ارتدى ملابسه الرسمية استعداداً للذهاب إلى العمل مع إشراقة يوم جديد، والشمس تبعث أشعتها الدافئة على المدينة الوادعة، جلس إلى والدته وشقيقاته وزوجته، تناول معهن فطور الصباح، ودّعهن مسروراً بيوم جديد، ذهب إلى عمله، وهنّ نساء عاملات، مربيات لهذه الأجيال خرجن بعده إلى أعمالهن حيث تحتدم المدارس بحمى الامتحانات .
أعرفهن رفيقاتي منذ أن كنا أزهاراً بعد في ربيعها البرعمي النابت من ضلع الزمن الجميل، سنوات من العمر مرّت لم نفترق، كنا نخاف على بعضنا كثيراً، كبُرنا وكبُرت أحلامنا البيضاء المشتركة، هو كان صغيراً جداً يتبعنا حينما نتزاور من مكان إلى آخر، وكان والدهم رحمة الله عليه يراقبنا بحنو شديد، خوفاً على الصغيرات من أي إصابة أثناء اللعب، حتى ألعابنا كانت عاقلة وكبيرة مثلنا، ذاك الطفل الصغير كان يلاحقنا بشغبه، وبراءة الطفولة التي كانت تطل من بين نظرات تستعطفنا تارة أن نضمه إلينا، وتارة أخرى أن نشركه في جلستنا الطفولية البريئة .
كبُر الطفل ومعه كبرت البنات كذلك، أخذتنا الحياة في مفترقاتها بعد أن أنهينا دراستنا الجامعية “وإذا الأصحاب كلٌ في طريق” لكن أحلامنا، وتطلعات الصغير في بناء هذا الوطن العظيم كانت تنمو في داخلنا كواجب وطني لم نكن نعرف أبعاده بعد، كنا نعرف أننا يجب أن نعمل للنهوض بالوطن الذي نحب .
صدفة بعد مرور سنوات عدة ، عرفتُ أنهم قد أصبحوا جيراناً لنا في المنطقة ذاتها، فرحتُ كثيراً دون أن أراهم أو أحاول زيارتهم سوى مرتين لعمل يربطني بوالدتهم حفظها الله، فرحتي إلى اليوم لا أعرف لها تفسيراً ربما شعرتُ بالدفء لأن رفيقات الطفولة هنا حولي، فالحب الكبير في القلوب الصافية لايتغير، ذات زيارة رأيت ذاك الطفل الصغير الذي شب عن طوق الطفولة، وغدا رجلاً يُشار إليه بالبنان، في البدء خجلتُ منه، ثم تذكرتُ خطواته الأولى معنا حين كنّا نكبره بسنين معدودة، لم يتسن لي إلقاء تحية المساء عليه، ذهب ونظراته إلى الأرض، خجلاً كما كان ، حين كنّا صغاراً .
يوم أمس حلّت الفاجعة على الأسرة الصغيرة في عدد أفرادها ، الكبيرة في حضورها، وسمو نفوس أبنائها، وتواضعهم، وحب مدينة كاملة لهم، جاءهم الخبر الأليم، رحل الطفل الكبير الذي لم يمر على زواجه سوى شهور قصيرة بعد أن ودّعهن صباحاً في طريقه للعمل، كان يسير برفق ، يقود سيارته بعقل ناضج، لم يكن أرعن، لكنه فوجئ في طريقه بشخص أرعن، صدمه صدمة عنيفة أودت بحياته” رحمة الله عليه” أختاه المصدومتان وجميع أفراد عائلته لم يصدقوا، ولن يصدقوا لسنوات طويلة، أن ذاك الذي ودّعهن صباحا، كان يلقي عليهم نظرة الوداع الأخيرة، لو كنّ يعلمن بالمصير المنتظر لما تركنه يخرج “أستغفر الله العظيم” فقد كان ظلهن الظليل، وعيونهن التي تسير على الأرض .
ويبقى السؤال المر في غمرة الحزن العظيم، إلى متى تبقى شوارعنا ساحة للمجانين، وميداناً يأكل أبناء هذا الوطن الغالي دون رحمة، وإلى متى يبقى التهور سمة بعض الذين انفلت زمام عقولهم فكانوا وسيلة شر تسير بين البشر، أمَا من حل صارم أيها المسؤولون؟
رابط النشر :
http://www.alkhaleej.ae/portal/95f5e82a-a6b2-4a23-a65d-321ab7b5612d.aspx
التعليقات (0)