يجب الاعتراف أولا ، بأن ثقافة الانغلاق والانعزال والتقوقع التي مورست علينا ، وفرضت بأساليب شتى ، قد أتت أكلها وأثمرت أنواعا من الثمار الفاسدة التي باتت تنخر في عقول وأفكار كثير منا ..
وتلك سمة عامة شائعة ، تكاد تتجذر فينا نتيجة الانكسارات السياسية والثقافية التي عصفت بنا في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية ، رغم وجود ثقوب في ذلك الجدار الأسود ..
فقد مورست تلك الثقافة بشكل مقصود من قبل أصحاب الفكر الانعزالي والإقليمي المعادي للقومية العربية وأفكارها ، التي نشطت مع نشوء الأحزاب القومية وتياراتها ، والتي مهد لها كثير من المفكرين القوميين العرب ، فردّوا بذلك على محاولاتٍ متنوعةٍ لطمس الهوية والقومية العربية ..
كما مارستها بعض الأنظمة السياسية العربية في مراحلها المختلفة ، كاستجابةٍ للضغوط الخارجية حينا ، ولتيارات انعزالية حينا آخر ..
لقد صارت القومية تهمة وعارا يخجل البعض من " اتهامهم " بها ، أو توصيفهم بأنهم " من ذوي الفكر الوحدوي أو القومي " ..
فتبرأ ـ يوما ـ أحد الزعماء العرب منها ، وسمى نفسه : " ملك ملوك إفريقية " ..
وسمعت وشاهدت رئيس دولة عربية شقيقة آخر ، يتحدث عن القومية العربية بأكثر من " التخلف والتسفيه والسطحية والاندثار " ، وكاد يتهمها بالعنصرية ، قبل أن يهزأ من القوميين " إن وجدوا " ، وسماهم : " القومجيين " ..
ويومها سألت ـ غيابيا طبعا ـ الرئيس المحترم :
لماذا تتمسك بقوميتك حتى النخاع ، وتستنكر وجود وتفاعل القومية العربية التي لولاها لكانت أحوال سيادتك بالذات مختلفة عما هي عليه الآن ؟؟ ..
" ونشرت يومها مقالا عن ذلك بعنوان : القومجيون ليسوا قوميين أساسا ..
ولا أريد أن أطلق توصيفا الآن على ذاك الموقف " الرئاسي " من القومية العربية ، لكن أقول :
إن الوقائع الكثيرة التي استفاد منها سيدنا الرئيس الذي نحترم ، ما كان بالإمكان حصوله عليها لو لم تكن القومية العربية حقيقة حية خالدة تتمتع بأعلى قدر من الإنسانية والسمو ..
إن وجود القومية العربية الحقيقي كفكر وسلوك وممارسة في قلوب وعقول الملايين المؤمنين والمتمسكين بها هي الضمانة الفعلية للوجود العربي الحقيقي ، وقد شكل سدا منيعا في وجه كل المحاولات التي تنال منها على أنها ـ في أبسط الأحوال ـ : أفكار " أكل الدهر عليها وشرب " ..
كما تصدى الفكر القومي لدعوات إقليمية تحت مسميات مختلفة ، استهدفت كيان القومية ، وعملت على التبرؤ منه بادعاءات لا تثبت أمام التقصي التاريخي الصحيح ، وذلك في عدد من الأقطار العربية ، وهي دعوات تحمل في طياتها بذور انكفائها ، كونها لا تقوم على الأسس الموضوعية التي تقوم عليها الفكرة والمشروع القوميين العربيين ، القائمين على تلاقي وتلاقح جميع الأفكار والرؤى القومية اللاعنصرية ، تحت سقف الحوار البناء والتعايش السلمي والأخوي ، بعيدا عن أي تعصب ، ومن أي نوع كان ..
إن كل ما في الأمر ، أن الكثيرين يمارسون " قناعاتهم " مفصلة على أجساد غيرهم ..
وباستعارةٍ لما يقوله الأشقاء اللبنانيون :
" فإن جسم الآخرين لبِّيس ، وبيلبقلو " بينما ليس كذلك جسم الأمة العربية ..
لأنه : لا يمكن أن يتحول الصهاينة إلى دولة يهودية ، كأمر واقع ، إذا لم يمسخوا ويمسحوا القومية العربية من أي مكان توجد فيه ، وحتى من الأرحام ...
وللوهلة الأولى ، قد يبدو هذا الكلام غير مقبول ، للتباعد بين الفكرتين : القومية والدينية ..
فالدعوة الصهيونية هي عنصرية المنشأ والمشروع والمنتهى ، وهي لا يمكن أن تقوم على الفكرة الدينية اليهودية إلا بمقدار ما تهدف إليه :
1 ـ مسح الوجود المسيحي والإسلامي من القدس التاريخية وما حولها ..
2 ـ مسح وتصفية الوجود العربي من كل فلسطين ..
3 ـ استقطاب المهاجرين من أنحاء العالم ، وبناء المستوطنات السرطانية على حساب الأرض العربية ومواطنيها الأصليين ..
وهذا هو سر الدعوة لقيام الدولة " الصهيونية اليهودية " ، وهو في نفس الوقت ، ما تأباه القومية العربية وترفضه أساسا ومنطلقا ونتيجة .. لأنه يؤسس أيضا ـ وبمكر شديد ـ للإمعان في التشظي الإثني العربي على المدى المنظور وما وراءه ..
والدعوة الصهيونية إلى هذا الكيان اليهودي ، ليس حبا " باليهودية " بمقدار ما هو تعصب " للصهيونية " ، كون النسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي الصهيوني ليس مؤلفا من اليهود فقط ، وإلا ، لفقد الصهاينة دعم أمريكا والغرب المسيحيين ..
والدعوة الصهيونية على النقيض من الفكرة القومية التي تجمع العرب ودولهم أينما كانوا وكيفما كانوا ، ولو في حدها الأدنى ، في حين الدعوة " ليهودية الكيان الصهيوني " استهدفت اغتصاب أراضي الفلسطينيين ، وعدم الاعتراف بحقوقهم ، بعد أن شردتهم بالتواطؤ مع الإنجليز ، ثم الأمريكيين ، وترفض الآن مجرد الحديث عن حق عودة ذلك الشعب المشرد إلى وطنه وأرضه رغم عشرات القرارات الأممية المؤيدة لذلك الحق ..
وهذا الاختلاف ، ينسحب على كل أنواع السياسة التي أحصينا جانبا منها في مقالين سابقين : " شكلا ومضمونا " ، ولا يتوقف عند حالة جزئية هنا ، وأخرى هناك ..
وإن كان البعض ساعيا في " المشروع التهويدي " عن جهل أو تجاهل ، فذلك يؤشر إلى أنهم جادون لإيصالنا إلى مرحلة شديدة القتامة ، ما تزال تنتظرنا لتجتث أصولنا وانتماءاتنا ، وإلحاقها بمشروع بدأت ملامحه تتوضح من خلال الزحف " المقدس " للقرارات الأممية اللحظية واليومية المتلاحقة ، طالت البشر والحجر وهوامّ الأرض ، لشرذمتها وتفتيتها وتقويض مقومات وجودها ، لصالح التنامي والتعاظم والتمدد الصهيوني في المنطقة ..
فمن تقسيم السودان فعليا ، وتقسيم العراق عمليا ، إلى مشروع تقسيم ليبيا ، واليمن ، فالفتن الطائفية في مصر وسوريا والعراق ولبنان ، وربما في أماكن أخرى لن يتأخر تظهيرها على الساحة ..
ناهيك عن التغلغل الصهيوني المكثف في القرن الإفريقي عموما ، وفي الصومال وباب المندب وأرتيرية وإثيوبية بصورة خاصة وعلنية ، وعلى رؤوس الأشهاد ..
وبصور " موسادية " مستورة أو متسترة أو مغشاة " بغلالة تجميلية محببة " ، في دولٍ عربيةٍ ذاتِ " سيادةٍ ونشيدٍ وعلم " مرصَّع ..
ما أبهجنا بهذه الحال !!
إذ دأبت على إحراقنا بنارها ، كما دأب هؤلاء على المساس بأمننا الوطني بالتواطؤ والعدوان والتحريض والفتنة ، إيمانا منهم بأفول الزمن العربي ، وسيادة الكيان الصهيوني ورعاتها " البقريين " ، الذين قوضوا في هذا القرن فقط ، استقلال دولتين ، وانتهكوا سيادة معظم دول العالم ، وليس باكستان أولها ولا آخرها ..
إن السياسات العالمية " الأمريكية والأوربية " تستهدف حفظ وبقاء وأمن وتفوق وسيادة الصهاينة ، وحمايتها حتى من أحجار شبان تاقت أرواحهم لاستنشاق نسمات أرضهم من خلف السياج الشائك أو العازل ..
ولم تكتف بالحماية فقط ، بل سارعت إلى تأييدها في القتل " دفاعا عن النفس " في حلقة تآمرية جديدة من حلقات الكيل بمكيالين في تعاملها مع القضايا الدولية على أساس " البطة البيضاء والبطة السوداء " ..
وبالتالي : لا يتحقق كل ذلك إلا على حساب وطنيتنا وقوميتنا ووحدتنا وقوتنا وتمسكنا بحقوقنا ، وتفاصيل ذلك لا تخفى على نباهة القراء الكرام ..
فحين يتصدع البنيان ، يصبح كله آيلا للسقوط ..
أللهم .. لالالالالالالالالا شماتة ..
الخميس ـ 19/05/2011
التعليقات (0)