتها الاعتباريين، أصبح أعضاء مجلس العامة هم أكثر التجار قدرة على اللعب بعقول العوام ومشاعرهم من خلال السيطرة على وسائل الدعاية والإعلام، أو التلويح لهم بالترقية الوظيفية وزيادة الرواتب وتقليل ساعات العمل والإنتاج والقضاء على البطالة والفقر وبناء المزيد من دور اللهو والمرح والترفيه وإباحة كل ما كان ممنوعاً من وسائل إشباع الشهوات وتحصيل الملذات والتنفيس عن الغرائز الحيوانية.
وبعد أن كان الملك هو شيخ القبيلة ورب الأسرة الممتدة الذي لا يتحرك إلا في إطار الغيرة على مجد القبيلة وسمعتها ومصالحها القومية، أصبح رئيس الحكومة هو أكثر الرأسماليين التزاماً بفتح جميع الأبواب للمستثمرين الأجانب كي يمتلكوا كافة وسائل وأدوات الأنتاج في البلاد، وخصخصة جميع الموارد والثروات الطبيعية والمؤسسات القومية الإدارية منها والعسكرية والسياسية ببيعها للمستثمرين القادمين من وراء البحار لتصبح جزءاً من الامبراطورية التجارية العالمية، وتتحول الدولة إلى مجرد فرع من فروع الشركة متعددة الجنسيات.
بعد سنوات طويلة من التخطيط المحكم تمكن التجار من السيطرة الكاملة على طبقة العوام من جهة، وإضعاف حكومة النبلاء من جهة أخرى، حتى تسنى لهم تفجير ثورة شعبية عارمة داخل أثينا ضد حكومة النبلاء المتهاوية، ومن خلال تلك الثورة والاضطرابات استطاعوا الضغط على الحكومة لتتبنى دستوراً جديداً يمنح العوام حقوق التصويت والانتخاب والترشح للمناصب العليا، بل وتكوين مجلس شعبي تمنح له سلطات عليا وصلاحيات واسعة للإشراف على أداء الحكومة ومراقبة المسئولين النبلاء بل ومحاسبتهم وإصدار الأحكام عليهم بالطرد والنفي والسجن أو ربما القتل إن استدعت الضرورة. وسمي نظام الحكم الجديد هذا بالديموقراطية، وهي كلمة مركبة من شقين: ديموز Demos بمعنى عامة أو طبقة العوام، وكراتيا Kratia بمعنى حكم أو سلطة، لتصبح "ديموكراتيا" تعني "حكم العامة" كبديل عن "حكم النبلاء".
وبالفعل؛ من خلال حكومة العامة تمكن التجار من تحويل أثينا إلى إحدى ولايات امبراطورية التجارة العالمية. بل إنهم اتخذوها مركزاً لتصدير الثورة الديموقراطية إلى الممالك القبلية المحيطة كمملكة الدوريين في البيليبونيسيس (إسبارطة) ومملكة الفرس في أيونيا (آسيا الصغرى)، وكان ذلك هو خطأهم القاتل، حيث ألبو على أنفسهم تلك الممالك القوية وأثاروا حفيظة نبلائها فتكالبت قوى النبلاء الدولية ضدهم، وكان في ذلك نهايتهم ونهاية نظامهم الديموقراطي في أثينا.
وبانهيار امبراطورية أثينا تماماً على يد المقدونيين لم يعد لأولئك التجارة دولة سياسية واضحة المعالم، فقد تغلغلوا كمجرد مواطنين في جميع الدول والممالك الواقعة على طرق التجارة الدولية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، إلا أنهم هذه المرة (بعد مرحلة القرن الخامس قبل الميلاد) بدأوا يتسمون بسمة جديدة أصبحت بالفعل علامة مميزة لهم، وهي اعتناقهم للديانة اليهودية، لماذا؟
تتمحور الديانة اليهودية حول عقيدة "الشعب المختار" من قبل الله تعالى لامتلاك الأرض وما ومن عليها، وهو اختيار –حسب اليهودية- لا علاقة له بأي مفهوم ثقافي أو أخلاقي مسئول، هو اصطفاء عرقي محض، عرقي فقط، بصرف النظر عن مدى صلاح هذا الشعب من عدمه، وبالتالي يصبح الإنسان مقدساً بمجرد اختلاطه العرقي بهذا الشعب (عن طريق التزاوج فقط) مهما كان سيء الخلق حقير الطباع دنيء النفس منحط السجايا، وهي صفات يكثر توافرها في من يمتهنون التجارة.
استطاع التجار أن يحصلوا على لقب "الشعب المختار" بعد تحولهم لليهودية، وقد بدأت عملية التزاوج والتفريخ هذه منذ عهد الملك داوود الذي اشتهر بكثرة زوجاته من بنات كنعان (الفينيقيين) وبلغت مرحلة التفريخ أوجها في عهد ابنه سليمان الذي كان مزواجاً أكثر من أبيه عليهما السلام، ولم يستطع كتبة التوراة إخفاء هذه الحقيقة بالرغم من وضوح التعاليم التوراتية الأولى في تحريمها الاختلاط العرقي مع أولئك التجار حتى لا يكون هذا الاختلاط مدعاة لتحلل الثقافة الحنيفية وضياع معالمها، ولكن الأسرائيليين لم يلتزموا بتلك التعاليم ولم يصمدوا أمام جمال الفينيقيات اللواتي لم يتردد آباؤهن في استغلال تلك الفرصة ليختطفوا من خلالها ملة إبراهيم ويصنعوا منها هذه العقيدة اليهودية الممسوخة التي استطاعوا بواسطتها أن يضفوا على قضيتهم طابعاً لاهوتياً يجعل من امبراطوريتهم التجارية العالمية دولة دينية مقدسة، ويجعل منهم حكاماً شرعيين لهذا الكوكب بموجب النصوص التوراتية التي تمكنوا من الترويج لها كجزء لا يتجزأ من الكتاب المقدس المسيحي، وبالتالي باتت غالبية شعوب الكوكب تؤمن بأنهم هم شعب الله المختار على الحقيقة.
وبالفعل؛ بدأت اليهودية تصبح الديانة الرئيسية في أكبر المراكز التجارية على طريق الحرير الممتد من جنوبي آسيا (الأرخبيل الإندونيسي) إلى سواحل الهند (بورما، دكا، مليبار، كلكتا، كوجرات، كراتشي) إلى ضفاف السند صعوداً حتى شمال الهندكوش (أفغانستان) لينتهي عند حوض الفولغا (بلاد الخزر أو القوقاز)، أما غرباً فيبدأ من اسكتلندا وبريطانيا مروراً بحوض الراين وجزر المتوسط وسواحله (أسبانيا، سبتة، صقلية، جنوة، مالطا، قبرص، قرطاجة، الإسكندرية) ونزولاً حتى البحر الأحمر وسواحل الحجاز وأفريقيا الشرقية، بل وبالغ هيرودوت حتى أوصلهم (الفينيقيين) إلى جنوب أفريقيا (رأس الرجاء الصالح)، أما المركز الرئيسي الذي كانت تلتقي فيه جميع هذه الطرق فهو حضرموت، فابتداء من نهاية القرن الخامس وبداية القرن الرابع قبل الميلاد؛ بدأت حضرموت تتحول إلى أكبر تجمع يهودي في العالم بعد أن اعتنق ملوك حمير عن بكرة أبيهم الديانة اليهودية، واستمرت حضرموت كذلك حتى مجيء الإسلام، عندها تحولوا إلى سادة وأشراف!!!
فرسان الهيكل
بصحبة الجيوش الصليبية المحتلة؛ قدمت مجموعة من الفرسان الذين سموا أنفسهم بفرسان الهيكل (Knights Templar) وبرغم ما ادعوه من أهداف دينية وإنسانية، إلا أنهم لم يأتوا سوى تجاراً مستثمرين، وهي الحقيقة التي ظهرت بوضوح من خلال ذلك الكم الهائل من الثروات التي جمعوها في فترة قصيرة هي فترة الوجود الصليبي في فلسطين.
وكان لتقمصهم تلك الشخصية الدينية دور في حصولهم على صلاحيات دينية وعسكرية وتجارية كبيرة، فقد أقاموا مراكز لهم على طول الطرق البرية والبحرية التي تربط القارة الأوروبية بفلسطين، وكانت تلك المراكز تأخذ طابع الكنائس والأديرة في البر الأوروبي وفي جزر المتوسط ونقاطه الساحلية الاستراتيجية، إلا إن نشاطاتها التجارية كانت ملحوظة جداً، حيث يعتقد بعض المؤرخين أنها كانت النواة الأولى للنظام البنكي الحديث، فقد كان المسافرون والحجاج والتجار يودعون أموالهم فيها مقابل سندات إيداع، ثم يستلمونها بموجب تلك السندات من مراكز أخرى تابعة أيضاً للفرسان.
أثرى الفرسان ثراء فاحشاً لدرجة أنهم كانوا يقرضون كلاً من البابا وملوك الصليبيين كل ما يحتاجونه من أموال لتمويل الحملات الصليبية، وبدأت معالم الامبراطورية المالية العالمية تظهر من خلالهم، حتى قضى صلاح الدين الأيوبي على أحلامهم وأكمل خلفاؤه طرد الصليبيين من الشرق الأوسط، عندها نشب –في ظروف غامضة- خلاف شديد بينهم وبين ملك فرنسا فيليب الرابع أدى في النهاية إلى تدميرهم.
ودون الخوض في النظريات المختلفة حول ذلك الخلاف؛ أسبابه وملابساته، إلا أنه أثبت عدم قدرة المال المجرد على جلب القوة والسلطة لصاحبه، فقد أدى غضب كل من فيليب الرابع والبابا كليمنت عليهم إلى شن حملة عسكرية ضدهم في فرنسا، فتم القبض على الكثير منهم وإعدامهم حرقاً، وفرّ الباقون إلى دول غرب أوروبا وخصوصاً بريطانيا حيث اختفوا وتنكروا في هيئة حرفيين وعمال بناء.
لم تكن الرأسمالية العالمية تتمثل حصرياً في فرسان الهيكل، بل إنهم لم يكونوا سوى إحدى الشركات متعددة الجنسيات التي تملكها وتديرها شبكة التجارة العالمية، وهو تكتيك قديم جديد لا يزال الرأسماليون يتبعونه حتى اليوم، حيث يحرصون على التخفي خلف كل ستار ويتقمصون عدة شخصيات اعتبارية في نفس الوقت، إلا أن شخصية فرسان الهيكل كانت الأكثر تعبيراً في ملامحها عن الصورة الحقيقية للرأسمالية العالمية في ذلك الوقت، وهي تكوين شبكة كونية تسيطر على المقدرات الاقتصادية لجميع سكان العالم، وتقبض بيدها على جميع خيوط التجارة والمال والاقتصاد في هذا الكوكب.
وإن كانت الرأسمالية العالمية قد فشلت إبان العصور الوسطى في تكوين قوة عسكرية تحميها من قوة وسلطة كل من الملوك ورجال الدين، فإن ذلك الفشل كان إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من التكتيك الرأسمالي للحصول على القوة. وقد أثبت هذا التكتيك نجاحه الكاسح بعد قرابة الخمسة قرون، وفي باريس نفسها، عندما شنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
فعندما كان فيليب الرابع يطارد آخر فلول فرسان الهيكل في فرنسا، ظهر في نفس الوقت تنظيم آخر في بريطانيا يحمل ذات سمات تنظيم الفرسان وملامحه الشخصية، اللهم مع اختلاف المسمى والأهداف المعلنة، إنه تنظيم جماعة البنائين الأحرار (Freemason).
ومصطلح "البنّاءون الأحرار" هو ترجمة شبه حرفية لمصطلح " pyrgos" أي رجال الأعمال الأجانب في اليونان القديمة، والذي تطوّر فيما بعد إلى "البرجوازية" أي الطبقة الوسطى من أصحاب الأعمال الحرة.
فهم أحرار لأنهم رفضوا أن يكونوا عبيداً أو موالي لطبقة النبلاء أو الطبقة السياسية الحاكمة في الممالك البدوية، وهم بذلك يميزون أنفسهم عن طبقة المدنيين أو طبقة العامة. وبمعنى أكثر تحديداُ؛ فإن البرجوازيين يطمحون لأن يصبحوا الأسياد الوحيدين لطبقة العامة بعد أن يزيحوا النبلاء عن عروش السيادة.
في بحر القرنين الثالث عشر والرابع عشر كانت ملامح جماعة البنائين الأحرار تتشكل ببطء وسرية إلى أن ظهرت في لندن على هيئة نقابة لعمال البناء، ثم أصبح لهم ممثلين رسميين في هيئة التجارة البريطانية.
ومن خلال نقابة العمال تلك وما اندرج تحت لوائها من شركات ومؤسسات مهنية وتجارية؛ مارست جماعة البنائين نشاطاتها في منتهى الحرية مستغلة ما اكتسبته من شرعية قانونية ودستورية بفضل شعاراتها البراقة ومبادئها السامية التي كانت تتخفى خلف ستارها (الحرية، المساواة، الديموقراطية، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، مكافحة العنصرية، القضاء على ثقافة الكراهية، حرية الرأي والتعبير، الانفتاح والحوار والتفاهم والمصالحة......إلخ)، أما أهداف تلك الجماعة الحقيقية والسرية في نفس الوقت فتتجلى من خلال تطابقها مع جماعة فرسان الهيكل، فكلا الجماعتين لم تكن وطنية محدودة الإطار الجغرافي. إن أكثر العلامات الفارقة بروزاً في ملامح أي إمبريالية استعمارية هي عالميتها.
مجلس العموم (العامّة)
تقضي الأعراف والتقاليد العسكرية القبلية أن القبيلة المنتصرة تكتسب بموجب نصرها العسكري حقاً إلهياً مقدساً بوضع اليد على جميع ممتلكات الشعب المهزوم، وهو الأمر الذي يبرز مدى تقديس الثقافة البدوية للشجاعة والإقدام؛ واحتقارها للجبن وأهله. فدأبت تلك الثقافة منذ فجر التاريخ الأول على تمجيد الأبطال وتخليد ذكراهم، ولم تحرص القبائل البدوية على شيء حرصها على مكافأة أبنائها الشجعان وأبطالها الذين ألقوا بأرواحهم في ساحات الموت ليحققوا لها النصر ويجلبوا لها المجد والسؤدد.
وكان توزيع الأراضي المفتوحة عليهم أقل ما يمكن مكافئتهم به ، تماماً كما أن أقل ما يمكن أن يعاقب به الجبان المهزوم هو أن يعمل قناً في تلك الأراضي، وهو عرف عالمي تبنته جميع الثقافات القبلية النبيلة عبر التاريخ بما فيها الثقافة الإسلامية، فكانت أربعة أخماس الأراضي في البلاد المفتوحة توزع كغنائم على المجاهدين في عهد النبي صلى الهذ عليه وسلم، وبالتالي يتحول ملاكها السابقون إلى أقنان أرض يعملون لحساب ملاكها الجدد. وبذلك كانت الشجاعة سبباً في تسييد السيد والجبن سبباً في استعباد العبد.
كان الملك الإقطاعي عبارة عن شيخ قبيلة، فسلطته سلطة اعتبارية فقط، لم يكن لديه جيش نظامي ثابت أو حرس قمعي خاص، كان يعتمد في وجوده على أبناء قبيلته الذين لم يكن في الدولة جيش غيرهم، فهم كانوا مستشاريه وحاشيته في السلم وجنوده وقادة جيشه في الحرب.
وكان لكل فرد من القبيلة الحاكمة قطعة أرض زراعية أو رعوية يعيش منها وينفق على أسرته، ويعمل تحت إمرته مجموعة من الأقنان يقومون على فلاحة أرضه ورعايتها، ويسمون بأقنان الأرض، وكان لهم حصص معلومة من دخل الأرض.
أما ملاك الأراضي من غير أبناء القبيلة الحاكمة فكانوا يلجأون إلى ما يسمى بنظام الولاء، وهو النظام الذي يخولهم الدخول في حماية أحد النبلاء من أبناء القبيلة الحاكمة، فتلك الحماية من شأنها منحهم نوعاً من الحصانة العرفية ضد تعدي النبلاء الآخرين على أراضيهم وممتلكاتهم أو حتى على أشخاصهم باعتبارهم أولياء لأحد النبلاء، في نفس الوقت ترفع من مرتبتهم القانونية والدستورية وتكسبهم نوعاً من المصداقية لدى أجهزة الدولة حيث أن كفالة النبيل لهم ووثوقه فيهم دليل على ولائهم وإخلاصهم للحكومة.
وكان النبيل يتفاخر بكثرة مواليه وأتباعه، لذلك فقد كان بعض النبلاء يبذلون أجزاء من أراضيهم للموالى كي يكسبوا ولاءهم، وكان الموالي يعاملون معاملة أهل البيت، ويتمتعون بكثير من ميزات النبلاء، وأهمها شرف الخدمة العسكرية، ذلك الشرف الذي كان يمنح حصرياً لأبناء القبيلة الحاكمة.
وأحياناً كان يحصل العكس، حيث يتنازل بعض الملاك الأحرار عن أراضيهم لأحد النبلاء كي يحصلوا على ولائه، وذلك عندما يجدون أنفسهم بحاجة ماسة لهذا النوع من الولاء.
لم تكن حكومة القبيلة حكومة على الأرض بقدر ما كانت حكومة على البشر، حيث لم تكن للإقطاعيات أهمية تتعدى أهميتها الاقتصادية، وهو ما يفسر عدم قيام دولة قومية ذات حدود جغرافية معلومة طيلة العصور الوسطى، بل كان الملك ومستشاريه يحكمون مجموعة قبائل ترتبط مع بعضها برباط عرقي بصرف النظر عن أماكن تواجدها الجغرافي، وكانت صلاحيات الملوك تتداخل أحياناً في بعض الأماكن الجغرافية حينما تختلط قبائلهم، خصوصاً تلك التي يتلاقى فيها الفرنجة الغربيين بالفرنجة الشرقيين.
وكان من المستحيل -في النظام القبلي- على أي ملك أن يفرض نفسه بالقوة على نبلائه، فهم قوته الوحيدة وجيشه وحرسه الخاص، إلا أن هذا الوضع أخذ في التغير مع بداية عصر النهضة عندما بدأ شيوخ القبائل يتحولون إلى ملوك حقيقيين، وشرعوا يكونون لأنفسهم جيوشاً نظامية يفرضون بواسطتها أنفسهم بالقوة على نبلائهم.
ساهم انتعاش التجارة الأوروبية مع الشرق في القرنين الرابع والخامس عشر إلى ظهور مدن جديدة واتساع بعض الأسواق التجارية المحدودة لتتحول إلى مدن كبرى، خصوصاً في السواحل المطلة على المتوسط، وعلى ضفاف الأنهار الكبرى التي كانت تنتقل البضائع من خلالها إلى وسط وغرب القارة.
صاحب توسع تلك المدن التجارية نزوح بعض الفلاحين وأقنان الأرض إليها للعمل لدى تجارها، في الوقت الذي استطاع التجار بفضل ثرائهم الفاحش من التقرب للملوك وإمدادهم بما يلزم من أموال لبناء حرس خاص وجيوش ثابتة، فزادت من خلال ذلك التعاون قوة كل من الملوك والتجار على حساب النبلاء الإقطاعيين الذين وجدوا أنفسهم يخسرون أقنانهم ومزارعيهم بالتدريج بالإضافة لتراجع مكانتهم لدى الملك.
كما أدى اتساع تلك المدن إلى تراجع القيمة الاقتصادية للأرض حيث أضحت التجارة مصدراً أفضل للدخل والمعيشة لدى فئة كبيرة من السكان، وبذلك تضخمت طبقة "العامّة" أو "العموم" التي تشكلت في غالبيتها من فئة النازحين للمدن.
أصبح الدور الاقتصادي للمدينة يتنامى بشكل مطّرد، أما البرجوازيون المقربون لدى الملوك والمسيطرون على رأس المال المدني، فقد وجدوا في تضخم أحجام المدن وأعداد سكانها ذريعة لإقناع الملوك بضرورة التملق لطبقة العامة ومنحهم نوعاً من الاحترام والتقدير الذي قد يرضي غرورهم بكثرتهم إلى حد ما، وذلك عن طريق السماح لهم بالمشاركة في صنع القرار السياسي وانتخاب ممثلين عنهم في مجلس الشورى (البرلمان)، حتى وإن كان هذا التمثيل محدوداً ولا يرتقي لدرجة تمثيل النبلاء، فتلك الطبقة أصبحت مخيفة نسبياً بعد أن بلغت من الكثرة ما يمكنها من إحداث ثورة شعبية قد تزعزع أركان الحكم، أو إضراب اقتصادي يعطل حركة التجارة فيتوقف تدفق أموال الضرائب إلى خزينة القصر، مما يجعل الملك عاجزاً عن تدعيم حرسه الخاص وجيشه الثابت، وبالتالي يكون عرضة لثورة نبلائه الحانقين وخلعهم له.
في ظل اعتماد الملك على ثروة التجارة وضرائب المدينة، وتراجع دور النبلاء وإقطاعياتهم سواء على الصعيد الاقتصادي والعسكري، بدأ شكل من أشكال القطيعة النفسية بين الملك والنبلاء يظهر في الأفق. وبدأت تظهر حركات تمرد من قبل النبلاء بشكل مطّرد، وشرع النبلاء يتخذون لأنفسهم مراكز عسكرية محصنة داخل إقطاعياتهم قبل أن يعلنوا استقلال تلك الإقطاعيات عن سلطة الملك، وبدأ النزاع بين الملك والنبلاء يتخذ شكلاً عسكرياً عنيفاً مما دعا الملوك لزيادة الاعتماد على جيوش المرتزقة وأموال التجارة، الأمر الذي ما فتئ يدعم نفوذ البرجوازيين في الدولة، ذلك النفوذ الذي أدى في النهاية لتمكن العوام من المشاركة في الحكم عن طريق التمثيل البرلماني.
لقد كان هذا السيناريو نسخة شبه كربونية مطابقة لما حدث في اليونان قبيل سقوط الدولة الموكينية بأيدي القبائل الدورية، ومن ثم تمكن البرجوازيين من السيطرة الكاملة على أثينا وتحويلها إلى امبراطورية رأسمالية عالمية.
إن تعاظم نفوذ البرجوازيين في القصر كان ملازماً لانطلاق حركة الكشوفات الجغرافية، التي ما هي سوى شكل من أشكال الاستعمار الاقتصادي للعالم، وبداية لتكوين الامبراطورية التجارية العالمية التي يحكمها الرأسماليون في الخفاء ويحميها الملوك وعساكرهم في العلن.
لقد أغرت التجارة وثرواتها الجميع بما فيهم النبلاء الذين كانوا في السابق يعارضون تملك التجار الأجانب للأراضي والمنشآت الاقتصادية الوطنية، فبدأت تظهر الأسواق والمدن التجارية في جميع الإقطاعيات حتى تلك المضطربة التي انشق نبلاؤها وأعلنوا استقلالهم عن سلطة الملك المركزية، بل إن أولئك النبلاء المنشقين باتوا يستعينون بأموال الضرائب التي يحصلونها من التجار وسكان المدن في تكوين جيوشهم الخاصة التي تدعم استقلال إقطاعياتهم.
ثبت البرجوازيون أقدامهم في كل بلاط، وتعاظم نفوذهم ليس فقط لدى الملك بل وكل نبيل على حدة، وتمكنوا بفضل هذا النفوذ من الزج بأقوى الممالك الأوروبية إلى حلبة السباق الاستعماري الاقتصادي تحت راية الكشوفات الجغرافية ونشر الدين المسيحي بين الشعوب المسكينة التي لم تحصل على خلاصها بعد، تماماً كما استطاعوا في السابق حملها على شن الحروب الصليبية.
عندما كانت البرتغال تعمل على بسط هيمنتها على طرق التجارة الهندية في الشرق، كانت أسبانيا في نفس الوقت تحاول الوصول إلى الهند من الغرب فاصطدمت بالقارة الأمريكية، وبدأت عملية استحواذ التجار على العالم الجديد، ومن المثير للضحك أن كريستوفر كولومبوس ظل حتى وفاته مقتنعاً أنه لم يكتشف سوى السواحل الغربية للهند، وهو ما يدل على أن جميع تلك الكشوفات بما فيها رحلة كولومبوس كانت تهدف فقط إلى السيطرة على الهند، أو بمعنى آخر؛ إلى السيطرة الكاملة على التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وتكوين امبراطورية تجارية عالمية يحتكر حكامها صنع القرار الاقتصادي على هذا الكوكب، وهو الأمر الذي لم يكن ليحدث دون إخراج العرب من اللعبة تماماً، فالعرب هم الشعب البدوي الوحيد الذي أثبت عدم قابليته للتحضر، وبالتالي عدم إمكانية السيطرة عليه من قبل سلاطين البرجوازية العالمية.
ذلك الثراء الشديد الذي تحقق للأوروبيين من تجارة الهند وموارد أمريكا وأفريقيا الطبيعية أدى إلى توسع قاعدة المدنيين أو العامة من سكان المدن والتجار الصغار والحرفيين والمغامرين الذين تدفقوا على مراكب التجار لتحملهم إلى مواطن جمع الثروة والنقود، بل إن النبلاء أنفسهم بدأوا يتحولون إلى مدنيين وتجاراً وجنوداً مغامرين. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تدعم هذا التحول بحجة نشر الدين المسيحي؛ برغم ما تظهره من لباس الزهد والتقشف والورع، وهو التناقض الذي باتت تتضح معالمه من خلال تزايد ثروات رجال الدين وتراكم الكنوز في الكنائس والأديرة.
وازدادت طبقة البرجوازيين نفوذاً وثروة وأصبح أبناؤها هم أقدر الناس على دخول الجامعات والمعاهد العلمية العالية، ليتمكنوا بذلك من الحصول على أعلى المراتب في الدولة ويخرج منهم أكثر فئات الشعب ثقافة وعلماً وقدرة على التأثير في العامة وتمثيلهم في مجلس العموم، وتتكون منهم طبقة الفلاسفة التنويريين الذين قادوا الحرب الفكرية ضد الكنيسة، والذين يرجع لهم الفضل الأكبر في قيام الثورة البروتستانتية الانقلابية التي غيرت وجه أوروبا ووجه العالم أجمع.
في ظل هذا التغير بات مجلس العموم يملك صلاحيات واسعة ما فتئت تتضاعف مع مرور الوقت حتى أصبحت تفوق كثيراً سلطات وصلاحيات مجلس النبلاء، بل إن مجلس العموم تحول إلى مجلس تشريعي بعد أن كان مجرد استشاري من الدرجة الثانية.
وفي 1376 أصبح رئيس مجلس العموم توماس هنجر فورد هو أول رئيس للبرلمان البريطاني برمته، وبعد أن تلاشت –تقريباً- طبقة النبلاء مع اندلاع الثورة الصناعية أصبح الحزب الذي يحوز على أغلبية المقاعد في مجلس العموم هو الحزب الوحيد الذي يحق له تشكيل الحكومة أو الوزارة.
التعليقات (0)