الصيف والشعر.. ومعاناة قاسية!
بقلم: خليل الفزيع
لم يكن الصيف غائبا عن شعراء العرب القدامى، وهم الذين عانوا شديد المعاناة من قيظه وحره في بلاد الشمس الحارقة، قبل أن يشرق فجر الحضارة على ربوعها، عندما كان معظم أجزاء الجزيرة العربية صحراء قاحلة يندر فيها الماء والكلأ، وبسببهما قامت معارك طاحنة بين القبائل، فلا عجب إذن أن يأتي ذكر الصيف وأجوائه في الشعر العربي، في صحراء خالبة إلا من الرغبة في الحياة، والتصميم على التمسك بغريزة الصراع مع تحديات تلك الحياة الموحشة، برفقة ضواري الصحراء ووحوشها، وحيواناتها المستأنسة التي لم تكن أحسن حالا من البشر المعرضين دوما للنهب والسلب، أو الضياع في متاهات تلك الصحراء، أو الموت جوعا وعطشا عندما تشح السماء بالقطر في مواسم المطر.. فيطبق الجفاف بقبضته الشديدة على الأحياء بلا رحمة ولا شفقة.
وقد وصف الكميت بن معروف الأسدي أجواء تلك الصحراء فقال:
وقد وقفت شمس النهار وأوقدت
ظهيرتها ما بين شرق ومغرب
وديقة يوم ذي سموم تنزلت
به الشمس من نجم من القيظ ملهب
ولم تكن رياح الصيف ضيفا مرحبا به لما تحمله من زوابع وسموم، حتى قال الأخطل:
جرت عليه رياح الصيف حاجبها
حتى تغير بعد الإنس أو خملا
وتلك الرياح لا تحمل غير نذر البلايا عند كثير عزة:
وهبت رياح الصيف يرمين بالسفا
بلية باقي قرمل بالمآثب
والشاعر الرقيق عمر بن أبي ربيعة وجد في رياح الصيف ما ينسج الترب مما لا يسر الخاطر، فيهيج القلب، ويحمل ضمن ما يحمل أنواع التراب المزعجة:
هيج القلب معان وصبر
دارسات قد علاهن الشجر
رياح الصيف قد أزرت بها
تنسج الترب فنونا ومطر
وشاعر آخر هو المثقب العبدي وجد في رياح الصيف ما يحمل المواعيد الكاذبات، فأبى أن يقر بما قد تحمل إليه تلك الرياح فقال محذرا الحبيبة:
فلا تعدي مواعد كاذبات
تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي
خلافك ما وصلت بها يميني
كانت الواحات الساحلية وحدها مصدر الرخاء لذلك لم تنج من هجمات البدو المفاجئة، كما لم ينج القادمون منها وإليها من السلب والنهب على أيدي قطاع الطرق على امتداد العام.. فلا حر يمنعهم ولا برد يردعهم، فالحياة كانت قاسية، والصحراء لا ترحم، والجائع يفقد إيمانه بكل شيء.. لكنه لا يفقد إيمانه بالحياة لذلك هو في بحث دائم عن كل ما يسد رمقه.
وكانت لسكان الصحراء عادة الرحيل في الصيف إلى أماكن جديدة تتناسب أجواؤها مع متغيرات الطقس، وهذا ما يزعج الشعراء الذين ترحل حبيباتهم مع الأهل والعشيرة، وقد ساء قيس بن الملوح أن ترحل ليلى بعد أن ألقى الصيف مراسيه فقال:
وخبرتماني أن تيماء منزل
لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت
فما للنوى ترمي بليلى المراميا
وأنت التي إن شئت أشقيت عيشتي
وإن شئت ـ بعد الله ـ أنعمت باليا
ومن هذه الأبيات ما نسب إلى قيس بن ذريح وجميل بثينة.
وقوبل الصيف حتى لدى شعراء هذا العصر بالحذر من سمومه الكالحة ورياحه اللافحة، وها هو إبراهيم المازني يرى في نفسه ما يرى في الطبيعة ـ ومنها الصيف ـ من عنت فيقول:
كالبحر نفسي لا مأوى ولا سكن
ولا قرار لها من فرط ضوضاء
أقول في الصيف ويلي من سمائمه
وفي الشتاء ألا بعدا لمشتائي
ترى لو عاش أولئك الشعراء في هذا العصر، هل ستجود قرائحهم بمثل هذه الشكوى المريرة من القيظ والحر.. في صيفنا الذي يتلاشى أمام المكيفات، ومهرجانات التسوق، والأسفار إلى البلاد الباردة؟.
التعليقات (0)