فرضت عدوانية النظام العراقي السابق على خصومه التحالف ضده دون تدقيقٍ في أسباب صراع كلٌ منهم معه، أو التدقيق في تفاصيل خصومتهم له، أو حتى البحث في طبيعة إختلافهم عن بعضهم البعض، فقد كان بحر الدم شمالاً و جنوباً له منبعٌ واحد يبدأ من بغداد، و هو كان من الغزارة بمكان بحيث كانت الأولوية هي لأيقافه، كان صدام حسين هو من يصل كل تلك البحار مع بعضها البعض، و كان بالتالي كشعرة معاوية التي تربط هؤلاء جميعاً إلى أن إنقطعت تلك الشعرة في العام 2003 عقب سقوط بغداد على أيدي قوات التحالف الدولي. بعد ذلك جرت في تلك الأخاديد مياهٌ جديدة، و إستمر في بعضها جريان دماء كان لها لون آخر، أنسى ذلك بعضهم التحالف السابق و الكلام المعسول و الكثير من العهود و العقود.
إن إستعراض العملية السياسية في عراق ما بعد السقوط تكشف بوضوح الإيجابية التي تعامل بها الكُرد من خلال إطارهم المعروف بأسم التحالف الكُردستاني مع تلك العملية، و إحترامهم كذلك للوثائق التي قاموا بالتوقيع عليها، و قيامهم في مناسباتٍ عديدة ببذل الجهود للتقريب بين الكتل العراقية المختلفة ما شكل تعبيراً جلياً عن حسن النوايا، و خاصةً مبادرة الرئيس مسعود البرزاني الناجحة في مسألة تشكيل الحكومة العراقية الثانية بعد حوالي سبعة أشهر من التعطيل، وبعد فشل جميع المحاولات التي سبقتها للخروج من ذلك المأزق. و بالمقابل فقد كانت هنالك محاولات مستميتة من التحالفات الشيعية العديدة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، و الحصول على موطئ قدم لها في كُردستان شبيه بذلك الذي كان للنظام السابق. و ظهر سوء النية لدى من يفترض فيهم أنهم شركاء الكُرد في المظلومية في مناسباتٍ عديدة، منها إمتناعهم عن تطبيق الدستور العراقي الذي قاموا هم أنفسهم بصياغته و التوقيع عليه، و خاصة المادة 140 المتعلقة بتطبيع الأوضاع في كركوك تمهيداً لإجراء إحصاء سكاني و إستفتاء فيها، و إعادة المناطق المستقطعة إلى إقليم كُردستان، رغم أن هذه المواد كانت واجبة التنفيذ في مواقيت محددة و كان يجب الإنتهاء من تطبيقها منذ مدة طويلة، كما سجلت محاولات لا تزال مستمرة للإستيلاء على نفط كُردستان من خلال سعي وزارة النفط التي يديرها التحالف الشيعي ذاته لإلغاء عقود النفط الموجود في الإقليم و التي وقعت عليها سلطاته.
لم يكف التحالف الحاكم في العراق عن محاولاته المستمرة في التعرض لإقليم كُردستان، و عن محاولة خلق صراعات جانبية معه من أجل كسب حجة للتطاول عليه، و التشويش على الأمان الذي ينعم به، كانت آخر تلك المحاولات ما سمي (بقضية الهاشمي)، عندما أتهم نائب الرئيس العراقي بالقيام بأعمال إرهابية لسنين خلت، لكن تُركت له رغم جسامة التهم الفرصة لمغادرة بغداد عبر مطارها الدولي إلى إقليم كُردستان، و فور وصوله بدأ هؤلاء بالمطالبة به لمحاكمته على ما نُسب إليه من تهم، رغم أن الكُرد قد أعلنوا منذ البداية أن قضية الهاشمي تبدو و كأنها تحمل أبعاداً سياسية ينبغي التصدي لها أولاً، و أن الهاشمي ضيفٌ على كُردستان، و ليس من أخلاق الكُرد تسليم من يلجأ إليهم كائناً من كان.
لقد كشفت القضية الأخيرة، مثلها مثل ما سبقها من قضايا و ما سيليها أن الخطر الوحيد الذي يتهدد كُردستان يأتي، و كما كان دائماً، من بغداد بصرف النظر عمن يحكمها، و إن حل القضية الكُردية في العراق هو في هولير و ليس خارجها.
للأسف يصر حكام بغداد كما كان شأنهم دائماًعلى إختبار صبر القادة الكُرد، هذا الصبر الذي يبدو سبباً في تأجيل صراعٍ يظهر الطرف الآخر نفسه و كأنه يستعجله، و للأسف أكثر فإنهم يصرون على فهم الحكمة و الرغبة على العيش المشترك ضعفاً، و يصرون على أن خيار الشعب الكُردي الأبدي معهم، متناسين ثقافة الحياة التي يحملها الكُرد، و التي ستحتم عليهم في نهاية المطاف اللجوء إلى خيارات مختلفة عما ذهبوا إليه حتى الآن، على ما ذهب إليه رئيس إقليم كُردستان مؤخراً.
التعليقات (0)