مواضيع اليوم

الصفيحة السوداء

شريف هزاع

2009-05-12 08:44:04

0

الصفيحة السوداء

قصة قصيرة

 

شريف هزاع شريف

 

جاء المختار مسرعا إلى مزرعة بدران ألسبتي والناس قد تجمعت ، ماذا حصل ؟ هل تعرضوا له مرة ثانية ؟ الم ننهي الأمر منذ اشهر ؟، أن هذه الفتنة ستثير المتاعب و ستفتح بابا للشر الذي لن ينتهي إلا بالقضاء على آل السبتي والحميري ، الاتكف هذه القبور في أرضنا لنحفر شقوقا تبتلع شباب المدينة ؟!

بدأ بعض الشباب يضمدون جراحه والشق الذي ينزف في رأسه ، جلس المختار عند رأسه يمسح نزيف الدم بكمه ..

قال المختار :- الم يتركوك وشأنك؟ الم تدفع القبيلة دية أخيهم؟

قال بدران :- إنهم لم يريدوا قتلي بل إخافتي كي لا اصل إليهم أردت أن أبين لهم أن الأمر لا يعنيني، ربما يريدون أن اخرج من المدينة إلى مكان أخر لكن إلى أين ؟ كيف اترك أمي وأخي الصغير، من سيرعى ارضي ؟

تذكرت سنين الحرب التي أقحمنا فيها والتي جعلت من المدينة مقبرة تبتلع الحياة التي لم تكن فيها سوى قبور الأجداد والآباء ، لم يكن فيها قبر لشاب سوى ( حامد ابن الحاج خليفة) الذي دهسته عجلة الجرار، … أليس من المضحك أن يتذكر الإنسان الأموات وعلى كتفه حقيبة عسكرية للالتحاق بالجبهة وهو لا يعرف إذا كان ذهابه إلى هناك قد يأتي به إلى هنا ؟

قال المختار :- ما بالك يا بني، ألا تسمعني ؟! صرخ المختار مثل المجنون بوجهي :-اذهب الى الحكيم بسرعة ، انه ينزف ..

قال بدران:- لا.. لا ، إنني أستطيع الذهاب إليه بنفسي ليس الأمر بهذه الخطورة  ، ولكنه ما أن نهض حتى ترنح مثل الثمل ليسقط على الأرض مغمىً عليه ، رميت حقيبتي وركضت إلى دار الحكيم وتركت المختار الذي نزع يشماغه الأحمر ليلف به رأس بدران الذي ضاعت ملامحه البدوية اثر الضرب المبرح من رجال الحميري

حل المساء وأنا لم أغادر المدينة عرفت إنني سأدفع ثمن تأخري على يد ضابط قاس لا يعرف الأعذار حتى لو قلت له إن أمي ماتت ، سأدخل السجن بكل الأحوال وسأنام فوق الأرض القذرة التي تبعث رائحة البول ، لن يطعمونا سوى الغداء لأننا في نظرهم بهائم لا تستحق الحياة ولا شرف القتال … قال لي الشيخ متعب :- هل تستطيع أن تبقى إلى عصر غد ؟ ،أريد أن تكون معنا كي نذهب إلى دار الشيخ سالم الحميري ،يجب أن نضع حدا لهذه المهزلة قلت له هذا يعني إنني لن اذهب إلى الجبهة إلا بعد ثلاثة أيام وسيحكمون علي بالهروب من الجيش قال لي :- أبقَ معنا ليومين  طلب الشيخ متعب لايرد ،شطبت من التقويم العسكري المرعب يومين سأدفع ثمنهما بشكل فادح …

 أعددت حقيبتي للخروج قبل الفجر تاركا ورائي بدران الذي علقت قضيته والوعود التي اخذناها من شيخ الحميرات …

المذياع والرائي ينقلان أخبار الحرب التي مزقت أحشاء الحياة البسيطة في مدن بلدي الموشح بالسواد ، منذ سنين كنا نقفل وسائل السمع والبصر لأننا نعرف النهاية ،قد ننتصر أو قد نموت بانتصار مهزوم صرخ العريف سعيد ،ارمِ ! وقتها عرفت إنني خرجت منذ يوم ونصف من المدينة دوى صوت المدفع معلنا قتلاه مقدما ! وانتفضت الأرض لترتفع فوقها سحابة من التراب الجاف المعبق برائحة الموت وترنح الهواء برائحة البارود يالها من رائحة غريبة تختزل الموت القادم أو الحياة التي فقدناها، أنا اعرف لماذا يريد ال الحميري قتل بدران ألسبتي لكن أي عبقري ينبئني لمَ أنا هنا ومن أقاتل يوسف حمدان عبدا لله !؟ انتبهت إلى صوت العريف البائس ( سعيد ) الصارخ بوجه الموت والحياة على حد سواء كاد أن يكون صوته أكثر دويا من المدفع لأنني اعرف مضامين لهجته القاسية، صرخت نعم عريفي! تعال وانزع عنك النطاق والبيريه ستقدم مذنبا إلى الضابط ،تركت من يدي الصناديق الخضراء المعبئة بالموت ؟!  وتوجهت الى العريف سعيد الذي لم يتردد في ابداء المساعدة لفك ازرار النطاق العسكري من على خصري المليء بالجوع !  قال العريف:-  الم تتعلم إن الغياب قد يعني غيابك عن الحياة إلى الأبد ؟  

قلت:- وماذا تجد الجبهة أليست غيابا عن الحياة مع وقف التنفيذ ؟

قال:- يبدو لي انك تحاول التدخل بالقضاء والقدر، يا اخي كلنا شهداء مع وقف التنفيذ

زج بي في سجن الصفيحة السوداء، السجن الانفرادي الأقسى من الحجر والذي سأقضي فيه سبعة أيام بلياليها هذه العلبة الضيقة التي تدفع ساكنها إلى طلب الخروج للقتال في الخطوط الأمامية بدل البقاء فيها ساعة واحدة كانت شمس الظهيرة الحارقة في سمت السماء تسوي رؤوس الجنود الذين يرتدون قدورا بالمقلوب لتحميهم من ضربات القناصة وشظاية القنابل !!؟ أما أنا فقد كنت أشوى داخل الفرن الأسود ولن يسمح لي بالخروج أو الاستحمام ولن اشرب الماء إلا بعد المغيب وفي الفجر البارد، لست قلقا فبعد العشاء سيتسلل إلي بعض الأصدقاء الذين يضطرون إلى دفع بعض السكائر للحارس الخفر لأجل الوصول إلي لأجل إيصال الماء الأقل حرارة لأننا نضعه في حاوية البارود الروسية الصنع التي يلف عليها الجنفاص الأسمر لم يكن هناك ضرورة للتفكير بالخروج أو تخفيف الحكم كي انقل إلى سجن (الايفا-EVA ) ألا تعني بالروسية الصفصافة كم انا غبي لماذا اخترت اللغة الروسية لأتعلمها ؟ ما فائدة لغة دولتها لاتعرف سوى تصدير السلاح لنا ،كنا لانعرف في دورة فحص العتاد التي اكملناها سوى الروسية الحربية وهذا ما دفعني للبحث عن كتاب لأتعلم المزيد ، كنت انزل الى العاصمة الى شارع المتنبي لأجد كتابا يعلمني الروسية … وحين وجدته قال لي صاحب المكتبة :- هو افضل ما عندي انه لـ(بوتا بوفا ) كان يدرس في الكلية العسكرية اخذت الكتاب منه وفتحت الصفحة الاولى كتب عليه من كان يملكه ( م.أ. المهندس جاسم فليح سلطان كلية الهندسة العسكرية  )  قال لي البائع لقد استشهد هذا الرجل قبل سبعة اشهر هكذا قالت لي زوجته التي جاءت برزمة من كتبه لبيعها لان زوجه الثاني لا يريد اثرا من ميت في بيته  ،  قلت له :- احيانا نبيع الذكرى لنقتات على فتات الخبز  ؟؟؟ قال لي لا لا ابدا انها لا تحتاج الى بيع كتب زوجها الشهيد لتعيش فالذي تزوجها ابن عمها وهو ثري .. تناولت الكتاب قلت في نفسي رحمه الله ربما كان يعرف اللغة الروسية جيدا …

اصبح جاسم فليح في ذاكرتي كلما اقلب صفحات الكتاب واصبح الكتاب رفيقي في الجبهة ،….‍ يا لغباء الروس كيف يسمونها صفصافة، كيف يتلاءم الجمال مع الحرب ‍‍!؟

جاء صوت ( وديع الصافي ) مقتحما صمت الليل الموحش بأرواح القتلى وانين الجرحى ...

( ريحة ارضينا                   ياريس           عم بتنادينا                    ياريس

تمشي وترمينا                   يا ريس           من مينا لمينا                  يا ريس

                                                   ودينا بلدنا                  يا ريس  )

اعرف كم ستدمع عينا على ذكرى بعيدة ونهار قد عشناه قبل ايام .. ياللوحشة كم تبلغ من الحجم حتى ينهار امامها الانسان مثل طفل يضرب لأهماله درسا من الدروس اقترب صوت وديع الصافي  اكثر سمعت اصوات الجنود تتحدث مع الحرس الليلي علا الضحك قليلا واقترب وقع الاقدام من الصفيحة السوداء فتح الباب السحري لأجد وديع الصافي في مذياع جبار الاسدي الساخر من جلوسي وحيدا بلا شمعة عشق وحبيبة .

قال :- ها يابطل ارجو اننا لم نقطع خلوتك الرائعة هيا اخرج لتشم رائحة الليل الاسود واستعد للخروج غدا او بعد غد !

:- هل ساخرج  ؟ .

:- نعم ، نعم فغدا او بعد غد عندنا هجوم !

قلت :- ومن اين عرفت ؟ هذا الامر لايعرفه سوى القادة ؟

:- ياصديقي صحيح انني احمل شهادة عاليا في الفيزياء الاانني خبير بفلسفة الحرب وسايكولوجية الهجوم ،اليك ما يلي :- اولا جاءنا عتاد كثير رغم اننا لم نطلب من القيادة هذا ، ثانيا ضوعفت الارزاق الجافة اكثر من ثلاثة اضعاف احتياجاتنا ، وثالثا انني انقل اليك هذا الخبر وهو فوق الشبهات

تسلل الليل مع ذهاب جبار الاسدي الى الكتيبة المدفعية الرابعة ، كانت اصوات المدافع الرشاشة تنذر الجنود النيام للانتباه والحذر من تحرك مرتقب استلقيت على الارض الحارة مستسلما لنوم اريده ان ينتهي في يوم الخروج غدا او بعد غد

الصبح في الجبهة ليس مثل أي صباح …

انة اصفر …

انه ميت …

السماء لونها رمادي لاتوجد أي غيوم سوى غيوم البارود الاسود!  . ديك ( ن .ض . محمد الخلف ) يصيح مؤذنا بفجر جديد ، أصر على أن يأتي بديك الى الجبهة ، قال انه يذكرني بأمي التي كانت تخرج فجرا لأطعامه فتات الخبز والطعام ، كان ياخذه معه الى كل مكان وأين ما تحرك الجيش كان الديك (سبع) هكذا اسماه يركض وراء محمد الخلف ويتبختر ، العجيب انه اعتاد على اصوات القنابل ، كان يزور مواقع الجنود الذين يكرمونه كثيرا ويحبون تواجده بينهم لأنه فأل خير في نظرهم ، كان الجنود الذين يكملون طعامهم يصيحون ( سبع ) (سبع ) (سبع ) فيركض مسرعا على الصوت لأنه يعرف انه نداء لوجبة من الطعام .بقي سبع وحيدا لقد غادر محمد الخلف ساتر الحياة بعيدا بعيدا جدا واصبح سبع بلا صديق سوى جنود اتعبهم دوي الرصاص ودخان المعارك ..

وضعت قدمي فوق حجرة ملقاة وسط الصفيحة السوداء للنظر الى الخارج لأستقرئ حركة الجيش لم الحظ أي تاهب للهجوم ربما لم يحن الوقت المحدد فالفجر لم يشق كبد الليل المظلم بعد اديت الصلاة ، من يعلم قد اموت بعد دقائق ،  جلست استرجع شيئا من حفظي للقران ،جاء صوت الحرس المليء بالنعاس ..صوت صوت يايوسف اسمعنا يرحمك الله ،ضحكت في سري لأن كثير من الناس يولد الايمان عندهم في الظروف الحرجة ،حتى ان الحرس سعدون غير محافظ على صلاته الافي الهجوم المعادي تراه كثير السجود والركوع يالها من حياة  ؟!!   ربما سأبقى في السجن الايام الباقية ..اين جبار الاسدي ؟!! اللعنة على اخباره لقد بنى سفينة من الوهم في داخلي ، بدأ صوت الجنود يعلو للخروج الى العرضات الصباحي كانت اوامر رئيس عرفاء الوحدة تشق الفضاء الهاديء بزئير مرعب ينسف غفوات الجنود ونعاسهم العالق بأحلام الليلة الماضية الكل يفكر بالقادم من الساعات الاتية زاحفة بشكل ماكر من العدو المتربص بنا ترى ماسيحدث بعد ساعة ؟!! .

شطبت الليلة الثالثة من لوحة الزمن المدجج بالسلاح  ؟!  فكرت بالمدينة الان هم في مزارعهم وبساتين الحمضيات  والنخيل ، هل ترى وصل التفاوض بين القبيلتين الى نهاية مطمئنة ؟، ربما يزرع بدران السبتي شتلات البرتقال والنارنج  في بستانه الذي ورثه عن ابيه المسكين … من يعلم قد اراه بعد اشهر في جبهات الحرب المرة ، سيبلغ الثامنة عشرة على كل الاحوال وستموت بستانه قبله سيقتلها العطش مثلما يقتلني الان وتموت الاشجار الخضراء قبل انتهاء الحرب العبثية ستكون هناك مزرعة اخرى في مكان ما من هذا الوطن الجريح لكنها لن تكون مزرعة بدران السبتي ابدا ، كنت انتظر الزمن كي يغادر لساعات من هذا المكان لعلي ابصر الضوء ولو ليوم واحد مرت الايام كلها ….  اقتربت اصوات الجنود من الصفيحة السوداء كان صوت جبار الاسدي واضحا ، فتح المزلاج بصرير رغم انه من ازعج الاصوات الاانه اصبح شعرا وانغاما رقيقة ففيه صوت الحرية كانت الشمس تشق انفاس الليل الطويل لم افكر في أي شيء سوى الخروج من هذه العتمة المميتة .

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات