بغض النظر عن ماهية الحاكم، تبقى الامانة هي الامانة، مهما حاول هؤلاء التافهون مسحها، ويبقى شرف المهنة ارقى انواع الشرف، فشرف المهنة ليس قسم يؤديه الطبيب او المحامي او المهندس او المدرس او الضابط، شرف المهنة التزام اخلاق وذوق، ولا معنى للحياة عندما يمسخ الانسان نفسه ويفقد شرف مهنته.
فالمدرس الذي يسلم احد التلاميذ نسخة من اسئلة الامتحان، ليس شريفا، والطبيب الذي يرفض علاج شخص معرض للموت لانه يكرهه، ليس شريفا، والمهندس الذي يسلم جهة معينة تصاميم شركته ليس شريفا، والصحفي الذي يستخدم مكان عمله لتحقير الناس ورميهم بالاحذية ليس شريفا، ... وهكذا، من لا يحترم عمله ليس شريفا.
قبل ان يصرخ البعض ممن تعودنا على صراخهم واتهاماتهم غير المبررة، نقول ان الشرف الذي اقصده في هذا الموضوع هو شرف المهنة اما الشرف الشخصي او العائلي او غيره فليس له مكان هنا. فحتى مقاييس الشرف عند هؤلاء البشر تغيرت واقتصر الشرف عندهم على الجنس لا غير.
الجيش هو مؤسسة، حالها حال بقية مؤسسات الدولة، بل هو اخطر مؤسسة في الدولة، وسبب خطورته تكمن في امتلاك افراده للسلاح ـ الاعمى ـ فالسلاح لا يعرف التمييز ولكن من يمسك السلاح هو الذي يميز. هدف الجيش الاول هو حماية الاوطان من الاعداء الخارجيين. فالسلاح الذي بيد افراد الجيش هو امانة وشرف. ولكن الامانة للاسف ليست دائما مصانة، فهناك مجموعة من الناس الدنيئين، يفضلون مصالحهم الشخصية على اي امانة واي شرف. مجموعة من الضباط يجلسون معا ينظمون تنظيما يسموه ـ الضباط الاحرار ـ هذا الاسم يطلقوه على نفسهم نتيجة عقدة نفسية فهم يعلمون جيدا انهم ليسوا احرارا، بل يعملون لجهات خارجية تمولهم وتخطط لهم وتدعمهم لتمرر مخططات قذرة، ولهذا اراد هؤلاء الضباط ان يصبغوا انفسهم بصبغة الحرية التي هي ابعد ما تكون عنهم. هؤلاء الضباط هم اجبن الناس واحقرهم، لانهم استغلوا عملهم ولم يحترموه، نقضوا شرف مهنتهم فهم ليسوا شرفاء.
تبدأ القصة عادة بان يبعث جزء منهم او جميعهم الى دورة خارج القطر. وهناك تستطيع هذه الدوائر القذرة الوصول اليهم واغرائهم، فتوضع لهم الخطط، وبعد ان يعودوا الى اوطانهم، يستعدون جيدا لمخططاتهم الدنيئة، يطبقون الخطط بكل دقة، ينتظرون ساعة الانطلاق، يعلنون انقلابهم العسكري، يستلم احدهم مقر الاذاعة والتلفزيون يبثون البيانات، يلقون القبض على من يعارضهم، يعدموهم على الفور، يلقون القبض على الملك، يقتلوه على الفور او ينفوه خلف الشمس، وهكذا ينتهي كل شيء.
يخرج قائد الانقلاب ليعلن على الملأ انه اراد القضاء على الظلم والفساد و . . . ، يقوم بتعيين رئيس للجمهورية يملك شعبية واسعة، الى ان تستتب الامور يقوم بخلعه او نفيه، ثم يتولى هو رئاسة الجمهورية او الوزراء الى الابد، ولا يخلص البشر من شره الا الموت.
لهذا الزعيم مطالب يجب تنفيذها تأتيه من جهات عليا خارجية، اما هو فله مطالب ايضا ولكنها داخلية لا تتعدى الخطوط الحمراء التي وضعت له، فاول عمل يبدأ به هو غسل ادمغة الشعب، فيبدأ بالترويج لبضاعته القذرة، ويحاول ان يقنع الشعب بان الانقلاب الذي قام به هو عمل وطني شريف يستحق كل التكريم، ويبدأ بالاطفال، فتصبح المناهج هي تلك التي تمجد هذا المبدأ الاعوج. ومن الجهة الاخرى يقمع كل انسان يدعو الى استعمال العقل والتحريض على هذا التدليس، وذلك باستعمال اساليب لا تقل قذارة عن اسالبيه في السيطرة على الحكم، فيقوم باتهام كل انسان وطني بالعمالة والخيانة وايداعهم السجون واعدامهم بدون محاكمات، وهكذا.
المرحلة الاهم في حياة هؤلاء اللاشرفاء، هي الانجازات، فلكي تصبح عظيما عليك ان تنجز شيء للبلد وكانما الشيء المنجز هو من ماله او مال ابوه. فيقوم ببناء الجسور والسدود العليا والمطارات وهكذا، وتبقى هذه الانجازات علكة في افواه العامة، يلوكونها حتى بعد ان يقبر هؤلاء التافهين والمعتوهين.
اما الانسان العاقل الفاهم الحر، فيترك كل هذا جانبا ويقرأ ما بين السطور، ماذا انجز هؤلاء الزعماء بالضبط، الجواب لا شيء. بالعكس لقد دمروا كل شيء، لقد بذروا اموال الدولة على سلاح ـ فاسد ـ او غير فاسد، سلاح لا قيمة له، يتم تدميره في ساعات، خطط عسكرية غبية بل موضوعة بشكل مدروس، بحيث يذل البلد ويخسر كل شيء، نكسات ونكبات وخسارة للاراضي واذلال للشعب، وبعد كل هذا يخرج الزعيم مثل الشعرة من العجين. يلقي بالمسؤولية على بقية الضباط، وبهذا يضرب اكثر من عصفور بحجر، فمن ناحية يتخلص من هؤلاء الضباط الخونة باعدامهم، وفي نفس الوقت يخلو له الجو من بعض المنافسين الداخليين الذين لا يضمن عدم خيانتهم فالذي يخون مرة يخون الف مرة، ومن ناحية اخرى يخرج هو ابيض اليدين ويعود ليمارس دوره من جديد، وبعد ان يصبح الامر مكشوفا وساذجا للغاية، لن يكون امام القوى التي اتت به الا استبداله بآخر يكمل المسيرة.
الخيانة الكبرى التي يقترفها هؤلاء اللاشرفاء، هي تدمير المؤسسات، لكي يخلقوا اجيالا من الفوضى والتخلف لايمكن اصلاحها ابدا. فعلى سبيل المثال هذا الصرح العظيم الذي استغلوه بدنائتهم واعني به الجيش، جعلوه افسد مؤسسة في الدولة، فبدل ان تكون مهمته حماية الوطن يتحول الى حماية النظام، ليس النظام بمفهومه المعروف، ولكن نظام الحكم، لكي يبقوا في الحكم ما شاءوا.
هذه هي قصتنا، وبعد كل هذا اللاشرف الذي رأيناه، يخرج البعض من الناس ليمجدوا هؤلاء ويفرضوا علينا منطقهم الاعوج ويحاولون بكل سذاجة اقناع الناس بخلود هؤلاء "الاشراف". فبعد 39 عاما على رحيل واحد من اعظم هؤلاء اللاشرفاء بل واحد اكبر الرواد الذين اسسوا لمبدأ اللاشرف هذا، يخرج علينا قيح بعض المقالات التي ملأت كل مكان. فهنيئا لكم هذا الشرف، شرف الذل والمهانة.
التعليقات (0)