الصنمية السياسية ..ما بين الدخان الأبيض واليوم الأسود
جمال الهنداوي
للأمم- كما للأفراد- مشاكلها..ودورات حياتها ..وعنفوانها وفتوتها وشبابها..ولها ايضاً ازمات منتصف عمر خاصة بها..وسنوات ترهل وتصدع وشيخوخة..وكما الافراد تماماً..لها سنوات ضعف وفناء واندثار.
وبتكثيف وتبسيط -بعيدا جدا عن الإخلال-يفصل المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي بين ثلاثة مركبات تؤلف عالم الفرد والمجتمع ويصفها بـ:”أشياء” و “أشخاص” و”أفكار”.وينظر إلى أن الفرد يمر في مراحل نموه المبكرة بهذه المراحل الثلاث المتلاحقة متعرفاً فيها أولاً على “الأشياء” ثم يتعرف بعدها على “الأشخاص” ثم يتعرف أخيراً على “الأفكار”، وبنفس التعاقب تمر المجتمعات في تطوراتها الحضارية بهذه المراحل.وحين يهرم الفرد يمر بحالة نكوص عقلي وتقهقر فكري فيتراجع وعيه عائداً بتعاقب معكوس ليمر في نفس الطريق الذي سلكه ابتداءًً, وكذلك تفعل الحضارات حين تجتازها الأيام وتشيخ.
والمتمعن في الحالة العضال للاستعصائية المتعتقة والمتصخرة والمستحكمة والتي تضرب بأطناب دول المنطقة والمشكل الكياني الشامل الذي يمسك بتلابيب الأمة في الأساس المنطقي لوجودها, والمتجاوز لكينونة الأنظمة السياسية ليمتد نحو استهداف وجود المجتمع أو ماهية الدولة أو كلاهما, يصل إلى قناعة أكيدة وراسخة آن مجتمعاتنا تمر بمرحلة رجراجة ومتقلقلة مابين مرحلتي الأشياء والأشخاص في حالة نكوص وتراجع من نقطة لم تصل إلى مرحلة الأفكار مطلقاً.
وهذا الإشكال التاريخي ساهم في تشكيل وعي جمعي مأزوم بعقلية ملتبسة أدت إلى الافتقار إلى القدرة على التفريق ما بين المبادئ التي يضعها المجتمع كمثل عليا وما بين الأشخاص أو الرموز الإنسانية التي تجسدها..او العناوين التي تدعي تمثيلها ,وهذا هو الالتباس الأخطر الذي أدى إلى تخليق طبقة من الكهنوت السياسي المتصدي لاحتكار الشعارات التي تؤطر علاقة الأمة بمنتهيات القيم والمطامح العليا.
وهذا التصنيم شكل تاريخنا كتاريخ أفراد بالمطلق وليس تاريخ شعوب ومجتمعات, وربط كل فصوله وتحولاته المفصلية بأسماء الخلفاء والحكام وكرس لافتتان الشعوب بالزعماء الذين نجحوا في تسويق أمجاد وهمية وانتصارات كلامية والترويج للشعارات والأمنيات سبيلاً وأسلوباً للحكم وإعاشة الناس في حمى تفاؤلات زائفة وتعميم خطاب سياسي وإعلامي تسطيحي معتمد على صراخيات لفظية محمومة نظماً ونثراً وخطابة زاعقة ومن خلال" الأناشيد وعبر الحناجر والمنابر والميكروفونات" وكتابة ارتزاقية تملقية للتبشير بالزعيم الملهم الخارق لقوانين الطبيعة والقادر على صنع الأمجاد واجتراح المعجزات والذي سيؤم إخوانه الزعماء العرب في الصلاة في المسجد الأقصى بعد تحريرها,ولكن الكيف والمتى تعتبر هنا من التساؤلات المبنية على سوء ظن وطوية لا تمر بخاطر إلا كل من هو مشكوك في انتماءاته أو ولائه للثوابت العربية العظمى والكفر بالنعمة التي انعم الله بها على هذه الأمة
وهنا لا بد لنا من أن نعود إلى إحدى ومضات بن نبي العبقرية: "عندما يتجسد المثل الأعلى في شخص يظهر خطران أولهما أن جميع أخطاء هذا الشخص تحسب على عاتق المجتمع الذي جسم فيه مثله الأعلى وثانيهما أن جميع انحرافاته يقع وزرها أيضاً على المجتمع، وتظهر إما في صورة تنحية للمثل الأعلى الذي هوى، وإما بالارتداد عندما يعتقد أن تعويض الحرمان يكون باعتناق مثل أعلى جديد دون أن يفطن أحد في كل هذه الحالات إلى أنه حدث استبدال خفي لمشكلة الأفكار بمشكلة الأشخاص."
ولقد أدى هذا الاستبدال أو الإحلال إلى إلحاق أضرار كبيرة بالأفكار والمثل العليا للمجتمع عندما تصدى لتبنيها أشخاص لم يكونوا أهلاً لحملها. أو من خلال إلحاق القيمة أو المثال الأعلى للمجتمع بحكام وزعماء لمجرد تبنيهم خطاب سياسي وإعلامي متماهي مع هذه القيمة أو تلك الفكرة بغض النظر عن السلوكيات والمواقف التي اتخذتها تلك الأنظمة وكان لها وقع تدميري ومأساوي على الأفكار المتبناة ذاتها.
فلقد تم تطوير آليات تواطؤية لا واعية لتنفير وتحفيز إرادة الخضوع والاستكانة الموجودة لدى الناس من خلال ربط أفكار ذات أهمية قصوى لدى الفرد والمجتمع العربي مثل القومية والتحرر والانبعاث العربي والتصدي للقضايا المركزية التي تهم شعوب المنطقة برموز مثل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أو العقيد معمر القذافي ,والآن-وللغرابة-الرئيس البشير بل وحتى صدام حسين, لمجرد استخدام خطاب عالي النبرة ومحمل باستعارات وإيحاءات صدامية ومبشرة بانتصارات موعودة ومؤملة لا تستند إلى أي معطيات واقعية على الأرض .ودون الرجوع أو المرور بالنتائج الكارثية التي ترتبت على الممارسات الخاطئة من قبل تلك العناوين تجاه المطامح الوطنية..وتجريم أي انتقاد يوجه إلى تلك الرموز تحت طائلة التخوين والاجتراء والاعتراض على الثوابت الوطنية والقومية و الخروج على إرادة الأمة والمساس بالمقدسات والرمي بالزندقة السياسية .
فكل هذا التأليه والزعيق والاختزال المنظم للوطن في النظام السياسي الحاكم ومن ثم اختزال هذا النظام السياسي في شخص الحاكم الفرد لم تؤدي الا الى سلسلة من الصدمات التي عانت منها الشعوب العربية ومراكمة للنتائج السلبية التي أحدثتها حالات التجييش العاطفي الممنهج والتي تسببت في هزائم وآلام ونكسات وتراجعات واستلابات للعقل واحتجاز الشعوب في حالات وجد وهمية عبر الترويج لأوهام التقدم والأماني والأحلام وكل التخيلات التي أدت إلى جعل الأمة تبدو اقرب إلى قارب في عاصفة ويعاني من وطأة بوصلة فاقدة للسداد وتشير باستمرار إلى الحاكم كوجهة أحادية ومنفردة للخلاص.
إن طريق الخلاص يبدأ من فصل الأفكار والقيم عن الأشخاص وعدم تحويل ميراثهم وممارساتهم واجتهاداتهم إلى عقيدة سياسية ونموذج لابد أن نحتذيه حذو النعل للنعل ونسير عليه" خطوة بخطوة أو شبرا بشبر وذراعا بذراع "وخصوصا أن الشعوب ما زالت والى اليوم تدفع ثمنا باهظا لامتناع هذه الرموز والزعماء-بالذات- عن إفساح المجال أمام التداول الديمقراطي والسلمي للسلطة والافراط في سياسة قمع جميع أشكال المعارضة بانتظام واغراق وملئ السجون بسجناء الضمير والفكر الآخر ومصادرة الحريات وتقويض حقوق المواطنة .
أن تأليه الحاكم لم يكن بالتأكيد اختراعاً عربياً.ويجب ان نقر بأنه ليس مقتصراً على شعوب المنطقة..ولكن الاستمرارية الشديدة والمتقادمة والمقاومة لأي محاولة للفطام من هذه الطقوسية المؤسطرة للحاكم في الثقافة العربية ,رغم تقلص مساحات المجتمعات التي تمارس هذه الصوفية السياسية,حولت هذه الشخصانية المفرطة الى اشتراط حتمي لمستلزمات الحكم في النظام العربي وتحويلها إلى أسلوب عبادة مستمرة ودائمة لزعيم خالد عصي على التغيير على النمط البابوي,مع مراعاة الفارق الوحيد أن قداسة البابا يأتي بدخان ابيض أما الزعيم الثوري فيأتينا عادة في يوم اسود.
التعليقات (0)