الصهيونية واليهودية.. الجذور والنشأة والعلاقة بينهما
د. حسن طوالبه
1. ن ملك الكنعانيين طلب نجده فرعون مصر ، لصد هجمات العبرانيين عن مملكته.
2. وجد العبرانيون في بلاد الشام قبل وجود اليهود ، وقد كان اليهود ينزعجون من لفظ العبراني ، عندما وصفهم أهل مصر بهذا الأسم. وكان اليهودي إذا اسر عبرانياً فإنه كان يستخدمه عبداً قبل أن يطلق سراحه.
3. إن إقحام حاخامات اليهود لفظ العبراني مع اليهودي ، هو لإعطاء اليهود عمقاً تاريخياً. وقد تجاوزوا كل الحقائق التاريخية ، بأن أطلقوا وصف العبري على إبراهيم ، ليكون هو آب اليهود وآب العبرانيين معاً ، وهذا ما دحضته الوثائق التاريخية والمكتشفات الآثارية.
2- بنو إسرائيل
يقصد بمصطلح (إسرائيل) (يعقوب ) ابن ( اسحق) حفيد ( إبراهيم ) عليهم السلام 0 فبنـي إسرائيل نسبة إلى النبي ( يعقوب – إسرائيل ) 0 وكلمة إسرائيل ( عبرانية)(9)
ـــــــــــــــــــــــــــ
7 د. أحمد سوسة ، مصدر سبق ذكره ، ص499.
8 ثيودور نولدكه ، اللغات السامية (القاهرة: دار النهضة العربية ، 1963) ، ص78 ، نقلاً عن أحمد سوسة ، ص503.
9 هناك رأي يقول أن كلمة إسرائيل وردت في الكتابات المصرية قبل أن تتكون اللهجة العبرية التي ظهرت بعد عصر موسى بعدة
قرون. وهناك قول بان الكلمة اصلها كنعاني وليس مصري (أحمد سوسة ، ص234).
مركبة من (أسرا) ومعناها : عبد أو صفوة وكلمة (أيل) تعني الله. فالكلمة تعني عبد الله أو صفـوة الله(10). ومعروف إن يعقوب كان يعيش في الصحراء مع قومه ، وكان يتاجر مع مصر وقــدم مع أهله إلى مصر عندما كان يوسف سيدا لدى فرعون ومن أبناء يعقوب وأحفاده ، تكون قوم بني إسرائيل في مصر ، قبل ولادة موسى. وعليه فان بني إسرائيل لاصلة لهم بفلسطين ، ولم تكن موطنهم بل سكنوا الصحراء ، وعندمـا احدق بهم جدبها (الصحراء) ، ذهبوا إلى مصر تلبية لدعوة يوسف لهم ، لقوله تعالى على لسان يوسف : " ( وَقدْ أَحْسَنَ بِي إِذْا أَخْرَجِنَي مِنْ اْلسِجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ اْلبَدْو )(11) ".
ويتلخص تاريخ بني إسرائيل بأنهم نزحو إلى مصر حوالي 1720 ق.م ، بقيادة يعقوب ، وخرجوا منها في القـرن الثالث عشر 1290ق0م باتجاه بلاد كنعان وقد أسسوا دولتهم التي عرفت بدولة داود سليمـان ، وقد انقسمت مملكتهم إلى دولتين ثم زالتا بفعل الغزوات المتلاحقة. تؤشر بعض الدلائل ان الجماعة الذين خرجوا مع موسى من مصر هم من المصريين الذي اعتنقوا دين التوحيد ، وليسوا من بني إسرائيل ، وأحفاد يعقوب فقط 0 واضطروا إلى مغادرة البلاد خوفا من بطش فرعون مصر(12). إن ذكر القرآن لبني إسرائيل كان تذكيرا ولوما ووعيدا لانهم نقضوا العهد ، وقتلوا الأنبياء بغير حق ، وافسدوا وحرّفوا 0 وعليه أصبحت كلمة (إسرائيل) تطلق على طائفة الإسرائيليين أي اتباع الدين اليهودي منذ سقوط مملكة إسرائيل 722 ق0م 0
أما اليهود المنتشرون في بقاع العالم فهم ليسوا من أحفاد سكان مملكـتي (إسرائيل ويهودا) ،
وكلمة إسرائيل باتت تطلق على مجموعة اتباع الديانة اليهودية ، وعند قيام دولة اليهـــود
فــي فلسطين أطلقوا عليها (دولة إسرائيل). تخلص مما تقدم إلى استنتاج مفاده:
1. أن إسرائيل هو الأسم الأخر ليعقوب ، أبن اسحق ، وحفيد إبراهيم.
2. هاجر يعقوب وأفراد أسراته إلى مصر في القرن الثامن عشر قبل الميلاد بناء على دعوة
أبنه يوسف الذي كان أميناً على خزائن ملك مصر.
3. مكث أبناء يعقوب في مصر سنوات طويلة ، قبل مجئ موسى برسالة التوحيــــد ،
وعندما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر في القرن الحادي عشر قبل الميـــلاد ،
خرج معه كل من آمن بالموسوية من أبناء مصر ، وفي مقدمتهم سحرة فرعــــون ،
الذين أبطل موسى سحرهم ، فآمنوا برب موسى وهارون.
4. مات موسى قبل أن يدخل بني إسرائيل أرض فلسطيـن.
ــــــــــــــــــــــــ
10 محمد طنطاوي ، بنو إسرائيل في القرآن والسنة ، ج1 ، ص6 نقلاً عن عبد الله سلوم ، ص9.
11 سورة يوسف: 100.
12 أحمد سوسة ، ص236 ـ 237.
3ـ نسب بنو إسرائيل
حرص كتاب التوراة على إيصال نسب اليهود(أي من يعتنق الديانة اليهودية) إلى سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء (عليه السلام) ، وأن وطنه الأصلي هو فلسطين ، في حين أكدت الوثائق التاريخية والمكتشفات الآثارية أن إبراهيم وأبنائه كانوا غرباء في بلاد كنعان. إذ هاجر إبراهيم الخليل إلى فلسطين في القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وتنقل بين العراق وفلسطين ومصر.
وعندما ماتت زوجته سارة في مدينة (حبرون) الخليل إشترى مغارة المكفيلة من الحثيين في حبرون ليتخذها مقبرة لها وقال لهم " أنا غريب ونزيل عندكم ، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي"(13). كما عاش أسحق ويعقوب في غربة وترحال ، وتعترف التوراة أن أبناء يعقوب (إسرائيل) الاثني عشر ولدوا في فدان آرام (منطقة حران) ، وهذا يعني أن ولادة بني إسرائيل (يعقوب) كانت خارج فلسطين. وهذه الحقائق تناقض ما ورد في التوراة ، بأن الرب وعد إبراهيم ونسله بأرض كنعان ، كما أن إبراهيم لم يفكر في سلب أرض كنعان ، بل تعايش معهم بأمان وسلام. إن وعد الرب هو أسطورة صدقها اليهود ، وقد قال (بـن غوريون) رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق حول أسطورة الوعد: " لا يهم إن كانت هذه القصة تسجيلاً حقيقياً لحادثة تاريخية أم لا ، المهم هو أن اليهود إعتقدوا بصدقها منذ آلاف السنيين(14). وكان آل يعقوب يعيشون في الصحراء ، ويتاجرون مع مصر، عندما كان يوسف في مصر في خدمة الملك ، وتنفيذاً لرؤية يوسف ، عندما كان صبياً فقد استدعى أهله من البدو ليعيشوا معه في مصر ، ولاسيما بعد أن جدبت الصحراء ، ولم تعد مكاناً ملائماً للعيش.
لقد كانت هجرة آل يعقوب إلى مصر في العام 1720 ق.م ، أما مجئ موسى فكان في القرن الثالث عشر ق.م ، أي بين آل يعقوب وموسى حوالي أربعمائة سنة ، والذين خرجوا مع موسى من مصر 1290 ق.م ليسوا كلهم من آل يعقوب ، بل من المصريين ممن اعتنقوا الديانة اليهودية وعلى هذا الأساس فإن إبراهيم أبو الأنبياء ليس له علاقة باليهود الذين يدينون بالديانة اليهودية ، فهو ليس يهودياً ، لأنه ظهر قبل اليهودية بحوالي، خمس مئة سنة. فالذين كانوا في حله وترحاله هم من الأقوام الذين عاشوا قبل وجود بني إسرائيل ، أو آل يعقوب. أما الادعاء بأن لقب (إبرام) الذي ورد في التوراة يعني (الإسرائيلي) فهو إدعاء لا تسنده وثائق تاريخية منطقية . وكلمة (إبرام) تعني السائح أو المهاجر.
ــــــــــــــــــــــــــ
13 المصدر نفسه ، ص477 وما بعدها.
14 د. عبد الوهاب المسيري ، اليهود والصهيونية وإسرائيل ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
1975 ، ص157.
وقد أوردت التوراة تاريخ إبراهيم وهجراته بين بلاد المشرق ومصر بالتفصيل ، وركزت على أبنه اسحق ، دون ذكر مفصل لابنه إسماعيل ، ولا قصة بناء الكعبة المشرفة ، وفداء إسماعيل بذبح كبير ، ولكنها ركزت على بني إبراهيم من نسل اسحق ويعقوب وأن الرب (يهوه) وعدهم بأرض كنعان لهم ولنسلهم من بعدهم. وقد جاءت الوثائق والمكتشفات الاثارية ، لتبطل ادعاءات كتبه التوراة.
أن التوراة تركز على اسحق من نسل إبراهيم ، في حين أن ابنه إسماعيل هو الأكبر من اسحق بـ 13 سنة ، ويبدو من خلال التوراة أن الرب لم يشمله بتلك الرعاية التي أعطاها لأسحق ونسله ، فكيف يصح أن يميز الله بين أبناء الأنبياء ولا سيما أن الله سبحانه فدى إسماعيل بذبح عظيم ، عندما هم والده تنفيذ رؤياه.؟!
وقد ورد في التوراة أن الوعد الالهي شمل إبراهيم وذريته وحرمان إسماعيل من الوعد وقصره على اسحق ، وحرمان (عيسو) بين اسحق من الوعد وقصره على يعقوب ونسله. ففي (الاصحاح 17/18 من سفر التكوين) قال الرب لإبراهيم ".. سارة تلد أبناً وتدعو اسمه (اسحق) وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده ، وأما إسماعيل فقد سمحت لك فيه ، هاأنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً أثنى عشر رئيساً وأجعله أمة كبيرة لكن عهدي أقيمه مع اسحق الذي تلده سارة"(15).
إن إبراهيم من الجنــس العربي وليست له علاقة بالعبرانيين او بني إسرائيل ويقول احمد أن إبراهيم الخليل لم يرتبط بأي صلة باليهود لا من حيث العصر ولا من حيث المبدأ أو العقيدة ولا من حيث اللغة فقد عاش إبراهيم الخليل في بيئة واسعة النطاق ، تشمل جميع بلاد الشرق الأدنى ، التي كانت تؤمن بالقومية العربية 00 ويجب ان لا يخلط المؤرخــون والباحثون بين إبراهيم الخليل ودور اليهود ، وهناك سبعة قرون تفصل بينهما(16). وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقول الله تعالى (( يَا أَهْلَ اِلكّتَاب لم تحاجون في إبراهيم، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده افلا تعقلون))(17) ، وقوله تعالى:(ما كان إبراهيـم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين)(18).
ـــــــــــــــــــــــ
15 نقلاً عن محمد أديب العامري ، مصدر سبق ذكره ، ص40 ـ 41.
16 سوسة ، مصدر سبق ذكره ، ص268.
17 آل عمران: 66.
18 آل عمران: 67.
وحول فرضية اليهود بان لهم هجرتين الأولى في زمن إبراهيم والثانية في زمن موسى، فأن الحقائق التاريخية تؤكد ان لا علاقة بين الهجرتين ، لان لكل منهما أسبابها فهجرة إبراهيم من مسقط رأسه في العراق وقعت في القرن التاسع عشر ق0م ، وكانت لهجرته تلك أسبابها ، إذ انه أراد من هجرته ان يهرب من ضغط قومه الذين أرادوا حرقه بعدما حطم آلهتهم 0 أما هجرة موسى من مصر إلى فلسطين فقد وقعت في القرن الثالث عشر ق0م ، وكانت بسبب خوفه من فرعون بعد ان قتل رجلا مصريا.
وعندما خرج موسى من مصر مع أتباعه في القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، أي بعد 700 سنة من وجود إبراهيم تاه الموسويون في الصحراء أربعين سنة ، لغضب الرب عليهم لجحودهم ولجاجتهم وكثرة مطالبهم من موسى وأخيه هارون.
مات موسى قبل أن يدخل بلاد كنعان ، فقاد جماعات العبرو بعده (يشوع بن نون) ، فهاجم تلك البلاد ودخل أريحا وذبح اهلها وهدم بيوتها ونهب ممتلكاتها ، وعندما زحف نحو القدس ، استنجد حاكمها (عبد خيبا) بفرعون مصر لحماية تلك المملتكات التي كانت تابعة لدولته. وقد قاوم سكان القدس قوات يشوع مقاومة شديدة ، ومات قبل أن يدخلها. وقد وصف المؤرخ (جميس هنري برستد) مؤلف كتاب " العصور القديمة " مقاومة سكان القدس لعدوان العبرانيين ـ ويقصد بني إسرائيل ـ فقال: " وحين دخل العبرانيون فلسطين وجدوا فيها الكنعانيين يقتحموا في مدن زاهرة تطوفها الأسوار الضخمة فلم يستطيعوا أن يقتحموا فيها إلا المدن الضعيفة "(19).
إن أسلوب يشوع العنيف ضد السكان هو الأسلوب الذي يتبعه اليهود حالياً ضد سكان فلسطين الأصليين وأهالي القدس بالذات.
وإذا كان الله قد خص يعقوب واسحق بالرعاية ، فإنه عاد وغضب على اليهود بعد خروجهم مع موسى وتمردهم عليه وعلى هارون ، فجاء في(سفر أخبار الايام الثاني الاصحاح السابع): ((ولكن إن انقلبتم وتركتم فرائضي ووصاياي فإني اقعلعكم من أرضي)).
وورد في (سفر التثنية ، الاصحاح 9/11) أن الرب قال لموسى.. " قم انزل عاجلاً من هنا ، لأنه قد فسد شعبك الذي أخرجته من مصر ، زاغوا سريعاً عن الطريق التي أوصيتهم وإذا كان الرب قد وعد بني إسرائيل كما ورد في التوراة ، فإنه عاد وغصب عليهم فقد ورد في الاصحاح من سفر يشوع قول الرب " لا أعود أرحم آل إسرائيل ، بل اذهب بهم ذهاباً فإنكم لستم بشعبي ولا أنا لكم". إن إدعاء اليهود بأن الله منحهم الوعد بالأرض والجاه والعظمة ، فهو وعد لكل الأمم التي خصها بالرسالات ، شريطة أن تحفظ الأمم رسالة التوحيــــد ،
ـــــــــــــــــــــ
19 نقلاً عن محمد أديب العامري ، مصدر سبق ذكره ، ص46.
أن يُنفذوا الأمر الإلهي في العدل والرحمة. ولكن هل نفذ اليهود أمر الله ، لكي يطالبوا بتنفيذ الوعد ، هذا إن صدقنا أن هناك وعد بالأساس ، لأنه وعد من ربهم (يهوه) وليس من الله. وإذا سلمنا بورود هذا الوعد فإن الله اشترط تنفيذ أوامره ، واليهود خالفوا الأمر الإلهي في أكثر من موقع وفي أكثر من زمن ، فغضب الله عليهم. وما يؤكد غضب الله عليهم ما ورد في القرآن الكريم من تقريع ولوم ووعيد ، وما ورد في التوراة ذاتها.(20)
وإذا كان هذا كلام الرب ، أعطى ثم عاد ونقض وعده فسخط على اليهود ، فأي حق ديني لهم في أرض فلسطين. ورغم هذا فإنهم برعوا في استثارة مشاعر اليهود الدينية ، وجنودهم لخدمة أفكار الصهيونية الاستعمارية العنصرية. وخلاصة القول إن إدعاء اليهود بنسبهم إلى إبراهيم هو إدعاء دحضته الوثائق التاريخية والمكتشفات الاثارية ، ويفصل بين إبراهيم واليهود الذين خرجوا مع موسى من مصر حوالي ثمانمائة سنة.
4ـ اليهود وكتابهم المقدس
أطلقت لفظة اليهود – برأي أحمد سوسة على أولئك الذين آمنوا بالتوراة التي جاءت إلــى سيدنا موسى ( عليه السلام ) فعنده كلمات ( الابري ) و ( الهبري ) و ( الخبرو ) و (العبرو) كانت معروفة قبل وجود اليهود ممن آمنوا بما جاء به موسى. فالأصل اللغوي لكلمة يهود ، مشتقة من ( الهود – التوبة ) أي هاد ، يهود ، هودا ، أي تاب ورجع إلى الحــق ،
فهو هائد. واليهود اصطلاحا نسبة إلى ( يهوذا ) أحد الأسباط وأحد ملوك اليهود وقد استبدلت الذال ، دالا. كما كان يهوذا الابن البكر ليعقوب ، وهو الحاكم لسائر أبناء أبيه الأحد عشر بتقديم أبيه له 0 وظل كذلك حتى مات. وقد وردت كلمة يهود ومشتقاتها (21) مرة في القرآن الكريم. وقد قيل انهم سموا يهودا لانهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة(21). يرى جواد علي ان لفظة يهود تطلق على العبرانيين وغيرهم ممن دخلوا في دين يهود(22). وهو رأي الكتاب الغربيين ممن تأثروا بروايات التوراة.
اما اليهودية كما جاء في اسفار ( العهد القديم ) ، هي ديانة قبيلة منغلقة على ذاتها ، ترفض الاندماج مع الاخر رغم ان افرادها قلة 0 كما انها ديانة مبنية على اسس مغلفة باوهام وأحلام عريضة نسجها خيال الحاخامات ممن وضعوا تلك الاسفار في فترات متباعدة زمنيا. وعليه فهي ديانة خاصة لقلة من الناس وليست ديانة عامة موجهة إلى البشر كلهم ، كما هو حال الديانتين المسيحية ، والإسلامية إذ صار تعداد المؤمنين بهما بالمليارات ، وظل اليهود لا يتعدى عددهم في العالم كله اكثر مــن 16مليون فرد.
ـــــــــــــــــــــــــ
20 للاطلاع على غضب الرب على اليهود أنظر ما ورد في القرآن الكريم ، سورة البقرة: 46 ـ 59 ، أسفار التوراة:
(الخروج: 19 ـ 5 ، 8 . التثنية ـ 8 ، 28 ، 29 إلى أخر السفر وكذلك سفر أرميا).
21 أمين الخولي ، تاريخ الملل والنحل ح2 ، ص4 ، نقلاً عن عبد الله سلوم ، مصدر سبق ذكــره ، ص19.
22 جواد علي ، تاريخ العرب قبل الاسلام ، ج6 ، ص95.
أما كتاب اليهود المقدس فإن الوقائع التاريخية أكدت أن حاخامات اليهود كتبوا التوراة في أماكن عدة وأزمان متطاولة وقد استفادوا من الحكم الواردة في أديان الهند واليونان وبابل وقد خططوا لإيجاد نفسية يهودية متمردة حاقدة دائماً ومجتمعاً يهودياً مغلقاً لا يؤمن إلا بنشر الجرائم والشرور فيما حوله(23).
ومن قراءة الاسفار التي حواها ( العهد القديم ) يتضح اهتمامها بالتاريخ اليهودي فقــد روت تفاصيل سيرة للأنبياء وترحال بني إسرائيل ، ومعاناتهم من قبل الشعوب الأخرى.
لقد بنيت اليهودية على فكرة ( التفوق ) العنصري ، أي تفوق اليهود على باقي البشر استنادا
الى اعتبار الرب لهم بـ ( شعب الله المختار) ، وانهم العباقرة الذين اوكل لهم حكم العالم أما غيرهم فلا يستحقون مثل هذه الحظوة ، بل الرضوخ ( للمختارين ) 0
ان هذا الاعتقاد بالتفوق جعلهم يرفضون العيش مع الآخرين ، او الاندماج في مجتمعاتهـم ،
وظلت الصلة التي تربطهم بالأقوام والشعوب الأخرى يسودها الشك بدل الثقة ، والحقد بدل المحبة ، والمكر والخداع بدل الإخلاص ، والطمع والأنانية بدل البذل والجود وحب الآخر.
والتوراة التي بين أيدينا ، ليست تلك الالواح أو الصحائف التي أنزلها الله تعالى على موسى ، والذين كتبوا أسفار التوراة المتداولة ، قد كفروا برب موسى وبما جائهم من عنده ، لقوله تعالى ( ولقد آتينا موسى الكتاب فأختلف فيه 0 ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم. أنهم لفي شك منه مريب )(24). فقد اختلق الحاخامات والاحبار كلاما آخر غير كلام الله متأثرين بما حولهم من ديانات وطقوس ، ولذلك فقد زخرت أسفار التوراة بالمغالاة والكذب والتزوير. وادعو أنه كلام من الله ، ولكن ربهم هو (يهوه) 0 وقد دحض الله تعالى أقوالهم في القرآن الكريم لقوله : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )(25).
التوراة المداولة اليوم 00 لا يعترف بها القرآن ، بل سجل في آيات عديدة – كما سبق ذكره – انها ( التوراة ) محرفة مزوره(26). فهي ( التوراة ) ليست المنزلة على موسى ، وينقل أحمد سوسة عن (رحمة الله) الهندي في كتابه " اظهار الحق ، ص133 " ، بان أهله اتفقوا علـى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
23 عبد الله التل ، الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام (بيروت: المكتب الإسلامي د.ق) ، نقلاً عن د. محسن عبد
الحميد ، موقف الصهيونية من الإسلام في ندوة المجتمع العلمي العراقي ، ص3.
24 سورة فصلت:45.
25 سورة البقرة: 59.
26 أحمد سوسة ، ص46 ، نقلاً عن: الدكتور محمود الشريف ، اليهود وفي القرآن الكريم ، ص29 ـ 35 وحول الآيات القرآنية
التي تؤشر التزوير والتزييف في التوراة ، يحكم العودة ، آل الرعد: 17 الجاثية: 23 الاجزاء:69 ، النحل: 72 ، المجادلة:2 ،
المائدة: 13 ، 15 ، 44 ، الاعراف: 145 ، النساء: 46 ، الانعام:91 ، البقرة: 79 ، 159.
ان نسخة التوراة الأصلية ضاعت من أيدي جند نبو خذ نصر ، وتم إحراق ما نقل منها ـ آنذاك ـ عندما فتح ملك الفرنجة (أور شليم) ، كما أمر الملك بقتل كل من يوجد عنده نسخة من صحائف العهد القديم. وكانت تلك الحادثة قبل ميلاد المسيح بأكثر من مائة سنة.(27)
أن أية قراءة متفحصة لنصوص أسفار التوراة ، ولاسيما سفر التكوين ، وصموئيل والملوك ، يجد من القصص الخرافية والحاقدة على الأنبياء ما تقشعر له الأبدان ويتأكد بان من كتبوا هذه الاسفار ينطبق عليهم وصف القرآن ، بالمحرفين للكلام والمزورين الحقائق. ولم يكتف الحاخامات بالتوراة ، بل صاغوا كتاباً آخر أسمه التلمود.
ويعد التلمود بعد التوراة هو القوة الروحية التي تشد أواصر الحياة اليهودية ، وهو الذي رسم الطقوس والشعائر التي تجمع اليهود. وقد عبر (بن غوريون) عن قداسة التلمود بقوله: إن الصهيونية لم تفعل اكثر من إرساء الفكرة القديمة في حياة الشعب.
وقد صاغ أحبار وحاخامات اليهود كتابهم الكبير المسمى التلمود بعد التوراة من أحكام الديانة اليهودية ، والتلمود معنا الشرح أو التفسير ، وهي مجموعة الشرائع اليهودية التي نقلها الاحبار اليهود شرحاً وتفسيراً للتوراة واستنباطاً من أصولها.
ويقسم التلمود إلى قسمين الأول: النص أو المتن ، والثاني: التفسير أو الشرح ويعتبر اكثر اليهود (التلمود) كتاباً منزلاً ويضعونه في منزله التوراة ، ويرون ان الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء مدونة وأرسل على يده التلمود.(28)
وما نسجله على اليهودية:
1ـ أنها ديانة أقلية من الناس ، تعتمد الأساطير وتبتعد عن العقل ، أو المنهج العلمي الـذي يقبله العقل. ولذلك فهي تخاطب العواطف والأحاسيس أكثر من العقل.
2ـ إن إله اليهود خاص بهم دون غيرهم ، فهو يسكن حيث يسكنون ، ويمنحهم من العطايا ما لم يمنحه للأخرين من الأغيار. فالإله مرتبط باليهود " الشعب " ، كما أن تاريـخ البشر يدور بإرادة (يهوه) حول حياة ومصير اليهود.
3ـ ارتبط دين اليهود بالأرض الموعودة ، وهذه المقولة لا تختلف عن ما جاءت به بعض الديانات الآسيوية التي ارتبطت بالأرض مثل: ارتباط الديانة الكونفوشية بأرض الصين وبالشعب الصيني ، وارتباط الديانة الهندوكية بالهند وبالشعب الهندي ، والديانة اليابانية باليابان وشعب اليابان(29). إن ارتباط اليهودية بالجغرافيا الفلسطينية ، هو تقليد
ــــــــــــــــــــــــــ
27 المصدر نفسه ، ص48.
28 د. أحمد سوسة ، ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق ، بيروت: المؤسسة العربية للدراســات والنشر ، 2001م ،
ص178 وما بعدها.
29 د. عبد الوهاب المسيري ، اليهودية والصهيونية وإسرائيل ـ دراسات في انتشار وإنحسار الرؤية الصهيونية للواقع ،
بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1975 ، ص10 ـ 11.
أو إستفادة من الموروث الديني للديانات الأسيوية ، التي ارتبطت بجغرافيا معينة وشعب معين. وإنطلاقاً من هذه الرؤية الجغرافية فقد أسبغ حاخامات اليهود في أسفارهم على فلسطين أوصاف دينية تستثير العاطفة والمشاعر مثل: (الأرض المقدسة) و(أرض الرب) و (أرض الميعاد).
4ـ تتميز اليهودية بكثرة طقوسها وتقاليدها ، التي أصبحت مقدسة بالنسبة لليهود ، وهذه الطقوس هي التي حواها التلمود الضخم ، سواء كان التلمود البابلي ، أو التلمود الفلسطيني. ويُعد التلمود بقداسة التوراة أو أكثر ، لأنه سجل لكل التفاصيل اليهودية، ولاعتقاد اليهود بأنه كلام الله الذي أنزل على موسى شفاهاً ، وتداوله أتباعه جيلاً بعد جيل إلى أن تم كتابته بمجلدات ضخمة.
5ـ تدل الوقائع التاريخية أن صحائف موسى التي أنزلها الله قد أتلفت أثناء غزوات البابليين والرومان ، والتوراة المتداولة هي من كتابه حاخامات وأحبار اليهود أثناء الأسر البابلي والقرون اللاحقة ، وفي أماكن متعددة.
الفصل الثاني ـ الصهيونية واليهودية
1ـ جذر الصهيونية:
الصهيونية مصطلح مشتق من (صهيون) ، وهو اسم جبل في القدس ( اورشليم ) سبق لليبوسين ، وهم أبناء عمومة الكنعانيين إن أقاموا فوقه حصنا وهيكلا يتعبدون فيه قبل ظهور إسرائيل ، أحفاد يعقوب بمئات السنين – كما أسلفنا – ولفظة ( صهيون ) لفظة عربية كنعانية وليست لفظة عبرية يهودية ، كما ساد الاعتقاد لدى بعض الباحثين المتأثرين بمقولات ( التوراة ) 0
وقد استخدم اليهود لفظة الصهيونية أواخر القرن التاسع ، وأول من استخدمها هو اليهودي (ناتام بنربوم) 1885م ، كما استخدمها يهود روسيا إذ أطلقوا على منظمة انشأوها اسم (أحباء صهيون) ، وانتمى اليها يهود روسيا البارزين منهم: والد وايزمن وابن غوريون وسوكولوف ، وقامت بحركات ارهابية ضد روسيا القيصرية(30).
وعندما استخدم المصطلح كان اليهود في أوربا الشرقية يعيشون حياة متخلفة ، ويرفضون الاندماج في المجتمعات الأوربية ، كما يعانون الاضطهاد من الشعوب التي يعيشون وسطها وفي أوربا الشرقية حصرا. وقد أراد مخططوا الحركة الصهيونية ان يحققوا
(حلما) أو (وعدا) إلهيا بأدوات دنيوية ، وتم في المؤتمر الصهيوني الأول 1897 تحديد الأهداف التي سنأتي على ذكرها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
30 أحمد سوسة ، العرب واليهود ، مصدر سبق ذكره ، ص 652.
2ـ تعريف الصهيونية
نقصد بالصهيونية الحركة الفكرية والعملية ، التي تقول بأنها تجسد حلم "الأمة اليهودية" في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. فالصهيونية كما عّرفها (حايم وايزمن) بأنها حركة سياسية قومية ، ولكن لها ناحيتها الدينية ووجد أن نجاحها يكون بمقدار عنايتها بالناحية الروحية التي تثير الحماسة الدينية لدى اليهود في بلاد الشتات(31).
وعّرفها اليهودي الأصولي (كلاوز.ج.هيرمان) بأنها حركة تطورت في مفهومها بمرور الاعوام ، فأصبحت حركة إستعمارية استيطانية ، تعتبر اليهود " شعباً " منفصلاً عما حوله ، والمطلوب توطينه كمجتمع سياسي في فلسطين(32).
وتميز الدكتور عبد الوهاب المسيري ، المتخصص في دراسة الفكر الصهيوني بوضع تعريف للصهيونية بقوله: انها صيغة إيديولوجية ، استخدمت لتبرير ظاهرة غربية ، أي أنها استعمار استيطاني إحلالي في فلسطين. وقد تحول هذا الاستعمار بعد عام 1967 إلى استعمار استيطاني مبني على التفرقة اللونية ، ويتجذر هذا الاستعمار في ظروف تاريخية حضارية غاية في التركيب ، وفي إطار خطاب مراوغ ، وصيغ صهيونية ـ يهودية ، وغير يهودية(33).
وعليه فالصهيونية ، حركة سياسية توشحت بثوب العلمانية ، واعتمدت على الموروث الديني الوارد في التوراة ، بهدف استثارة مشاعر اليهود ، وإغرائهم الانتماء إلى الحركة ، بوعد يتضمن إعادتهم إلى فلسطين وإقامة وطن قومي لهم فوقها ، وإنشاء مجتمع يهود العالم كله. وقد اعتمدت على أرضية صلبة من قبل الدول الأوربية الاستعمارية ، والصهاينة البروتستانتيين.
ويمكن تلخيص أبرز الأفكار الواردة في التعريفات بالآتي:
1. الصهيونية حركة فكرية دينية ، نشأت في أوربا من قبل الصهاينة الأوربيين قبل نشوء الصهيونية اليهودية أواخر القرن التاسع عشر.
2. الصهيونية حركة سياسية دينية بشر لها عدد من الدعاة اليهود.
3. الصهيونية حركة علمانية في الظاهر ودينية في الباطن.
ـــــــــــــــــــــــــــ
31 مذكرات وايزمن 1952 ، ص13 ، نقلاً عن د. نديم عيسى ، الحركة الصهيونية والاصولية اليهودية في ندوة المجمع العلمي
العراقي 1995.
32 كلاوز ج. هيرمان ، أضواء تاريخية على الصهيونية السياسية واللاسامية ، بحث في مؤتمر طرابلس حول الصهيونيـــة
والعنصرية ، في الصهيونية حركة عنصرية ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات ، 1979 ، ص201 وما بعدهـــــا.
وهيرمان أستاذ في جامعة كونكورديا في مونتريال ، عاش في الصين والولايات المتحدة وكندا.
33 عبد الوهاب المسيري ، الامكانات الإيديولوجية الصهيونية ، المستقبل العربي ، العدد 258 ، آب أغسطس 2000 ،
ص51 ، وما بعدها.
4. الصهيونية حركة سياسية عنصرية استعمارية استيطانية.
5. الصهيونية حركة نشأت ونمت في أحضان الرأسمالية الغربية ، وتحت عباءة الدول الاستعمارية في أوربا.
ان الصهيونية حركة سياسية وضعت خططها من الواقع المعاصر عند نشأتها ـ اقتصادياً ـ سياسياً ـ واجتماعياً. وتهدف (العودة) إلى (أرض إسرائيل) أي إلى فلسطين ، بناء على أساطير دينية وردت في التوراة ، وقد استفادت الحركة السياسية الحديثة من الموروث الديني التوراتي ، لاستثارة المشاعر لدى اليهود ودعوتهم للانخراط في الحركة الصهيونية وتحقيق مخططها في انشاء الدولة بفعل الهجرة اليهودية وبناء هياكل الدولة المادية في (الأرض الموعودة) وضمان اعتراف دولي بها.
وكان الداعية الرئيس للصهيونية السياسية (موسيس هيس) الذي عمل مع (هرتزل) وألفا كتاب: "روما ـ أورشليم" 1862، ثم جاء (ليوبينسكر) في كتابه "التحرر الذاتي" و (هرتزل) في كتابه " الدولة اليهودية " اللذين عرضا فيه المذهب الصهيوني. وقليلون هم يشيرون إلى (ناثان بيرنبوم) الذي وضع مصطلح الصهيونية موضع التداول وقد يكون سبب هذا الإغفال إلى العلاقة غير الودية التي كانت تربطه مع (هرتزل).
3ـ ولادة الحركة الصهيونية
بعد الفتح العربي الإسلامي لفلسطين عاش اليهود مع العرب ، وأصبحوا عرباً. أما في أوربا فعاش اليهود في أحياء معزولة (الغيتو) ، وظلموا في الطور القبلي ولا سيما في ظل التعصب الكنسي ، تحت تأثير الماضي ، بأن للمسيحيين تأراً قديماً لدى اليهود. وفي ذاك الوقت كانت الكنيسة تحرم الربا ، ولكن اليهود كانوا يحرمونه فيما بينهم ويفعلونه مع الأخرين. وعن طريق الربا موّلوا أمراء الإقطاع في حروبهم ولبّوا رغباتهم ، وبذلك سيطروا على الشعوب.
وفي ذاك الوقت كانت بلدان أوربا تتدافع باتجاه الشرق للسيطرة على طرق التجارة بين أسيا وأوربا ، وبسبب تلك الإطماع تولد لدى الأوربيين حقد دفين على العرب المسلمين بدوافع اقتصادية ودينية ، إذ يعتقدون أن المقدسات كانت تحت سيطرة "غير المسيحيين" ، ومن هذا الاعتقاد ، كانت حملات الفرنجة المسماة بالحروب " الصليبية " ، ولم يفرق الفرنجة آنذاك بين العرب بكل أديانهم ، وقد لاقى المسيحيون العرب مثل ما لاقى المسلمون من ظلم وذبح وتشريد. وعندما ظهرت حركة الإصلاح الديني ، ممثلة بالحركة البروتستانتية ، وترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى اللغات المحلية في أوربا ، ظهر الاهتمام "بالنبؤة التوراتية" "والإيمان بعودة المسيح" والإيمان بأن الكتاب المقدس هو كلام الله ، وبالتالي يجب أن يؤخذ النص حرفياً.
ومن هذا الاهتمام والاعتقاد الجديد ، تغيرت النظرة الأوربية إلى اليهود ، وصار الأوربيون البروتستانت أكثر حماسة للتوراة من اليهود أنفسهم وتحولت النظرة إلى الديار المقدسة ، فبدلاً من تحريرها من المسلمين "صار التوجه إلى أنها هي "وطن اليهود"(34).
وبفعل التحول الذي أحدثته البروتستانتية ، لم يعد لعرب فلسطين أي أثر في الوعي الأوربي ، وصار تاريخ فلسطين يتجسد في تاريخ اليهود فقط ، الفلسطينيون لا وجود لهم في هذا التاريخ. وبالتالي لا أهمية لهم كونهم بشراً ، بل وصفوا من قبل الأوربيين "بالعصابات التي خربت رين الأرض المقدسة بجهلها وتأخرها". وقد كان خط الدفاع الذي إلتزمه البروتستانت، رفض العقلانية والتنخدق بإصرار في خندق الوحي ـ كما عبر اللورد شافتسبري في يومياته عام 1871 ـ ، فقال "أن الوحي موجه إلى القلب لا إلى العقل ، فالله لا يهتم كثيراً لعقل الإنسان ، لكنه يهتم أعظم الاهتمام بقلب ذلك الإنسان.. وأضاف ان الشيطان يجلس علـــى عرشه في العقل ، أما الله فعرشه في قلب الإنسان". وقال إن فلسطين أرض بلا شعب فلتعطى لشعب بلا أرض(35). وهذا الغوص في الروحانيات كان للهرب من مواجهة اجتياح العلم والعقلانية ، الذي أخذ يعم بلدان أوربا آنذاك.
لقد آمن البروتستانتيون بعودة المسيح ثانية ، ووجدوا أن هذه العودة لا تتم إلا عندما يعود اليهود إلى فلسطين ، استناداً لكل الأساطير والروايات الواردة في التوراة. وانتقل هذا الإيمان من أوربا إلى أمريكا ، وقد ظهر ميل شديد لدى المسيحيين البروتستانت في أمريكا للاعتقاد بأن المجئ الثاني للمسيح ، مرتبط بإنشاء دولة يهودية تلم شمل اليهود في العالم.
مما تقدم يتضح أن الصهيونيين ـ الأوربيين والأمريكيين كانوا أكثر حماساً لإقامة دولة يهودية في فلسطين ، قبل وجود الحركة الصهيونية اليهودية عام 1897م. وقد اعتقدوا أن " اليهود هم مفتاح المستقبل ، وإسرائيل أمل المستقبل ومنبع البركة لأمريكا ، ولذا فإنه لم يكن من المستغرب أن يكون أول قنصل أمريكي في القدس رجل دين من طائفة الكويكرز(36).
وإثر ذلك هاجر عدد من المسيحيين البرونستانت إلى فلسطين للإقامة قرب الديار المقدسة ، وقد تهود بعضهم وأقاموا فيها ، قبل بدء الهجرة اليهودية المنظمة أواخر القرن التاسع عشر. كان اعتقاد هؤلاء جازماً بأن فلسطين هي ارض اليهود ، وقد عبر (بلاكستون) اللاهوتي الأمريكي ، الذي هاجر إلى فلسطين ، بأن هذه الأرض بغير شعب ، ومن حق اليهود أن يعودوا إلى أرضهم. وقال بصريح العبارة: " ما الذي سنفعله (نحن الأمريكيين) حيال اليهود
ـــــــــــــــــــــــــــ
34 ميخائيل سليمان ، فلسطين والفلسطينيون في العقل الأمريكي ، المستقبل العربي ، العدد 203، كانون الثاني / يناير 1996 ،
ص62.
35 نقلاً عن شفيق مقار ، المسيحية والتوراة ، لندن ـ قبرص: دار رياض الريس ، 1992 ، ص149ـ147.
36 المصدر نفسه ، ص149.
الروس؟ لم لا يُعطون فلسطين؟ لم لا تُرد فلسطين إليهم؟ ووصف اليهود أوصافاً ليست فيهم بقوله: لقد كانوا أمة زراعية منتجة ، بقدر ما ظلوا أمة ذات باع تجاري عظيم ، وكانوا مركز الحضارة والدين. فلم لا تضطلع الدول الكبرى التي أعطت بلغاريا للبلغار وصربيا للصرب ، بإعادة فلسطين الآن لليهود(37). إن هذه المناجاة من قبل لاهوتي أمريكي
قبل دعوة هرتزل لعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل 1897م ، تؤشر الحماسة الدينية الروحية لليهودية التي لبست ثوباً جديداً اسمه البروتستانتية ، وفيها قدر عالٍ من المغالطات التاريخية ، وإيمان روحي مستند على أساطير التوراة ، وأبرز هذه المغالطات:
1. أن فلسطين مسكونة بالشعب العربي منذ القرن الثالث قبل الميلاد ، وليست أرضاً خالية من الشعب.
2. أن اليهود لم يحكموا فلسطين أكثر من مائتي سنة ، في حين أن الحكم العربي الإسلامي دام أكثر من 13 قرناً.
3. اليهود الروس طردوا من روسيا عقب حادثة إغتيال القيصر عام 1881 ، ومن الواجب أن يعودوا إلى أرضهم في روسيا وليس إلى فلسطين.
4. إن اليهود كانوا رحالة في البلاد ، ولم يستقروا للزراعة ، ولم يشكلوا حضارة أبداً ، بل سعوا إلى هدم الحضارات القائمة في فلسطين.
وللتدليل على قولنا نستشهد بقول رجل يهودي هو(د. إسرائيل ولفنسون) في كتابه "تاريخ اليهود في بلاد العرب ، ص12 " إذ قال: " إن يهود بلاد العرب لم يظهروا شيئاً من النبوغ والعبقرية مطلقاً ، ولم يشتهر من بينهم شخصية واحدة في كل عصورها بالرقي الفكري ". ونسوق شهادة أخرى لـ (غوستاف لوبون) في كتابه " اليهود في تاريخ الحضارات الأولى " إذ قال: " لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة. واليهود لم يأتوا قط بأية مساعدة مهما صغرت. واليهود لم يجاوزوا قط الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ ". ويقول العلاقة (بريستد) في كتابه "العصور القديمة": " أن بني إسرائيل ـ أي قوم موسى ـ إمتزجوا مع الكنعانيين ، وبذلك تغيرت حياتهم ، فغادروا سكن الخيام وشرعوا يبنون بيوتاً كبيوت الكنعانيين ، وخلعوا عنهم الجلود ، ولبسوا الثياب الكنعانية المصنوعة من منسوجات صوفية زاهية"(38). إن الإدراك الأوربي الديني الجديد ، تلاقى مع الإدراك الوظيفي وللدور الذي يمكن أن يضطلع به اليهود إذا ما أقاموا دولة لهم في فلسطين ، دور يحول دون قيام وحدة العرب ، دون نهضتهم وتقدمهم فـي
ــــــــــــــــــــــــــــ
37 المصدر نفسه ، ص153.
38 نقلاً عن د. أحمد سوسة ، العرب واليهود في التاريخ ، مصدر سبق ذكره ، ص466 ـ 467.
المجالات المختلفة. وقد أنتقل هذا الإدراك السلبي إزاء العرب ، والإيجابي إزاء اليهود من أوربا إلى الولايات المتحدة من خلال النازحين(البيورتياتيين) الذين حملوا معهم البروتستانتيـة ، والفكرة الصهيونية الخاصة بالاستيطان اليهودي في فلسطين. ومن خلالهم ساد شعور الشراكة مع اليهود ، بأن الأثنين "يعمرون أرضاً ليس فيها بشر" ، أي أن الأوربيين عمروا أرض أمريكا ، بدعوى أنها بدون سكان ، أو أن سكانها من الهنود الحمر متخلفون غير مؤهلين لإقامة سلطة مستقلة ، وكذلك الحال بالنسبة إلى اليهود الذين سيعودون إلى أرضهم الموعودة "فلسطين".
وكما فهم الأوربيون فلسطين من خلال "التوراة" فإن الأمريكيين زادوا على فهم الأوربيين بالإيمان الحر في "التوراة" ، وإبداء الحماس الشديد ، لمساعدة اليهود في تنفيذ "وعد الرب". وفي إدراكهم أن الفلسطينيين مثل الهنود الحمر ، لم يعمروا البلاد ، ولا يستحقون البقاء. وهذا الإدراك يُفسر الميل والتحالف الإستراتيجي والالتزام الأدبي من الإدارات الأمريكية للكيان الصهيوني.
عندما جاءت الثورة الليبرالية وبالذات الثورة الفرنسية أطاحت بالتعصب الكنسي ، فحصل لقاء بين المسيحية واليهودية في المذهب البروتستانتي. وفتح الباب أمام اليهود للتطور والانتقال من الطور القبلي إلى الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها. وقد تخلف عن هذا الركب قلة من اليهود في أوربا الشرقية ، الذين عاشوا في (غيتو) ، وجعلوه وكراً للتآمر على كل ما هو غير يهودي. وقد تمكن اليهود من النفاذ داخل المجتمعات الرأسمالية من خلال المال والاعلام ، وصار لهم شأن فيها. وفي عام 1897. ولدت منظمتان من العنصرين اليهود ، الأولى نشأت في دول أوربا الشرقية ، والثانية في دول أوربا الغربية ، فالأولى نشأت تحت اسم ((الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندة)) (اليوند).
وكانت منظمة عمالية شعارها الاشتراكية ، وأصبحت فيما بعد جزءً من "حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي" القائم على منظمات ماركسية ، وقد اجتمعت هذه المنظمة إلى جانب المنظمات العديدة التي كانت تعرف باسم "الحركة الاشتراكية الديمقراطية في شرق أوربا ، في مدينة (منسك) 1898 ، واتفقت على أن تتوحد في حزب " العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي"(39).
ـــــــــــــــــــــــــــ
39 د.عصمت سيف الدولة ، مشكلة فلسطين من وجهة نظر قومية ، القاهرة: دار الموقف العربي ، 1991 ، ص30
وقد حصل(البوند) في المؤتمر الرابع الذي إنعقد في استوكهولم 1906،على اعتراف الحزب بوضعه الخاص كممثل للماركسيين اليهود. وعندما شن قيصر روسيا حملة ضد عناصر ثورة 1905 ـ 1907 هاجر عدد كبير من يهود (البوند) خارج روسيا ، منهم: ويزمان ، وبن غوريون ، وموشي شاريت(40).
وعندما انتصرت الثورة البلشفية 1917 قدمت لليهود حلولاً ضمن المجتمع الروسي ليغادروا الطور القبلي فقدمت لهم الأرض والأمن وفرص العمل والإنتاج ، ولكنهم رفضوا هذه الفرصة ، وحافظوا على عنصريتهم إلى أن واتتهم فرصة الهجرة إلى فلسطين المحتلة عندما تسلم غور باتشوف السلطة في الاتحاد السوفيتي عام 1985.
أما المنظمة الثانية فهي التي نشأت في بال في سويسرا عام 1897 ، وتحالفت مع القوى الاستعمارية في أوربا. وحددت هدفها بانشاء دولة لليهود في فلسطين. وقد انضم إليها فيما بعد يهود (البوند) وساهموا في برنامج الحركة الصهيونية. وتم لهم احتلال فلسطين عام 1948 بفضل الخدمات والتسهيلات التي قدمتها لهم بريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين. أن دور بريطانيا جاء تنفيذاً لتوصية حزب المحافظين عام 1905ـ 1907 الذي عقد مؤتمره في تلك المدة برئاسة بالمرستون وأوصى بإقامة حاجز بشري وقريب على الجسر البري الذي يربط أوربا بالعالم القديم ، ويربطها معاً بالبحر المتوسط ، بحيث تشكل هذه المنطقة قوة معادية للعرب على مقربة من قناة السويس ، وصديقة للدول الأوربية وتنفذ مصالحها في منطقة الشرق الأوسط.
ويلخص الدكتور عصمت سيف الدولة نوايا بريطانيا كما وردت في كتاب صدر عام 1937 في فرنسا تحت عنوان "الله اكبر" ، وتضمن تقريراً مقدماً إلى أحد قادة الحركة الصهيونية في النمسا هو الدكتور (فولفجانج فايست) يقول فيه: "إن خلاصة الأسباب الجدية للكفاح من أجل الأرض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة ، فلو عادت فلسطين إلى دولة عربية موحدة تضم مصر لكانت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قناة السويس والطريق إلى الهند. أما إذا ظلت فلسطين مستقلة أو أصبحت دولة يهودية فإنها ستقوم عقبة في سبيل انشاء هذه الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين ـ إن دولة صغيرة حاجزة تقوم على مئة ألف كم2 على ضفتي نهر الأردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية أخرى ، إن توازن القوى حول قناة السويس ويتوقف على استقلال فلسطين عن العالم العربي ، ويتوقف على دولة فلسطين التي يجب أن تكون مثل سويسرا عند ملتقى القارات الثلاث(41).
ــــــــــــــــ
40 المصدر نفسه ، ص31.
41 المصدر نفسه ، ص36.
إن خوف الغرب بعامة وبريطانيا بخاصة من الوحدة العربية خوف قديم يعود إلى عام 1840 عندما شاركت مع دول اخرى في حرب ضد مصر (محمد علي باشا) لوقف طموحاته في توحيد بلاد النيل مع بلاد الشام ووقف مسيرة النهضة والتقدم في هذه البلاد.
لقد تلاقت مصالح اليهود الصهاينة والقوى الاستعمارية الغربية وبخاصة بريطانيا والولايات المتحدة في تنفيذ بنود المؤامرة على فلسطين وزرع كيان اغتصابي فيها. ومنذ عام 1948 تحاول الصهيونية من خلال كيانها الاستيطاني أن تصنع أمة من أشتات اليهود وتسعى لاستغلال الفرص في المجالين الدولي والعربي لتحقيق هذه الغاية ، ولكن منطق التاريخ يؤشر صعوبة هذا الحلم ، وحاجته إلى زمن طويل جداً ، إذ أن الولايات المتحدة ما زالت حديثة التكوين ، رغم تزعمها السلطة العالمية من خلال منطق القوة المسلحة والقوة الاقتصادية والإعلامية.
إن اليهود الذين يحسبون أنفسهم على الصف التقدمي أو المتحضر لا يخجلون من تمسكهم بالأساطير التوراتية ، فقد لخص (سارتر) وجهة نظرهم في مجلة "الأزمنة الحديثة" عدد حزيران 1967 بالقول: "إن الثقافة اليهودية التي هي مناط التكوين القوي " للأمة اليهودية " قائمة على عدة أساطير دينية وميتافيزيقية. هذا صحيح ، ولسنا نحتــج
بصحتها العلمية ، وإنما نحتج بالآثار الاجتماعية التي أحدثتها تلك الأساطير في الجماهير اليهودية ، وصاغت بها تكوينها الاجتماعي. فمثلاً تلقى اليهود من الله وعداً بأن تكون لهم ارض فلسطين ، ومنذ ذلك الحين انقضت القرون ، لا ننكر أننا خلالها لم نكن نعيش على أرض فلسطين ، وأن شعباً عربياً هو الذي كان يعيش عليها ، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئاً"(42).
إن هؤلاء لا يعيرون وزناً للصلة المادية بينهم وبين الأرض ، ولكنهم يعيرون وزناً للصلة الروحية بينهم وبين ارض فلسطين ، ويقولون: مهما تكن الأرض عامرة بمن يقيم فيها فإنها خالية بالنسبة إلينا إلى أن نعود إليها نحن أصحابها(43).
ويغالي هؤلاء اليهود بالقول ، أن ارض فلسطين لم تمنح عطائها إلا لهم ، أي لليهود الموعودين بها. وتتلخص نظرتهم للعرب الذين طردوهم من فلسطين بالقول: أن الدول العربية لا تريد أن تقبل المهاجرين من أرضنا في أراضيها الواسعة التي هي في أشد حاجة إلى مزيد من البشر(44).
ـــــــــــــــــــــــــــ
42 نقلاً عن المصدر نفسه ، ص39.
43 المصدر نفسه ، ص40.
44 المصدر نفسه ، ص40.
وهكذا يلتقي اليهود الصهاينة العلمانيون منهم والدينيون على ثوابت معروفة أبرزها: أن اليهود جميع أنحاء العالم يشكلون "أمة " ، والصهيونية " قومية " ، والحركة الصهيونية "حركة قومية" غايتها استرداد أرضها الخاصة من الشعب العربي. ويلتقون جميعاً على أنهم يريدون أرضاً بلا شعب وهذا هو ديدنهم في ذبح وتهجير العرب من قراهم ومدنهم وبالذات من مدينة القدس ، ليجعلوها عاصمة أبدية لكيانهم.
أنهم يرفضون الاعتراف بحدود لكيانهم ، لأنهم يتمسكون بما ورد في وعد الرب لهم وطنك ايها اليهودي من النيل إلى الفرات. كما أنهم يلتقون في عدائهم المطلق للعرب ووقوفهم ضد نهضتهم وتقدمهم ، ويلتقون في هذا الموقف مع قوى الاستعمار الغربي.
بعد هذا الاستعراض التاريخي لولادة الحركة الصهيونية نجد أنها مرتبطة دينياً تمام الارتباط بالتاريخ العام للغرب الأوربي ، وتاريخ الصهيونية جزء من تاريخ الحضارة الغربيـة ، وما صاحبة من ظواهر مرضية مثل معاداة السامية. وعليه فالصهيونية أوربية ثم امتدت إلى الولايات المتحدة ، ولم تنشأ في أفريقيا أو أسيا أو أمريكا اللاتينية. ويُلخص عبد الوهاب المسيري أسباب ظهور الصهيونية بعوامل أوربية أبرزها(45):
1. اخفاق الكنيسة المسيحية الغربية في صياغة رؤية محددة تجاه الأقليات بعامة والجماعات اليهودية بخاصة. واليهود بنظر الكاثوليك هم قتلة المسيح.
2. كما وجد الغرب في اليهود وسيلة لتحقيق مصالحهم ، ولذلك بدأوا التعامل معهم على هذا الأساس ، وليس من أجل حقوق إنسانية.
3. تخوف دول أوربا الغربية من زيادة عدد اليهود ولاسيما بعد هجرة يهود روسيا إلى دول أوربا الغربية. لقد اندمج اليهود في مجتمعات تلك الدول ، وحققوا مكانة عالية ووضعاً اقتصادياً متميزاً. في حين عاش اليهود المهاجرون من روسيا في مناطق حدوديـــــة ،
أو متنازع عليها بين الدول ، وشكلوا حالات قلق للدول الأوربية ، لأنهم لم يتطوروا ولم يملكوا الكفاءة الفنية اللازمة للاندماج في الاقتصاد الأوربي. ولذلك ظل اليهود يعيشون في عزلة ، وغير قادرين على التكيف في تلك المجتمعات. وقد تأثر بعض اليهود بالأوضاع الأوربية ولاسيما بعد الثورة الفرنسية ، وانخرطوا في الحركات الثورية وظهر ما سميّ بـ (اليهودية الاصلاحية) ، التي تخلت عن كثير من أصول اليهودية وثوابتها ، وطرحت نفسها أنها اليهودية الحقيقية. ولذلك سقطت بعض القيادات التقليدية وبرزت بعض القيادات الشابة.
ـــــــــــــــــــــــــ
45 عبد الوهاب المسيري ، مصدر سبق ذكره ، ص52 ـ 53.
وفي هذه الأجواء ظهر الفكر العنصري لليهود ، وقد وجدت الإمبريالية الأوربية ضالتها في اليهود ، ليكونوا وسيلة لها في تحقيق مصالحها والقيام بدور وظيفي(46) ، يخدم الإمبريالية. واستغلت بعض القيادات اليهودية هذه الرغبة الإمبريالية ، وطرحت مشروع إقامة دولة لليهود. مما تقدم إتضح أن الحركة الصهيونية نشأت نتيجة أسباب عدة:
1. ظهور الصهاينة الأوربيين والأمريكان قبل ظهور الحركة الصهيونية اليهودية عام 1897 ، بسبب ظهور المذهب البروتستانتي في أوربا وإنتقاله إلى أمريكا مع المهاجرين الأوربيين ، وإعتماد هذا المذهب على الكتاب المقدس (العهد القديم) حرفياً ، وإيمانهم أن عودة المسيح ثانية ، لا تتم إلا إذا قامت دولة لليهود في فلسطين.
2. تمحور اليهود على أنفسهم في (غيتوات) ، رافضين الاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها ، أو عدم قدرتهم على الاندماج ، بسبب تخلفهم الثقافي عن المجتمعات الأوربية الغربية ، وبالذات يهود روسيا الذين هاجروا منها عقب اغتيال قيصر روسيا عام 1881م.
3. إضافة إلى الالتزام الديني من قبل الأوربيين والأمريكيين لليهود ، فإن مصالح الدول الغربية ، تقضي الوقوف دون قيام وحدة عربية ، بوضع حاجز بشري يفصل بين أسيا العربية وأفريقيا العربية.
4. إمكانية اليهود المالية ، التي مّولت الملوك والأمراء في أوربا ، وأشبعت رغباتهم ونزعاتهم الشخصية في الملك والتسلط ، مقابل تلبية مطلبهم في إقامة دولة لهم في أي مكان في العالم ، تحول فيما بعد ـ بفعل الرغبة البريطانية ـ إلى فلسطين.
5. الحقيقة الأساسية هي أن التزام الغرب الديني لليهود ، سبق استخدام اليهود لتحقيق مصالحهم المادية الأخرى ، فقد تشكلت الصهيونية في الغرب ، الداعية إلى إنشاء "وطن قومي لليهودي " ، قبل قيام الدعوات اليهودية لهذه الفكرة وقبل قيام الحركة اليهودية الصهيونية نفسها. وهذا العامل هو الذي منح اليهود القوة والإمكانات المادية لإنشاء كيانهم في فلسطين عام 1948 ، وهو الذي جعل الكيان الصهيوني يتجاوز تصرفاته الإرهابية ، القوانين الدولية ، ويتمرد على إرادة المجتمع الدولي.
ــــــــــــــــــــــــ
46 يقصد المسيري بالوظيفة ، هي الجماعة القادرة على أداء وظائف لا يستطيع أعضاء الجماعة الوطنية القيام بها مثل:
(البغاء ، الربا ، القتال ، التجسس).
4- الصهيونية من فكرة ودعوة إلى برنامج وخطط وأهداف
تطورت الصهيونية من فكرة وضعها رواد الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر إلى برنامج منظم يضعه اساطين الصهاينة في مؤتمرات دورية يدرسون خلالها الخطط والبرامج التي تسعى إلى تحقيق المنطلقات الأساسية والاستراتيجية التي وضعها أول مؤتمر صهيوني عقد في بازل السوسرية 1897م بزعامة تيودور هرتزل. وتقوم الفلسفة الصهيونية على أن اليهود شعب الله المختار ، ومن هذا الشعار فإنهم يعتبرون أنفسهم مميزين عن باقي البشر، وبأن روحهم جزء من الله ، أما الأرواح الأخرى فهي أرواح شيطانية شبيهة بأرواح الحيوانات(47). كما تقوم فلسفتهم على أن فلسطين هي الهدف الاساسي لليهود ، ومنها يبدأون تنفيذ مخططهم في إقامة (وطن قومي) كبير من النيل إلى الفرات ، كما يعتقدون ويؤمنون بما ورد في التوراة. وكذلك يعتقدون أن اليهود في العالم يشكلون شعباً ينتمي إلى أصل واحد ، وهو ما فندته وقائع التاريخ ـ الأنف ذكرها ـ
استثمر بعض اليهود المثقفين الأوضاع المؤيدة لهم في أوربا ، وتجاوبوا مع طموحات ورغبات زعماء أوربا في السيطرة على بلدان الشرق التي تشكل حلقة وصل بين قارتي أسيا وأفريقيا ، وبين أوربا ، إضافة إلى الخيرات التي تختزنها أرضها. وما أن بدأت هجرة اليهود الروس إلى أوربا الشرقية ، أخذت بريطانيا تسهل هجرة بعضهم إلى فلسطين 1882.
يعد اليهودي (ناتان بيرنباوم) هو أول من استل لفظة (صهيون) من إشارات التوراة عام 1885 ، ونحت منها مصطلح الصهيونية ، الذي أصبح إسم الحركة السياسية التي تبنت
إقامة المشروع الصهيوني الاستيطاني. وأكمل عدد من اليهود فكرة المشروع الصهيوني أمثال (هيرش) و (ليوبنسكر) إلى أن جاء (هرتزل) الأكثر ديناميكية فدعا إلى عقد المؤتمر الصهيوني في 29 آب / أغسطس من عام 1897م في مدينة بازل بسويسرا.
لقد وجد اليهود الذين بشروا بفكرة المشروع الاستيطاني الأجواء مهيئة في أوربا ، ولا سيما عند المسيحيين البروتستانت ، الذين يعتقدون أن فلسطين ليست أرض الفلسطينيين العرب ، وهي أرض خالية بغير شعب ، وأرض يجب أن يعود أهلها إليهـــا.
وعلى هذه الخلفية صار بإمكان دعاة اليهود أن يسندوا ظهورهم على جدار صلب. وكان هرتزل هو الذي إلتقط الفرصة المؤاتية ، ودعا إلى الاعتماد على الدول الكبرى في إقامة مشروعة ، في حين أن آخرين مثل (بنسكر) دعا إلى الاعتماد على الــــذات ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
47 د. سالم الكسواني ، المركز القانوني لمدينة القدس ، عمان: جمعية عمال المطابع التعاونية ، ص43.
أي الاعتماد على قدرات اليهود لإقامة المشروع. وبالنهاية كانت الغلبة لفكرة هرتزل الذي دمج بين قدرات الدول الكبرى وبين القدرات الذاتية لليهود ، إضافة إلى إستثارة المشاعر الدينية لدى اليهود بالعودة إلى مقولات التوراة وأساطير التلمود.
لقد توافد حوالي 840 يهودياً على بازل من معظم أنحاء العالم ، لحضور المؤتمر الصهيوني الأول ، منهم مفكرون وحكماء وحاخامات ورجال مال ، ومنظمات وجمعيات(48) ، والاتفاق على وضع ميثاق دولي يكون دستوراً للحركة ، وإقرار بروتوكولات حكماء صهيـون ، واتخاذ قرارات مادية تسهل مهمة المشروع الصهيوني ، مثل تأسيس مصرف وشركة للاستيطان في فلسطين.
إن قراءة بروتوكولات حكماء صهيون التي بلغ عددها (24) نصاً تؤشر المبادئ والمنطلقات الأساسية والإستراتيجية للحركة الصهيونية السياسية التي تستند إلى عقيدة دينية خاصة.
1ـ المبادئ الأساسية المستوحاة من أسفار التوراة.
أ ـ الحق لمن يملك القوة.
ب ـ حقوق الشعوب أسطورة يجب طمسها لان الشعوب حيوانات تتصارع من أجل
شرب دماء البشر.
جـ ـ سلطة رأس المال هي الأقوى.
د ـ الغاية تبرر الوسيلة.
إن هذه المبادئ المستوحاة من أسفار العهد القديم ومن كتاب (الدولة اليهودية) لهرتزل إذ قال: أننا سنصبح سداً متقدماً للحضارة اليهودية والمسيحية ضد بربرية الشرق وهذه هي العنصرية وهي الشر الدائم وأفكار الأخر.
2- المبادئ الاستراتيجية التي وضعها زعماء الصهاينة في مؤتمرهم الأول 0
أ - إنشاء حكومة عالمية مركزية وان صار تحقيقها صعبا فإنشاء دولة يهودية في
فلسطين 0
ب- السيطرة على مصادر صنع القرار السياسي في الدول 0
ج- نسف الاديان او تشويه صورتها وتشجيع الصراعات الدينية 0
د- زرع الفوضى في الدول وتشجيع الفتن بين الأديان والطوائف والقوميات ومد الفتن
والمكائد والمؤامرات بأسباب القوة لإضعاف سلطة الدول والحط من النزوع القومي
لدى الشعوب 0
ـــــــــــــــــــــــــ
48 لمزيد من التفصيلات حول المؤتمر يمكن العودة إلى: خالد رشيد الشيخلي ، جذور الصراع العربي ـ الصهيوني
ـ دور الاعلام ـ ، بغداد: مطبعة الرشاد ، 1990 ، ص108 وما بعدها.
هـ تفكيك رابطة الأسرة من خلال أغراء الشباب بكل مسببات النزوع نحو العنف
والجريمة والانحراف الأخلاقي ( الجنس والمخدرات ).
3- البرنامج العملي لتحقيق المشروع الصهيوني.
أ - السيطرة على القرار السياسي من خلال انخراط اليهود في الأحزاب اليسارية الماركسية والأحزاب الليبرالية والجمعيات والنوادي مثل (الماسونية)0 وقد تمكنت خلال قرن من الزمن النفاذ إلى الأحزاب الشيوعية والأحزاب الليبرالية والحركة الماسونية. وبفعل هذا النفوذ تمكنت من نيل عطف الدول في الشرق والغرب ، فنالت وعد بلفور من بريطانيا 1917، والاعتراف الأول (بدولتها) من الاتحاد السوفيتي السابق عام1948. ومازال نفوذ اليهود بارزا في الأحزاب الليبرالية في الغرب ، إضافة إلى التغلغل في المؤسسات التشريعية والتنفيذية في هذه الدول وقد وصل عدد من اليهود إلى مراتب عليا في بريطانيا مثل (دزرائيلي) رئيس وزراء ، و(هربرت صموئيل) وزير أول ، مندوب سامي في فلسطين. وفي الولايات المتحدة مثل : ( آل غور ) نائب الرئيس كلنتون و(مادلين اولبرايت ) وزيرة الخارجية السابقة وغيرهما.
ب- الهيمنة على مفاتيح الاقتصاد العالمي ، الصناعة والتجارة واسواق المال والمصارف من خلال اليهود الاثرياء أمثال (عائلة روتشيلد) في بريطانيا التي سهلت هجرة اليهود من أوربا إلى فلسطين 0
جـ- السيطرة على وسائل الأعلام المرئية والمسموعة والمقروئة من خلال الإعلاميين والمثقفين اليهود وأصحاب رؤوس الأموال أمثال ( مرودخ ) الذي بنى إمبراطورية إعلامية في بريطانيا واستراليا أو غيره في أنحاء أخرى من العالم 0
د – السيطرة على بيوتات الفن والأدب للترويج للأفكار اليهودية والحط من أفكار وقيم الاديان الاخرى ، وبخاصة الاسلام. وتم ابتكار الجوائز العالمية مثل جائزة (نوبل) ، وبناء مؤسسات فنية متكاملة او المساهمة فيها مثل ( والت ديزني ) وابتكار طقوس فنية مغرية مثل مسابقة جمال العالم أو الكون ، والهيمنة على الإنتاج الفني السينمائي والتلفازي من خلال (هوليود) 0
هـ – انشاء فروع للحركة الصهيونية والمنظمة اليهودية العالمية وصناديق المال ، الجمعيات والهيئات ذات الطابع الخيري ، التي تقوم بجمع التبرعات لكيان الصهاينة أو الدفاع عن الحركة الصهيونية في وسائل الأعلام والمحافل الاجتماعية وغيرها.
5: اليهودية والصهيونية.
تمكنت الحركة الصهيونية أن تستقطب اليهود بعامة إلى جانب مبادئها وأهدافها ، واستغلت كل نفوذ اليهود في العالم مادياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً للتأثير في صانعي القرار في دول أوربا ، حتى تمكنت من إقامة دولة لها في فلسطين. وقد شكل اليهود الصهاينة العديد من الأحزاب العلمانية والدينية لعبت دوراً كبيراً في إدارة سياسية الدولة خلال المدة من 1948 وحتى الآن.
لقد لعبت أحزاب (الماباي) الذي تزعمة (بن غوريون) لمدة طويلة ، و (المابام) وهو حزب ماركسي و (المفدال)(49)، وهو حزب المدينين اليهود ، و(حيروت) وهو حزب اشكنازي خليط من الليبراليين والقوميين العلمانيين المتعصبين لإسرائيل الكبرى ، إضافة إلى اليهود الشرقيين الناقمين على فساد حزب العمل ، لعبت هذه الأحزاب دوراً بارزاً في العقود الثلاثة التي أعقبت 1948 ، إلى أن صعد تجمع (الليكود) 1977 إلى سدة الحكم.
وفي خضم التنافس السياسي المحلي بين (العمل) و (الليكود) ، ظهرت أحزاب جديدة من السفارديم مثل (جيشر) و (شاس) وهو حزب سياسي يميني ديني تمكن من إحراز 17 مقعداً في الكنيست الأخير. وشكل اليهود المهاجرون من الاتحاد السوفيتي السابق حزبين هما (إسرائيل بعالياه) و (إسرائيل بيتنا) ، وبرز على هذه الاحزاب التعصب الديني ، إذ وقفت ضد القوانين المدينة ذات الطابع العلماني.
ووسط تنافس أحزاب اليمين واليسار ، ظهرت تيارات تدعو إلى مرحلة ما بعد الصهيونيـة ، وتيارات تدعو إلى اليهودية المناقضة للصهيونية أو الناقدة لسياسة الكيان الصهيوني فقد ظهر تنظيم ديني باسم (أغودات يسرائيل) عام 1912 ، ونهج هذا التنظيم سياسة خاصة اتسمت بالتحفظ على سياسة الحركة الصهيونية ، ولكن هذا التنظيم عدل من موقفه فيما بعد ولم يجد حرجاً من التعاون مع الحركة ، وأدى الموقف الجديد " اللين"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
49 يعود أصل (المفدال) إلى تأثير الحركة الصهيونية في أوربا على بعض اليهود المتدينين ، وحملهم على الانضمــام
للحركة ، وقد شكلوا حركة (مزراحي) العالمية المتدينة 1902 ، وبعد التحاقها بالحركة الصهيونية ، أنشأت لها فرعاً
في "إسرائيل تحت أسم الحزب الديني القومي (المفدال) الذي شارك فـي معظم الحكومات الصهيونية.
إلى انقسامه عام 1935، وظهر تنظيم جديد عام 1938أكثر تطرفاً باسم (ناطوري كارتا)(50). كما رفض سيطرة إسرائيل "على القدس" ، ورفض أعضاءه استلام بطاقات الهوية الشخصية الصادرة من الحكومة ، ولم يشاركوا في انتخابات الكنيست. ويأتي رفض تنظيم (كارتا) للصهيونية ، بسبب إقامة دولة يهودية في فلسطين من خلال قوى بشرية، وليس بناء على وعد الرب لليهود ، أي أن الدولة بنظره تقوم عندما يقوم المسيح ثانية ، وهذه القيامة تعد بشارة على قيام دولة اليهود. ويرى انصار هذا التنظيم أن القيامة الثانية للمسيح تأتي مع اقتراب نهاية العالم. ولكن إقامة دولة بأدوات بشرية تعتمد القوة ، إنما هو نوع من الضغط على المسيح وأجباره على الظهور قبل أوانه ، ويُعد هذا تدخلاً في مشيئة الله ، والتسريع في نهاية العالم قبل الموعد المحدد. ومهما اختلفت الآراء حول الوسائل والأساليب المتبعة لإنشاء دولة لليهود في فلسطين ، فإن الهدف واحد بين القوى والتيارات اليسارية العلمانية وبين اليمينية الدينية. فهو هدف عدواني استعماري يسلب حق شعب آمن ، ويشرده من أرضه.
وقد أوضح الأدب السياسي الفرق بين (الأصولية اليهودية) وبين (اليهودية السياسية ) ، التي تلتقي تماما مع الصهيونية. أما الأصولية اليهودية فإنها تختلف عن الحركة الصهيونية، من حيث النشأة التاريخية ومبررات الوجود ، ووسائل تحقيق الأحلام والأهداف. وقد تباينت الأصولية اليهودية بين معارض للصهيونية ، وبين مؤيد لها. وقد أوجد المؤيدون جناحا لهم داخل الحركة الصهيونية منذ عام 1902 تحت أسم (مزراحي) ، وهو الاتجاه الذي لديه نزعة توفيقية ما بين اليهودية والصهيونية. أما المعارضون للصهيونية فقد أسسو منظمة معارضة عام1912تحت اسم(أغودات أسرائيل)(51).
وقد أنشأت حركة (مزراحي) عام 1918 فرعا لها في فلسطين ، ومارست نشاطات دينية ودنيوية ذات صلة بإهداف المشروع الصهيوني الاستيطاني ، وبالذات في تهجير اليهود إلى فلسطين وإقامة المستوطنات فيها . أما الاتجاه اليهودي المعارض للصهيونية ، فانهم يعتبرون الفريق الأول من الأصوليين اليهود ، متآمرين على التوراة ، وقد عبر مؤسس الاتجاه المعارض الحاخام (حاييم هاليفي) عن موقف جماعته بالقول : " على شعب إسرائيل ان لا ينضم إلى مغامرة تهدد بتدمير الدين" (52).
ـــــــــــــ
50 تعني (ناطوري كارتا) حراس المدينة ، وهي كلمة آرامية ، وأعضاء هذا التنظيم مجموعة صغيـر يعيشون في حي
(ميئاه شعاريم) في مدينة القدس ، وفي بلدة (براك) القريبة من تل أبيب ، أضافة إلى مجموعات أخرى تعيــــش
في نيويورك وبريطانيا.
51د. أسعد رزوق ، نظرة في أحزاب إسرائيل (بيروت: مركز أبحاث م.ت.ف ، 1966) ، ص52.
52 عزمي بشارة ، دوارة الدين والدولة في إسرائيل ، مجلة الدراسات الفلسطينية ، قبرص ، العدد الثالث ، آذار 1990 ، ص28
نقلاً عن نديم عيسى ، في ندوة المجمع العلمي العراقي ، ص10.
وقد وجدت المنظمة المعارضة (أغوات أسرائيل) "أن الصهيونية تمثل خطرا على الدين اليهودي ، لانها ستحول اليهود من جماعة دينية إلى جماعة قومية . وقد حذر الحاخام (غور) من الصهيونية بقوله : " على اليهودي أل ينضم إلى الاشرار أولئك هم الصهاينة "(53)
وتنطلق مجموعة أغودات من أيمانها بان تأسيس دولة قومية في فلسطين تتنافى مع العقائد المتعلقة بانتظار عودة المسيح . ويعبر (جي نوبرغر) رئيس منظمة الشباب في حركـــة
(أغودات أسرائيل) في الولايات المتحدة في بحث له ألقاه في ندوة حول " الصهيونية حركة عنصرية" عقدت في طرابلس للفترة من 24-28 تموز 1976 ، عن الخلط بين اليهودية والصهيونية بقوله " من الذي إختارنا من بين الشعوب كلها وأعطانا التوراة ؟ فالشعب مختار بمعنى ان الله إختاره ليعطيه ولكنه لم يختاره للسيطرة على الشعوب الأخرى أو للغزو أو للحرب بل لخدمة الله وبالتالي للبشرية ".
ويوضح (نوبرغر) مهمة اليهود أكثر بقوله : " المهمة التي أنتدب لها اليهود أو أختيروا لها لا تقوم على التفوق العسكري أو الإنجازات الفنية التكتيكية بل على الكمال في السلوك الاخلاقي والصفاء الروحي. وتنقل (روت بلاو) عن (حاييم سولوفيشك) حاخام برسكر 1853ـ 1918 قوله: "إن الصهيونية تريد دولة يهودية ، ليس لأنها تهتم بالدين كما قد يبدو، ولكن لأنها ترى في الدولة اليهودية الوسيلة العملية من أجل تحقيق أهدافها ، وخرق العهد الذي أعطاه سيدنا موسى على جبل سيناء وتحويل أمة متدينة إلى أمة لا دينية ، وعلى هذا تمثل الصهيونية الانحراف الجماعي للأمة اليهودية"(54)
ويتضح أن الحركة الصهيونية إنما تهدف إلى استئصال اليهود من مجتمعاتهم وبهذا حل ولائهم من الولاء إلى الرب إلى الولاء إلى الدولة (55) . ظلت منظمة (أغودات) مناهضة للصهيونية حتى آيار 1948 . ويرى المعارضون من اليهود للصهيونية أن إدعاء تطابق الصهيونية واليهودية قد أثبت أنه واحد من اكثر وسائل الدعاية التي إستغلتها الحركة الصهيونية ، وكان من نتائجه تعميم انطباع خاطئ مفاده أن الصهيونية السياسية هي من لب اليهودية وجوهرها (56) .
وفي هذه الأجواء ظهر تيار جديد هو تيار ((ما بعد الصهيونية)) من قبل عدد من أساتذة الجامعات بعد أن تكشفت أمامهم معلومات مثيرة حول سياسة الحكومة تجاه اليهود الشرقيين ، ومعاداة الفلسطينيين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
53 عزمي بشارة ، مصدر سبق ذكره ، ص129.
54 روت بلاو ، يهود ـ لا صهاينة ، ترجمة: زكي حسن نسيبه ، بيروت: دار الكلمة ، 1981 ، ص 5 ـ 6.
55 الصهيونية حركة عنصرية ، مؤتمر طرابلس حول الصهيونية ، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر.
56 غاري ف ، سميث ، الصهيونية السياسية ، انتقادات يهودية ، في ندوة طرابلس حول الصهيونية والعنصرية
1976 ، ص215.
ويرى أصحاب هذا التيار ضرورة الكشف عن الأخطاء التي وقعت فيها الصهيونية والاعتراف بها ، ويدعو هذا التيار الحكومة إلى إعادة بناء المجتمع الإسرائيلي على أسس أكثر عقلانية باتباع مراجعة نقدية لمسار الحركة الصهيونية والقيادة الإسرائيلية. ودعا إلى البحث في الفترة التي سبقت قيام الدولة في خلق مأساة اللاجئين الفلسطينيين والمذابح التي اقترفتها بحق الفلسطينيين في اللد والرملة وفي قرية الطنطورة.
إن تيار ما بعد الصهيونية عرف بالاكاديمية ، وما زال بعيداً عن التأثير السياسي المباشر ، ولم يتبلور تيار سياسي أو حركة سياسية مؤثرة. ولكن هذا التيار أثار قضايا في غاية الحساسية ، ذات إسقاطات بعيدة المدى على العلاقات اليهودية ـ اليهودية وعلى العلاقات اليهودية ـ الفلسطينية في الحاضر وفي المستقبل(57).
ــــــــــــــــــــــ
57 د. إبراهيم الدقاق ، إسرائيل في العــام 2000: الخلفية والأداء ، المستقبل العربي ،
العدد 264 ، شباط / فبراير 2001 ، ص28ـ29.
خلاصــة :
1- أكدت الوقائع التاريخية ان لا صلة لليهود بإبراهيم ، لانه عاش قبل موسى بمئات السنين. فإبراهيم ظهر في القرن التاسع عشر قبل الميلاد حسب ما أكدته الاكتشافات الاثارية ، ولم يظهر اليهود إلا في عهد التبي موسى في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ولو كان يهود في زمن إبراهيم فهذا يعني أنهم سبقوا يعقوب الذي هو إسرائيل ، وعندئذ لا يمكن أن تكون كلمة يهود مرادفة لنبي إسرائيل(58).
2- اليهود عاشوا منعزلين متنقلين في البادية ، لم يؤسسوا حضارة يشار إليها ، بل استفادو كثيرا من حضارات العرب في العراق وبلاد الشام.
أن اليهود لم يبنوا حضارة في هذه البلاد (فلسطين) ، كما أشارت شهادات عدد من الكتاب والمؤرخين الغربيين واليهود بخاصة. وقد وصف يعقوب حفيد إبراهيم أهله بالتائهين كما ورد في (سفر التثنية ، 26/5). كما أنهم استفادوا من حضارة الكنعانيين في حياتهم اليومية ، وأبرز دليل على ذلك هو أن الملك سليمان استعان بمهندسين من الكنعانيين لبناء هيكله. ولو كان اليهود أصحاب حضارة كما يدعي الصهاينة الغربيين من أتباع المذهب البروتستانتي ، لما استعان اليهود بأهل فلسطين في معظم تفاصيل حياتهم.
3- ان التوراة المتداولة الان ، ليست هي الصحائف التي انزلها الله على موسى بل هي من صنع حاخامات وأحبار اليهود اثناء الاسر البابلي ، وفيها من الديانات المعاصرة لذاك التاريخ ، وطقوس الشعوب – انذاك – الشيء الكثير 0 فهي ديانة قبيلة متمردة معزولة ، تكره الاخر ، وأختار (الاحبار) إلها لهم ( يهوه) يلائم طبيعتهم الشريرة ، ونسبوا له الوعود وكل الصفات الشريرة. ويؤكد الدكتور أحمد سوسه أن أسفار التوراة كتبها الأحبار اليهود بلغات مختلفة , خلال فترات متقطعة وفي مواطن متعددة ، استغرقت حوالي 200 ـ 1000 سنة ، أي من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي. وقد دون معظمها في الأسر البابلي في القرن السادس قبل الميلاد ، وأعيد تنقيحها بعد الأسر ، أي في العهد الأخميني 539 ـ 331 قبل الميلاد(59).
إن الدراسة الموضوعية لاسفار التوراة تؤكد التشابه بينها وبين المعتقدات الدينية في الحضارات القديمة في وادي الرافدين وفي حضارة مصر ، ومنها قصة الخليقة ، والبعث والقيامة ، وقصة آدم وحواء وقصة الفردوس ، وقصة هابيل وقابيــــــل ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
58 لمزيد من التفصيلات أنظر: د. أحمد سوسة ، ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق ، بيروت: المؤسسة
العربية للدراسات والنشر ، 2001م ، ص19 وما بعدها.
59 د. أحمد سوسه ، العرب واليهود في التاريخ ، مصدر سبق ذكره ، ص408.
وقصة طوفان نوح ، وقصة يوسف. وقد استفاد أحبار اليهود من المعتقدات الدينية لحضارات البابليين والسومريين والمصريين ، وأضافوا من هذه المعتقدات إلى ما كانوا يحفظونه من الموروث الديني اليهودي ، في كتابة الأسفار ، بهدف وضع تاريخ لليهود(60).
4- الحركة الصهيونية وليدة البيئة الأوربية الاستعمارية ، والمعتقدات المسيحية البروتستانتية واستغلت كل الموروث في التوراة، لاستشاره مشاعر يهود العالم ، وجمعهم وتكوين قوميتهم أساسها الدين ، والعمل على تنفيذ وعد الرب (يهوه) بإقامة وطن لهم في فلسطين.
5- الصهيونية التي قامت على أساطير مخترعة باسم الرب ، قامت على أوهام وأباطيل لا يمكن ان تبني حضارة كما أدعى زعمائها الأوائل ، ولا تستطيع البقاء وسط العرب أصحاب الحضارة العريقة.
ـــــــــــــــــــــــ
60 لمزيد من التفصيلات أنظر ، المصدر نفسه ، ص417 ـ 455.
المصادر:
1. القرآن الكريــــم.
2. التوراة ـ العهد القديم.
3. د. أحمد سوسة ، العرب واليهود في التاريخ ، بغداد: وزارة الاعلام ، 1981.
4. د. أحمد سوسه ، ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2001م.
5. د. إبراهيم الدقاق ، إسرائيل في العالم 2000، الخليفة والاداء ، المستقبل العربي ، العدد ، 264 ، شباط 2001م.
6. د. أسعد رزوق ، نظرة في أحزاب إسرائيل ، بيروت: مركز أبحاث منظمة التحرير ، 1966.
7. جواد علي ، تاريخ العرب قبل الإسلام ، ج6.
8. خالد رشيد الشيخلي ، جذور الصراع العربي الصهيوني ، بغداد: مطبعة الرشاد 1990.
9. د. سالم الكسواني ، المركز القانوني لمدينة القدس ، عمان: جمعية عمال المطابع التعاونية ، 1977.
10. شفيق مقار ، المسيحية والتوراة ، لندن: دار رياض الريس ، 1992.
11. روت بلاو ، يهود ـ لا صهاينة ، ترجمة: زكي حسن نسيبه ، بيروت: دار الكلمة ، 1981.
12. د. عبد الوهاب المسيري ، اليهودية ـ الصهيونية وإسرائيل ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1975.
13. د. عصمت سيف الدولة ، مشكلة فلسطين من وجهة نظر قومية ، القاهرة: دار الموقف العربي ، 1991.
14. د. عبد الله سلوم السامرائي ، اليهود في القرآن الكريم ، في ، ندوة المجمع العلمي العراقي ، الصهيونية.. الواقع والمواجهة ، 1995.
15. غاري ف. سميث ، الصهيونية السياسية ، انتقادات يهودية ، في مؤتمر طرابلس حول الصهيونية العنصرية ، 1976.
16. كلاوز ج. هيرمان ، أضواء تاريخية على الصهيونية السياسية واللاسامية ، في مؤتمر طرابلس ، حول الصهيونية والعنصرية ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1979.
17. ميخائيل سليمان ، فلسطين والفلسطينيون في العقل الأمريكي ، المستقبل العربي ، العدد 203 ، كانون الثاني 1996.
18. د. محسن عبد الحميد ، موقف الصهيونية من الإسلام ، في ندوة المجمع العلمي العراقي 1995.
19. محمد أديب العامري ، القدس العربية ، الحقائق التاريخية تجاه المزاعم الصهيونية ، عمان: دار الطباعة والنشر ، 1971.
20. د. نديم عيسى ، الحركة الصهيونية والأصولية اليهودية ، في ندوة المجمع العلمي العراقي ، 1995.
التعليقات (0)