الصورة الأخيرة... قبل الرحيل
قَرّرَتْ أن تترك صورة قبل الرّحيل. استيقظت باكرا و كان اليوم مشمسا على غير عادة شهر نوفمبر. طَلبتْ منهم أن يساعدوها على الاستحمام. سرّحت شعرها القصير و ارتدت بنطلونا من الجينز و سترة ضيّقة. وضعتْ قرطين صغيرين. أصرّت على الذهاب بمفردها رغم تدهور حالتها الصحيّة. حين استقلّت سيارة التاكسي طلبتْ من السائق أن يقلّها إلى "المصريّ". هو اشهر من نار على علم في تونس فهو من أقدم المصوّرين و أبرعهم في التقاط الصور الفوتوغرافيّة.
دخلت المحلّ :
- صورة لي من فضلك.
- بالألوان ام بالأ....
- بالأسود و الأبيض. من الحجم الكبير. اكبر حجم ممكن. أريدها على شاكلة أفيش من فضلك.
استلمتْْ الوصل من المصوّر و غادرتْ المحلّ. تَمشّتْ لبعض الوقت على امتداد شارع الحبيب أبو رڤيبة (1). جلستْ على احد المقاعد العمومية المرشوقة على امتداد الممشى المخصص للمترجلين وسط الشارع الكبير. لطالما مرّت من هنا. لكنّ طعم النزهة اليوم مختلف. دون أصدقاء و لن تدخلَ لتشاهد لا مسرحيّة و لا فلما في إحدى قاعات السينما التي يغصّ بها الشارع. في ما مضى لم تكن تفوّت على نفسها عرضا ثقافيا و لم تتخلّف يوما عن أيام قرطاج السينمائية و لا المسرحيّة...ذاك زمن و هذا زمن.
أحسّتْ بشيء من الألم. لا بدّ أن مفعول "المورفين" (2) بدأ يتلاشى. الألم. انه الألم اللّعين من جديد. لقد أصبح لصيقا بها منذ زمن طويل منذ اكتشفتْ أنها مصابة بالسرطان. حاول الألم أن يصاحبها لكنها أبدا لم تحبّ صحبته. غير انها أصبحت صديقة وفيّة لإبر" المورفين" و لم يعد بجسدها النحيل مكان لم يرتشف وخز إبرة "المورفين". بدأ مفعول "المورفين" في التّلاشي و بدأ الألم يتسلّل من جديد إلى جسدها.
نهضتْ و استوقفتْ أول سيارة أجرى مرّت بها.
- "سيدي بو سعيد" (3) من فضلك. أسفل الهضبة.
أصرت من جديد على تحدي الألم و عَمدَت إلى تجاهله لكن جسدها كان أضعف من أن يهزم الألم. حاولتْ صعود الدرج المؤَدّي إلى أعلى الهضبة فقد اشتاقت روحها الى رحابة الفضاء و إلى منظر البحر أسفل الجبل و اشتاقت إلى ذلك الإحساس بالعظمة و الانعتاق ينتابها كلما وقفتْ هناك عاليا كأنما تلامس السماء بهامتها و تفتح يديها كانما هي طائر يحتوي البحر بجناحيه.
لكن جسدها الخائن خانها من جديد و لم تقوى على تخطي العتبة الأولى من الدرج.
عادتْ إلى الوراء و كاد يغمى عليها لو لا أنها تماسكتْ و أشارتْ لسيارة أجرى من جديد.
وصلتْ المنزل و للتوّ طلبتْ من امّها جرعة "مورفين" جديدة. عارضتْها أمها بادئ الأمر غير أن الألم اشتدّ عليها فلم يكن من الأم إلاّ أن حقنتها جرعة جديدة.
بدأ بدنها بالارتخاء من جرّاء المخدّر و تمدّدتْ على السرير. طَلَبَتْ أن لا يزعجها أحد فهي تريد أن تغطّ في نوم عميق.
هي لم تُفق من نومها ذاك أبدا فقد رحلتْ إلى مستقرّها الأبدي و طالت جرعة "المورفين" هذه المرّة روحها السرمدية و نامت إلى الأبد.
لما طال نومها و لم تفق حاولتْ أمها إيقاظها هباء. "وفاء" رَحلتْ و لم تقل شيئا عن يومها و كيف قضته.
فوق الوسادة وجدت أمها وصلا من عند "المصري" . فَهمتْ أن "وفاء" تركت لهم صورة عند المصوّر. هل كانت تعلم أن الأقدار لن تهبها فرصة أخرى لتُحضر الصورة و تُلقيَ نظرة على ملامحها للمرّة الأخيرة؟ ذلك ما لم نعلمه أبدا.
يوم الجنازة أصرّ والدها على إحضار الصورة ما إن رجع من الدفن. دَخل في صمت عميق و لم يكن البيت قد خلى بعد من المعزّين و علّقَ الصورة في قلب الغرفة التي ازدحمت بالناس. لم يجرأ أحد على سؤاله و لا على معارضته. اشرأبّت الأعناق نحو الصورة و بدا وجه "وفاء" جميلا جدا بل رائعا. زاد الأبيض و الأسود الصّورةََََ روعة على روعتها. ابتسامة ملائكية ارتسمت على وجهها النحيف و بدت تسريحتها القصيرة جدا من جرّاء الأدوية الكيميائية كأنها تسريحة على الموضة. أقراطها تلألأت كما عيناها اللامعتان. دُهش الجميع و أجهش معظمنا بالبكاء. عمَّ صمت كئيب خلتُه لن يبرحنا أبدا.
طلب خالي من الجميع المغادرة و أغلق خلفنا الباب و انفرد بصورة "وفاء" . في الصباح سلّمني ورقة و طلب مني ايصالها لصديق له صحفيّ. في اليوم التّالي فتحتُ الجريدة و قد تصدّرتها صورة "وفاء" و إلى جانبها أبيات شعر يرثي فيها خالي "وفاء" . تجمّدت الدماء في عروقي و خلتني لوهلة اني أراها هنا. استيقظتُ من أحلامي و التهمت القصيدة و الصورة.
أحضرتُ مقصا و احتفظتُ بالمقال.
خالي لم يفق من سكره منذ ذلك الوقت و ظلّت صورة "وفاء" عالقة في ذهني استحضرها كلما اشتقت اليها و لم استحضر يوما صورتها و هي مسجّاة في نعشها على أني قضيت إلى جانبها الليل كلّه قبل الدّفن. لا استحضر لها صورة غير تلك التي تركتها لنا قبل الرحيل و لسان حالي يردّد علي لم ترد "وفاء" ان تخلّف لنا صورتها و هي مسجّاة بل أرادت أن نستحضرها دائما في صورتها الأخيرة البيضاء و السوداء. رحلت وفاء و ظلّت الصورة الأخيرة معلّقة على الحائط و في أذهاننا.
ختام البرڤاوي
تونس في السادس من جويلية 2009
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الهامش :
القصّة و الشخصيات حقيقية فقد رحلت عنا وفاء بنت الخال منذ سنوات بعد صراع مرير مع داء السرطان و هي في العشرين من عمرها. عسى أن يتغمّدها الله بواسع رحمته و يسكنها فراديس جنانه و يعفو عنها و عنّا.
(1) شارع الحبيب ابو رڤيبة : يعتبر الشارع معلما من معالم العاصمة التونسية. شيّده الرّئيس السابق للجمهورية التونسية "الحبيب أبو رڤيبة" إبان استقلال تونس و الشارع مهيّأ على نمط الشارع الباريسي "لي شون زيليزي" . Les Champs Elysées . الشارع ذو رمزية كبيرة لدى عامّة الشعب و هو وجهة اغلب السياح الذين يمرون بالعاصمة.
نحن في تونس نكتب أبو رڤيبة بثلاث نقط فوق القاف لتنطق في العامية التونسية على غرار الجيم عند المصريين و لا تنطق قافا.
(2) المورفين: مسكّن يوصف في حالات الألم الحادّة
(3) "سيدي بو سعيد" : مدينة ساحلية من مدن الضاحية الشمالية للعاصمة تونس .تقع اعلى هضبة جبل قرطاج و تطلّ على البحر.
التعليقات (0)