الصوفية ونشر الإسلام في ماليزيا
كان لحركات الصوفية آثارها المباشرة وغير المباشرة، التاريخية والحاضرة، الإيجابية والسلبية في تدين مسلمي ماليزيا؛ وذلك لأنها انتشرت في بعض الفترات انتشارا واسعا؛ ولذلك كان على الداعية المعاصر في هذا البلاد مهما كان توجهه الأخذ بعين الاعتبار هذه الآثار في مخاطبته لأفراد المجتمع.
انتشار التصوف مبكرا
لا يُعرف على وجه التحديد متى دخلت تعاليم التصوف إلى ما يعرف بماليزيا اليوم، ومع وجود اختلافات في تقدير ذلك فإن من المتفق عليه أن تاريخها يمتد لعدة قرون ماضية بفضل الدعاة المتقدمين الذين جاءوا إلى شبه جزيرة الملايو وأرخبيل (جزر ما يعرف بإندونيسيا وجوارها اليوم)، ومن أشهر هؤلاء: الشيخ عبد الله العارف الذي قدم من جزيرة العرب عام 1165م وغيره. وأبرز 3 مصادر للتصوف في ماليزيا هي: مكة المكرمة، والهند، وإندونيسيا. فمكة كانت مقصد طلاب العلم الملايويين وخصوصا في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين، وكانت مادة التصوف مهمة في تلك الأيام، حتى صار الالتزام بطريقة من الطرق الصوفية عند العلماء والطلبة الملايويين عادة يعتقدون أنها تنمي نزعتهم الروحية وتقويهم، وعندما كان يعود هؤلاء إلى بلادهم كانوا يحملون العلم الشرعي ، ويمارسون طريقة واحدة أو أكثر.
والتصوف في ماليزيا تأثر بمراحل تغييره على امتداد العالم الإسلامي من عهد جيل التصوف السني الأول إلى عهد تيارات التصوف الفلسفي، وما عرف عنها من انحرافات، ثم التصوف الشعبي فيما بعد سقوط بغداد، وقد ساعدت الخلفيات الدينية السابقة لسكان العالم الملايوي على أن يقوم الدعاة بنشر الإسلام بالتركيز على الجانب الصوفي، وما يشير إلى ذلك الحكايات الملايوية القديمة والأساطير التي تحكي قصص دعاة مسلمين جاءوا من الغرب، وأساطير يفصل فيها القصاصون.. كل هذا إشارة إلى أن نزعة التصوف قد لازمت الكثير من الدعاة العرب والهنود وغيرهم ممن جاء إلى هذه البلاد، ثم كان دور جيل العلماء الملايويين الذين تركوا لأحفادهم مؤلفات إسلامية صوفية كثيرة.
منذ أن بدأ الإسلام ينتشر انتشارا واسعا في هذه المناطق الشاسعة والجزر المترامية بغير حرب ولا سلاح وبصورة سريعة بدأ التصوف يرسي تعاليمه ومبادئه الروحانية في نفوس الملايويين تدريجيا حتى ترسخت أفكاره في المجتمع بشكل راسخ وملموس حتى يومنا هذا؛ فمع مجيء الشيخ عبد الله العارف كان مجيء الشيخ إسماعيل ظفي الذي زار آتشيه بشمال سومطرا الإندونيسية، وعمل على الدعوة إلى الإسلام متلازما مع نشر طريقته القادرية، وكان هناك داعية عربي آخر هو عبد الله الذي زار ولاية قدح الماليزية الشمالية عام 531 هـ ناشرا الإسلام بين سكانها خلال 5 سنوات فقط، وتقول الحكايات بأنه هو الذي سمى الولاية بهذه الاسم بعد أن صار ملك الولاية يطيع الشيخ فيما ينصحه به، وقبره معروف بالولاية.
ومن هؤلاء الدعاة الأوائل الشيخ أبو عبد الله مسعود بن عبد الله الجاوي الذي ذكره الشيخ يوسف النبهاني قائلا بأن "الشيخ الجاوي عالم مشهور كان له تلاميذ كثيرون في عدن"، وقد توفي في سنة 768هـ، وكان معاصرا لابن بطوطة، وعاش في مملكة باساي الإسلامية الشهيرة بسومطرا، وهكذا جمع الجاوي بين تأثيره بين العرب والملايويين في آن واحد، لكن مؤلفاته اختفت اليوم.
الأولياء التسعة: فريق دعوي متكامل
وفي القرن التاسع الهجري (الـخامس عشر الميلادي) اشتهرت في جزيرة جاوا الإندونيسية الواقعة جنوب شبه جزيرة الملايو قصة الأولياء التسعة الذين كانوا من أوائل الدعاة الذين نشروا الإسلام بين أهالي الجزيرة ومخلصي سكانها من ظلام الهندوسية والبوذية والوثنية، وكانوا يعملون كفريق دعوي، ويسمى رئيسهم الولي، وكان عندما يتوفى أحدهم يرشحون داعية آخر مكانه حتى يظل العدد هو (9) دعاة، وأشهرهم:
1.مولانا إبراهيم المغربي: الهندي الأصل، وهو أول مؤسس لمدرسة دينية تقليدية تخرج المبلغين بالإسلام في جاوا.
2.ورادين رحمة الله سونن: الكمبودي الأصل، ويعتبر المؤسس والمخطط الأول للدولة الإسلامية في جاوا، ويلقب بالسلطان شاه سري العالم، وقبره في مسجد أمبيل اليوم.
3.سونن مخدوم إبراهيم: وعمل بالدعوة في شمال جزيرة جاوا الشرقية.
4.رادين فاكو أو سونن جيري: وأصله من بلمبانغن، ونشر الإسلام في سولاويزي، وكان رجلا تربويا يهتم بتنشئة أطفال المسلمين على ألعاب إسلامية، وقبره قريب من غيراسيك في سورابايا.
5.الشريف هداية الله: الشهير باسم سونن جونونج جاتي.
6.جعفر الصادق: قام بنشر الإسلام في سواحل شمالي جاوا الوسطى، وكان أديبا شهيرا يكثر من كتابة القصص الدينية، ودُفن بمنطقة سميت باسمه.
7.رادين براووتو أو سونن موريافادا: وكان ينشر الإسلام بين التجار والصيادين، ويتقن فن غناء الجاميلين التقليدي عند الجاويين؛ فكان ينشر الإسلام بالإنشاد لعامة الناس، وقبره في جبل موريا.
8.شريف الدين: وكان يميل إلى الأعمال الاجتماعية، شديد التدين، ويحرص على الأعمال الخيرية ورعاية الأيتام والمرضى.
9.الشهيد الشهير بلقب سونن كاليجوجو: مخترع أسلوب واينج كوليت القصصي في جاوا الذي استغله لنشر الإسلام، وكان ينشر الإسلام في جنوبي جاوا الوسطى.
كشف المبتدعة
وقد عرف عن هؤلاء الأولياء التسعة أنهم تسببوا في فضح الشيخ سييتي جنر وقاموا بكشف الوجودية في مذهبه؛ مما أدى إلى الحكم عليه بالإعدام هو وعدد من أتباعه، وهو كان واحدا منهم لكنه انحرف بعد ذلك، ولم يعد يحضر هو وتلامذته صلاة الجمعة، متبعا إفتاء الناس بأخف التكاليف، وقد استفاد هذا الصوفي الوجودي من اعتلاء وزير شيعي منصبا هاما في مملكة باساي، قام بطرد أهل السنة والجماعة من مملكته، لكن سلطان آتشيه الإسلامية عاون مالك مصطفى الذي قاد الشعب لهزيمة الشيعة سياسيا في سومطرا، وذلك في بداية القرن الخامس عشر الميلادي غير أن ما بقي من آثار تلك الفترة هو بعض أفكار التصوف الفلسفي المخالف للتصوف السني.
وكان قد سبق ذلك بعامين مجيء عالمين شيعيين ثم عالمين وجوديين إلى آتشيه، وكان بينهما خلاف كانت له آثار سلبية، لكن آثاره الإيجابية كانت باندفاع شعوب هذه المنطقة إلى التعلم والبحث عن العلم الشرعي الصحيح حتى صارت آتشيه في الثلث الأول من القرن السابع عشر الميلادي منارة للعلم تشبه بغداد ودمشق ومصر أيام الخلافة، ولم يكن هذا أول خلاف تسبب فيه صوفية وجوديون، بل ظهر صوفيان في أوائل القرن الخامس عشر أيضا ساهما في تشتيت الأمة الإسلامية في وقت عزتها.
أجيال من الأسماء الشهيرة
وهكذا برزت أسماء مشهورة في تاريخ مسلمي جنوب شرق آسيا مثل شمس الدين باساي الذي كان يتبع الجنيد البغدادي، وحمزة الفنصوري الذي يُعد أشهر علماء الصوفية في العالم الملايوي، ويتحدث عنه بإسهاب، فيما تركه من آثار ومؤلفات كثيرة؛ ولأنه كان في سومطرا الأقرب لما يعرف بماليزيا اليوم؛ فقد كان دوره واضحا في نشر الصوفية في ماليزيا التي زارها في الفترة التي عاش بها بين عامي 1589م و 1604م، وكان من تلامذته صوفيون ملايويون كبار مثل الشيخ شمس الدين السومطراني، لكنه في نفس الوقت كان محل جدل واسع بين الدارسين المسلمين منهم والمستشرقين؛ فمنهم من اتهمه بالانحراف ومنهم من مدحه بأنه شافعي قادري صحيح العقيدة، وفريق ثالث يقول بأنه صحح مذهبه بعد انحرافه، مستدلا ببعض مؤلفاته. ومن أسباب الاهتمام الواسع بشخصيته رحلاته الواسعة في بلاد الحجاز وولايات العالم الملايوي، غير أنه يمثل نموذجا للآثار السلبية والإيجابية في آن واحد، والمواجهات الساخنة بين أعلام الصوفية، وفي هذا النموذج نجد أن الشيخ نور الدين الرنيري قد واجه الفنصوري.
ويستمر سجل تاريخ مسلمي عالم الملايوي في اتساعه وتجدده؛ فبعد هذا الجيل ظهر الشيخ عبد الرؤوف الفنصوري سينغكل (ت.1693م) أول من نشر الطريقة الشطارية إلى جانب العالم الشهير داود بن عبد الله الفطاني، وتلقى سينغكل العلم والتصوف في المدينة المنورة، واتجه إلى سومطرا وجاوا الإندونيسيتين وشبه جزيرة الملايو؛ لتكون طريقته أسرع وأوسع انتشارا في عهده قبل اشتهار الطريقتين النقشبندية والقادرية؛ فكانت أكثر الطرق أتباعا وأكثرها قياما بدور الدعوة في جنوب شرق آسيا في تلك السنوات، والشيخ سينغكل أول مفسر للقرآن باللغة الملايوية (ترجمان المستفيد أو التفسير البيضاوي الشريف)، وله 28 مؤلفا في المواعظ والحديث والأديان والأنساب والفقه، وخلافا للرانيري الذي كان شديدا في مواجهته مع الزنادقة والمبتدعة والملاحدة؛ فإن سينغكل اتبع أسلوب المناظرة والإقناع الهادئ بنصوص الكتاب والسنة والأدلة العقلية.
ومن بغداد سافر كبير من كبارها هو الشيخ عبد الملك عبد الله إلى مكة ثم إلى آتشيه وجزيرة الملايو؛ حيث استقر في ولاية ترنغانو الشرقية، وولد له ابنه عبد الملك الحفيد في أواسط القرن السابع عشر فاتجه الولد إلى الحرمين لمواصلة طلب العلم على يد أكابر العلماء آنذاك، متلقيا عنهم الطريقة الشطارية، وعند عودته أسس أول مدرسة دينية على النمط التقليدي بولاية ترنغانو، وهو بذلك أول من درَّس التصوف نظاميا في شبه جزيرة الملايو، وصار له نفوذ واسع بعد أن تزوج سلطان الولاية من ابنته، وقد بقي من كتبه أربعة في الفقه والتصوف؛ أحدها هو "شرح الحكم في التصوف" الذي طبع عشرات المرات، وهو أول وأكبر كتاب ملايوي في التصوف السني، متقدما على عدد من الكتب الشهيرة الأخرى في المنطقة، مثل هداية السالكين، وسير السالكين، والدر النفيس، وسبيل الهداية ومنهاج العابدين وغيرها.
ولعل عدم اهتمام الملايويين في الكثير من الفترات بالمخطوطات قد أضاع أعدادا كبيرة منها، كان يمكن أن تكون مصدرا هاما للغاية لتأريخ الفكر الإسلامي على مدى قرون مضت. وقد جرت العادة بين الملايويين ألا يذكر المؤلف اسمه إما خوفا من أن يكون ما ألفه لا يتوافق مع ما يريده الملك، أو أن السلطان قد طلب منه التصنيف فاعتبر كتابه ملكا للمجتمع وليس ملكا فرديا، أو بسبب سعي كثير منهم إلى استفادة المسلمين من علمه كصدقة جارية إخلاصا للنية.
ولا يستطيع من يتحدث عن الصوفية والعلماء الملايويين المتأخرين أن يتجاهل ذكر الشيخ داود بن عبد الله الفطاني الجاوي (ت 1297هـ) صاحب الرحلة الطويلة إلى مكة والمدينة وغيرها، وسجل شيوخه ممتلئ بمشاهير العلماء في عصره، وما يزال يلقى اهتمام الباحثين بسبب اهتمام حفيده بميراثه العلمي الذي وصل إلى 101 كتاب في جميع فروع العلوم الشرعية، عثر على 66 منها حتى الآن؛ حيث أسس مطبعة خاصة بذلك في كوالالمبور سهلت على الباحثين مهمة مراجعة علم هذا الداعية، وتتبع تلامذته الذين من بينهم علماء معروفون، حتى إن شهرته بلغت أن ينشر البعض كتبا باسمه لنشر كتبهم، وقد عقد مؤتمر لدراسة آثاره بولاية كلانتان لمدة يومين ابتداء من (11/9/2002).
وقد ظهر عدد كبيرة من العلماء الصوفيين في إندونيسيا على وجه الخصوص بعد داود الفطاني في مرحلة صار الإسلام دين الغالبية؛ فكان دورهم هو تقوية إسلام هؤلاء بنشر الكتب، وتأسيس المدارس، وتنظيم حلق الذكر، وبناء المساجد حتى صار علم التصوف وطرقه منتشرا انتشارا ملحوظا لأتباع الدعاة المشهورين، وذلك بين القرنين السابع عشر ونهاية القرن التاسع عشر الميلاديين.
وفي الختام لا بد من التأكيد على أن أعدادا كبيرة من الدعاة الصوفيين وغير الصوفيين من العالم العربي وشبه القارة الهندية ومن الملايويين من هو مجهول الاسم، وما ذكرنا وما يذكر في الكتب لا يمثلون إلا قلة منهم.
المصدر: موقع اسلام أون لاين
التعليقات (0)