عبـد الفتـاح الفاتحـي
تعرف المنطقة المغاربية الأورمتوسطية نشاطا دبلوماسيا كبيرا حلال الآونة الأخيرة، لحل عدد من الخلافات الدبلوماسية نشبت أولا بين المغرب وإسبانيا ثم بين الأخيرة والجزائر. وإذا كان المغرب وإسبانيا قد أعلنا رسميا تجاوز خلافاتهما الدبلوماسية الأخيرة بعد إجراء سلسلة من لقاءات دبلوماسي البلدين، توجت بتأكيد جودة العلاقات بينهما، وسعي البلدين المستمر للرقي بهذه العلاقات الممتازة على حد تعبير الإسبان، فإنه بالمقابل قد نشبت أزمة دبلوماسية مفاجئة بين إسبانيا وجارة المغرب الشرقية الجزائر على خلفية ما تسميه الجزائر دعم اسبانيا للإرهاب و"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" حين اختارت أسلوب دفع الفدى للتنظيم مقابل الإفراج عن الرهائن الإسبانيين في الاتفاق الأخيرة.
وفي سياق حل الخلافات بين اسبانيا والجزائر حل بالجزائر العاصمة كاتب الدولة الإسباني المكلف بالشؤونالخارجية خوان بابلو دي لإيغليسيا لإقناع الجزائر أولا لحضور قمة الاتحاد من أجل المتوسط في برشلونة نوفمبر القادم، وكذا للتباحث مع المسؤولين الجزائريين حول قضية مكافحة الإرهاب في الصحراء الإفريقية والنزاع حول الصحراء المغربية.
وهو ما أكده بيان وزارة الخارجية الجزائرية من أن زيارة "دي لإغليسيا" ستتميز بإجراء محادثات مع الوزير المنتدب المكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية الجزائر عبد القادر مساهل حول "العلاقات الثنائية وكذا المسائل السياسية الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك سيما التعاون الاورومتوسطي ومكافحة الإرهاب في منطقة الساحل وكذا التطورات الأخيرة لمسالة الصحراء الغربية".
وكانت وسائل الإعلام الإسبانية قد ذكرت بأن القضايا المدرجة في جدول أعمال الرجل الثاني في الدبلوماسية الإسبانية تروم إنهاء التوتر الذي شاب العلاقات بين البلدين بسبب الأخبار التي راجت عن دفع إسبانيا ملايين الدولارات لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من أجل إطلاق سراح الرهائن الإسبان الذين كان قد اختطفهم التنظيم في موريتانيا، الأمر الذي يثير غضب المسؤولين الجزائريين.
وقد قال الوزير المنتدب المكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية، عبد القادر مساهل، لكاتب الدولة المكلف بالشؤون الخارجية وبأمريكا اللاتينية لمملكة إسبانيا "خوان بابلو دي لإيغليسيا" إن "دفع الفدية يدخل في تمويل الإرهاب واليوم النشاطات التي تقوم بها التنظيمات الإرهابية، وأقصد القاعدة، مستمرة لأنها تجد التمويل.. نتمنى أن تحذو مدريد حذو بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية مع مشروعنا الذي ندافع عنه منذ أربع سنوات".
وعلى الرغم من أن المسؤول الإسباني قد نفى "تلقي القاعدة في الساحل أي فدية من بلده مؤخرا"، إلا أن المسؤول الجزائر أكد من جهة أخرى على "توسع هوة الخلاف بين الحكومتين حول قضايا الساحل بالأساس، متهما إسبانيا بالتلكؤ في المصادقة على لائحة الأمم المتحدة لتجريم دفع الفدى".
الأزمة الإسبانية الجزائرية لم تتوقف عند الاتهام الجزائري لاسبانيا بتمويل تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي عبر دفع الفدى، وإنما تجاوزه إلى تضمين شبه تحذير جزائري لإسبانيا من مغبة التدخل في شؤون الساحل، حينما قال المسؤول الجزائري: "إن الجزائر ستشدد لاحقا إزاء أي تدخل غربي في أمور الساحل، في وجود تنسيق مقبل يضم قادة الأركان في تمنراست وآخر للمخابرات".
المسؤول الجزائري عبد القادر مساهل أعاد من جديد السعي الجزائري لإحياء اتفاق إقامة قيادة عسكرية في منطقة تمنراست المتعثرة، ملمحا إلى استدرار المساعدة الإسبانية لعزل المغرب عن الصحراء، وردد أمام المسؤول الإسباني "إن محاربة الإرهاب من اختصاص الدول المعنية.. وإن هناك اتفاقا جرى شهر مارس في الجزائر لإنشاء قيادة عسكرية في تمنراست وحددنا رزنامة للقاءات أجهزة الأمن (المخابرات)".
وأعلن في المقابل بأن الخلافات المترتبة عن قضايا الأمن في دول مالي والنيجر وموريتانيا، وشكوك دفع الفدى لتحرير الرهائن، لم تؤثر على العمل الأمني بين هذه الدول وأن الأمور تسير على ما يرام وقريبا يلتقي قادة الأركان في تمنراست لتسلم الجزائر القيادة الدورية للقيادة العسكرية لدولة مالي وبعده لقاء ثانٍ لأجهزة الأمن".
هذا ويرى محللون أن الجزائر تحاول إرغام الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على الاعتراف بدورها البارز في تنسيق تصدي المنطقة لمشكلة القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، من دون المملكة المغربية الذي تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية حليفها الاستراتيجي في محاربة الإرهاب، وهو ما ظل يثير حفيظة الجزائر.
ويتوقف خبراء عسكريون عند التحرك الجزائري، التي تسارع الخطى لإبعاد المغرب من هذه القوات ومن أي دور في الصحراء، في أفق بلورة محور إقليمي لمكافحة "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". لتبرز كقوة إقليمية لمنطقة الساحل والصحراء تفرض ذاتها نحو تعزيز تعاونها العسكري مع كل من فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، بوصفها القوة الإقليمية، متجاوزة ليبيا التي كانت وراء إنشاء "تجمع دول الساحل والصحراء" في 1998.
ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الإحتجاج المغربي على الإقصاء الجزائري له، ويعتبره تهديدا لوحدته الترابية ولأمنه واستقراره، وهو ما حذا به إجراء اتصالات باشرها مؤخرا الجنرال عبد العزيز بناني قائد المنطقة الجنوبية مع المسؤولين العسكريين في موريتانيا تمحورت حول التعاون العسكري بين البلدين في مجال محاربة الإرهاب في الصحراء. وذلك رغم عدم مشاركته في قوات الساحل والصحراء بسبب إقصاء الجزائر لمشاركته.
إن مدخل خلق قوات عسكرية لمكافحة الإرهاب في الصحراء الإفريقية، لا تتوقف غاياته عند هذا الحد بل تتعداه لتترجم صراعات خفية حول شرعية النفوذ والهيمنة في منطقة الصحراء الإفريقية. فمن جهة لا تريد فرنسا أن يحيد دورها الإقليمي في إفريقيا، لتأمين مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية إفريقيا، وهو ما يكلفها مزيد من أعباء تمويل قواعدها العسكرية في الساحل الإفريقي. ومن جهة ثانية تحرص الجزائر أن تلعب دورا رياديا بجميع الدول المحاذية للصحراء مع تحييد المغرب باعتباره أن لا امتداد جغرافي له على الصحراء.
وتذهب عدة تحليلات أخرى أن المغرب لم يقف مكتوف الأيدي تجاه التحرك الجزائري في المنطقة، بل سبق وأن مارس ضغط عبر فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية على موريتانيا، حتى لا تنساق وراء إيديولوجيا الجزائر في المنطقة. وقد تم ذلك خلال اللقاء الذي جمع مؤخرا الجنرال المغربي عبد العزيز بناني قائد المنطقة الجنوبية مع المسؤولين العسكريين في موريتانيا تمحورت حول التعاون العسكري بين البلدين في مجال محاربة الإرهاب في الصحراء.
وتشير مصادر مطلعة بأن المغرب عبر عن استعداده خلال هذه اللقاء عن دعمه للجيش الموريتاني الذي بحث عن تعاون عسكري مع المغرب لمواجهة تحدي تنظيم القاعدة الذي يتربص بالبلاد، حيث أطلعوا المسؤول المغربي عن وجود معطيات استخباراتية تؤكد وشوك تنفيذ القاعدة لهجوم داخل التراب الموريتاني، وقد عبر الجانب المغرب حينها بأن المغرب على الدوام مستعد للتعاون مع موريتانيا فيما يخص مكافحة الإرهاب.
وتجتاز المنطقة مرحلة من الشد والجذب الدبلوماسي بالتزامن مع تهيئ إسبانيا لعقد قمة الاتحاد من أجل المتوسط من جهة وتحركات المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء كريستوفر روس لدى عدد من العواصم العالمية المؤثرة في النزاع في الصحراء من أجل تحريك عجلة المفاوضات بين المغرب والبوليساريو. ومن جهة أخرى بعد تجدد اختطافات تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي ليلة الأربعاء الماضي لسبعة أشخاص من بينهم خمسة فرنسيين يعملون بشركة فرنسية متخصصة في التنقيب عن اليورانيوم بشمال النيجر.
يتعاظم خطر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في ظل غياب تصور موحد للدول الساحل والصحراء الإفريقية لمكافحته، ويتضاعف قلق حكومات المنطقة المغاربيّة والساحل الإفريقيّ يوما بعد يوم مع توسّع نطاق عمليات ما يعرف بـ"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" ومع تركيز عناصره على العمليات "النوعيّة" من قبيل خطف الرعايا الأجانب بغية المقايضة والابتزاز، وبالتالي الدفع بالحكومات إلى التفاوض معه والاعتراف به كتنظيم ذا نفوذ وسلطة في المنطقة الصحراويّة.
ويستمر القلق والخطر محدقا بالمنطقة مع غياب استراتيجية أمنية موحدة تشارك فيها جل دول الساحل، ومعلوم أن الاستراتيجية قد تعثرت لأسباب سياسية منها ربط الجزائر التي تقود هذه المبادرة بين مكافحة الإرهاب والنزاع في الصحراء، حين تتشدد بإقصاء المغرب من الإستراتيجية بدعوى أن لا امتداد جغرافي له على الصحراء.
ومعلوم أن سعى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي منذ نشأته كان بالأساس هو جعل الصحراء الإفريقية قاعدة بديلة لأنشطته الإرهابية بعيدا عن ملاحقة الاستخبارات الغربية في الشرق الأوسط لقيادييه. كما يروم التنظيم أيضا إلى فرض أجندة الأمن على تلك المنطقة وتقوية نفوذه عبر عائدات الفدى والمتاجرة في الممنوعات.
وتشير عدة توقعات أن تنظيم القاعدة قد دخل بهذه الأموال في مشاريع استثمارية لتبيضها في عدد من دول الساحل، ومنها الجزائر، ولعل ذلك هو ما دفع بالحكومة الجزائرية لتعكف في الآونة الأخيرة على التحقق في عمليات تبييض أموال يقوم بها أشخاص في دول الساحل الإفريقي لحساب تنظيم القاعدة.
عدة تفسيرات تؤكد أن الحضور المغربي يبقى قويا في دول الساحل من خلال النيجر والسنيغال وبوركينا فاسو وموريتانيا التي تربطهما مع المغرب مصالح كبيرة، تتنوع بين ما هو اقتصادي واستخباراتي، حيث يتطور التعاون الإستخباراتي بين هذه البلدان والمغرب يوما بعد يوم، وذلك في إطار التعاون لملاحقة تنظيم القاعدة، وكذا التنسيق لملاحقة خلايا "التموين اللوجيستي" التي نشرتها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" سابقا في مناطق الحدود الجنوبية للجزائر، للكشف عن الاستثمارات المالية للإرهابيين في الدول المذكورة.
ويؤكد المختصون في قضايا الإرهاب في المغرب العربي أن فرع "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" بات يتحرك في مجال شاسع غير مأهول يقع شمال مالي، حينما تطورت الوسائل التقنية للمراقبة لدى الجيش الجزائري، مما جعل التنظيم يقلص من حجم تواجده في المناطق التي كانت تتحصن بها في شمال الجزائر وشرقها.
ولا يعلن التنظيم ولا الحكومات عن إحصاءات دقيقة لعدد المقاتلين في صفوفه، لكن أغلب المصادر تقدر عددهم بما بين 300 و800 مقاتل أغلبهم من الجزائريين, فيما يتوزع الباقون على جنسيات مختلفة أبرزها موريتانيا وليبيا والمغرب وتونس ومالي ونيجيريا، وقد قدرت بعض الجهات عدد المجموعات الصغيرة المنتسبة للتنظيم بنحو 70 خلية تنشط في المناطق النائية المترامية الأطراف في شمال مالي، بعدما كان عددهم قرابة 200 فقط قبل سنة.
متتبعون أشاروا بأن قوة التنظيم في ازدياد مستمر بعد إيجاد مصادر التمويل، والتمكن من قدرة أفضل على استقطاب مجندين من بين الشبان المسلمين المحليين ومن بين المسلمين عموماً في إفريقيا ما وراء الصحراء الكبرى.
وأكد خبراء عسكريون في المنطقة أن قادة هذا التنظيم "باتوا يستهدفون مقاتلين من جبهة البوليساريو وشباب مخيمات تندوف، وكذا في القرى والمحافظات الموريتانية الفقيرة، ليغرروا بهم ويشحنوهم بأفكار سلفية تكفيرية على أن يتم تجنيدهم للقيام بتفجيرات في عدد من دول المغرب الإسلامي.
من جهة أخرى، لازال الخبراء العسكريون في الغرب يشككون في قدرة القوات النظامية لبلدان المنطقة على احتواء خطر تنظيم "القاعدة" على رغم الاعتمادات الماليّة والبشرية الهائلة التي تنفق لتعزيز جاهزيتها القتالية.
شك يتعزز برأي الخبراء القائل بأن من الصعوبة بمكانة على القوات الحكومية القليلة العدد وضعيفة التجهيز أن تلاحق عناصر الجماعات المسلحة التي تهيمن حاليا على منطقة تعادل مساحتها نصف مساحة أوروبا، وما الدعوات الأخيرة التي أطلقتها الحكومات والاستخبارات الغربية لرعاياها بتجنب زيارة الصحراء إلا دليل على عدم ثقة الأوروبيين والأميركيين في جهود القوات المحلية على ضبط الأمن ومجابهة هذا التنظيم عسكريا".
محـلل سياسـي
Elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)