إلى المقاوم الكبير علي بن سالم في عيد ميلاده الثمانين
يا فارس الجهاد الطويل قد أرهقت الشباب من بعدك.. ألا أخذت بأيدينا وكشفت لنا بعضا من سرك!
نور الدين العويديدي
يحتفل ناشطو حقوق الإنسان ومحبو المقاوم التونسي البنزرتي الأصيل علي بن سالم غدا السبت بعيد ميلاده الثمانين.. ومن منفاي الاضطراري، في عيد ميلادك، أطال الله عمرك، أيها الجبل الشامخ، أهديك هذه الكلمات، عساها تكفر شيئا عن تقصيري وتقصير جيلي وسائر أبناء وطني في حقك أيها العلم الأشم.
في الثمانين أنت ولم تسأم بعد أيها الرجل.. جاوزتها ولم تضعف ولم تتعب ولم تسأم.. أفحمت شاعريتك، يا فارس الثمانين، ونضالك الذي لا يكل ولا يتعب ولا يكف عن الحلم الجميل، شاعر العرب زهير بن أبي سلمى القائل:
سئمتُ تكـاليفَ الحياةِ ومن يعِشْ... ثمـانينَ حولاً لا أبا لَكَ يَسْأَمِ
لكنك عشت السبعين ولم تسأم تكاليف الحياة.. جاوزتها إلى الثمانين ولم تسأم دفع ضريبة النضال وتكاليفه، من أجل غد أجمل وأفضل لأهلك وشعبك وأمتك.
ضعف جسدك، واشتعل رأسك شيبا، ورق العظم منك ووهن، حتى بات لا يقوى على التجاوب مع ما في قلبك من تمرد على الظلم، وثورة على الباطل، وطموح يعلو شامخات الجبال.. وسعي للتغيير إلى الأفضل والأجمل، لا يهدأ ولا يضعف ولا يعرف الذبول على مر السنين والعقود.
كسرت قيدك شابا، يا فارس الثمانين، فعشت حرا أبيا كنسر أبي القاسم الشابي فوق القمم الشماء، تنظر لصغائر الحياة بما يليق بها من احتقار.. وتنظر للذرى الشامخات وتقول: هي لي وأنا لها.
غالبت ضعفك ونوازع روحك للإخلاد إلى الأرض، فعشت شريف النفس لا تنام على ضيم، ولا ترى منكرا أمامك وزورا دون أن تشهد أنك ضده، وأنك عليه، لا معه، ولا له، ولا في صفه.
أمام عينيك، في عمرك المديد، مد الله فيه أكثر، تشكلت في تونسنا الحبيبة قوى كثيرة للحلم الجميل بمستقبل أفضل وأنقى وأجمل.. رأيتها كطفلة تحبو.. شابة تواجه الطغيان، مفعمة بالحياة.. رأيتها تصارع الاستبداد.. رأيته يصرعها.. يأكل لحمها، ويشرب من دمها، ويحطم عظامها عظما فعظما فعظما.. لكنك لم تخف.. لم تعرف الانهيار.. لم تتعب ولم ترتجف ولم تيأس ولم تسأم.. وقد جاوزت، أيها الشاب على الدوام، من عمرك الثمانين.
عرفك النضال ضد المستعمر فارسا شابا مغوارا.. وعرفك ويعرفك النضال ضد خلفاء المستعمر فارسا شيخا، لا يشق له غبار.. لا يتعب ولا يكل ولا يمل ولا يسأم ولا ييأس.
كنت ترمي المستعمر بالرصاص، وتزرع القنابل في طريقه.. وها أنت اليوم ترمي الاستبداد بكلمات أشد من الرصاص والسهام، وتزرع في طريقه الحقائق، وتكشفه عاريا مفضوحا، وهذا أشد عليه من وقع القنابل والرصاص.
عشت حرا كنسمة حرة لا تعترف بالقيود.. قاومت الغاصب الأجنبي.. رأيت جنوده المدججين بأعتا السلاح يقتلون المجاهدين، واحدا وواحدا وواحدا.. رأيت الموت يحوم حولك، يوشك أن يعظك بنابه.. يختطف من حولك الرجال الباسمين بفرح طفولي للشهادة.. المحتفلين بالجنة كما يحتفلون ليوم الزفاف.. لكنك لم تخف من الموت ولم تنكسر..
كنت تعرف فارق ميزان القوى لصالح الغاصب المحتل، لكنك لم تضعف ولم ترتجف منه فرقا ورعبا.. قاومته مع الشهداء، سادة الرجال، حتى غلبتموه وأجبرتموه، بأسلحتكم البسيطة، على الرحيل.. وها أنت اليوم تقاوم خلفاء المستعمر، لا يحبطك فارق ميزان القوى المختل لصالح الطغيان والجبروت.
لعلك عشت حلم الاستقلال بأفراح ووهم كبير.. كنت في شرخ الشباب الجميل.. راودتك الأحلام الكاذبات فصدقتها، كما يصدقها سائر الشباب.. ظننت واهما كما ظن الآخرون، وهم كثر، أن عصر الحرية قد رفرفت أعلامه، وجاء زمانه، وأقبلت خيله ورجاله.. وظننت أن عصر الكرامة يتشكل على يديك ويدي جيلك.. ثم جاءتكم الخيبات موج يتبعه موجا حتى أغرقتنا ولم تغرقكم.
اعتقلك المحتل الغاصب بعد موقعة بنزرت الشهيرة ثم أطلق سراحك مرغما.. لكن سجن الزعيم الوطني كان عليك قاسيا وشديدا.. أحد عشر عاما من السجن ثقيلة بثوانيها ودقائقها وساعاتها وأيامها قضيتها في المعتقل الوطني.. سبعة منها عجاف غلاظ شداد، تأكل الروح قبل الجسد، قضيتها مكبل اليدين إلى جدار. لكنك لم تضعف قبلها ولا بعدها.. وما عرفت الهوان.
بح لي بسرك أيها الطود الثمانيني الشامخ.. قل لي إنك ظننت يوما، كما يظن الشباب الغر، وهو يملأ صدره بعبق الحياة، أن الكرامة والحرية قادمان مع الاستقلال، حتما وقدرا محتما مقدورا، وأنك توهمت أن الأيام السود بلياليها الكالحات قد ولت دون رجعة.. وأنك توهمت الحرية موج كالجبال قادم لا يرد.. وما أيسر ما ينخدع الرجال في شبابهم، أيها الرجل الثمانيني الرائع العظيم.. ثم يكتشفون أن الخيبة كانت أسرع لهم من نسمة الحرية.
بح لي بسرك.. قل لي إنك قاتلت من أجل الاستقلال، وأنك ظننت، واهما، أنك وبلادك قد نلتماه.. قل لي إنك فوجئت حين اكتشفت أن الغازي لم يرحل إلا ليترك وراءه من يخلفه.. ترك خلفه "مستعمرا" وطنيا، له أنياب يعظ بها كما كان المستعمر يعظ بأنيابه.. لم يتوقف العظ، ولا تغير المعظوظ، لكن العاظ وحده تغير، في زمن المُلك العَظُوظ.
قل لي إن "المستعمر" الوطني ظل وفيا على العهد لا يبدل ولا يغير. قل لي إن سجون المستعمر القديم ظلت مع "المستعمر" الوطني على حالها، فاغرة فاها، تستقبل أفواج الشباب، تحطمهم، وتكسر فيهم الأرواح، وتقتل فيهم العزة والكبرياء والشموخ.. قل لي إنك دخلت سجون المحتل، ودخلتها وهي سجون وطنية، لا غبار على وطنيتها، ووجدتها في لباسها الوطني أشد هولا وظلما وأشد قسوة وتنكيلا.
قل لي إنك ما ظننت يوما وأنت تمسك البندقية جهادا ضد المستعمر الأجنبي، أن سجانا تونسيا سيسجنك وينكل بك، ثم يسجن الصادق شورو وينكل به لمدة 17 عاما كاملة ثم يضيف إليه بكرم وسخاء بالغين عامين إضافيين من السجن، لأنه عبر عن وجهة نظر، وتحدث لتلفزيون في بلاد الحداثة والاستقلال.
أنا ابنك الجاهل الغر أيها الرجل العظيم.. ورغم اشتعال رأسي شيبا، كان يمكن أن أكون لك حفيدا.. خذ بيدي وعلمني.. بح لي بشيء من سرك الرائع الجميل.. لن أفضح سرك أيها الرجل الذي فضح عجزنا، وعرى جبننا، وكشف تخاذلنا في المطالبة بأدنى حقوقنا..
أنت رفعت السلاح في وجه المستعمر، وأعطيت عمرك للنضال من أجل الكرامة وحقوق التونسيين.. وسجنت وعذبت ولم تنهزم أو تخاف، ونحن نخاف أن نخرج في مظاهرة للاحتجاج على الظلم والاستبداد. ونخشى أن نرفع قلما لنوقع على عريضة ضد القمع والفساد والمفسدين.. نفكر في طعام أولادنا، ورفاه زوجاتنا، ولا نفكر في حريتنا والقيد الذي كبل أيدينا وعقولنا.. حتى نكاد نستحيل مجرد أفواه تأكل العلف كالأنعام أو أضل سبيلا.
قل لي كيف غلبت ضعفك وانتصرت على نفسك؟ بح لي بسر قوتك التي لا تقهر. قل لي كيف لم تخف حين فضحت اغتصاب الشاب أيمن الدريدي من سجاني وطنه؟ قل لي كيف لم ترتجف يديك وأنت توقع على بيان خطير تكشف فيه جريمة اعتداء مدير سجن برج الرومي عماد العجمي على المصحف الشريف في سجن وطني لا غبار على وطنيته، لا في غوانتنامو ولا في الدنمارك.. بل في سجن تونسي مائة في المائة، إدارة وسجانين ومسجونين..
سجن وطني وإن حمل اسم برج الرومي.. فعلوج الروم التي توهمت أنك قد أخرجتها تسللت عائدة إلينا بأساطيلهم تمخر عباب بحارنا، وتغطي طائراتها سماءنا.. تنام في فرشنا، وتملي على حكامنا كيف يأكلون لحمنا ودمنا يشربون.
ها أنت اليوم قد بلغت الثمانين.. وفي ثمانين حولا عرفت أناسا كثر، لا تحصى أعدادهم ولا تعد.. عرفت الصالحين والطالحين.. عرفت المجاهدين والشهداء والجواسيس والساقطين.. وليتك تكشف لي سر وقوفك دوما وأبدا في صف المجاهدين والشهداء، لا في صف الأنذال والساقطين.
مرت عليك ثمانون حولا.. طويلة ثقيلة.. فيها الأفراح قليلة، وفيها الأحزان لا تحصى عددا.. فكيف حافظت معها على روحك شابة لا تهرم ولا تهزم؟ كيف غلبت أحزانك وأوجاعك وجراحك جميعها وتعاليت عليها، حتى تضمد جراح الآخرين؟
ها أنا أكتب فيك وأكتب وأكتب.. أسألك وأنت صامت كجبال بلادي صامتة في شموخ، وفي جوفها نار الزلازل والبراكين.. اعذرني بجهلي وعجزي أيها الجبل الأشم.. خذ بيدي فما أنا أمامك إلا ذرة في صحراء، وقطرة في لجة من الماء.. علمني كيف أعيش عزيزا، وأموت شامخا عزيزا.. فما أشد بؤس هذه الحياة إن عشناها أذلة وخرجنا منها خانعين.
زادك الله في زادك.. وأطال لتونسنا في عمرك.. فببركتك وبركة أمثالك، ومنهم المناضل الشهم الأشم الدكتور منصف بن سالم، يستمر القطر علينا في النزول.. وتستمر بنا الحياة.. حياة يوشك الاستبداد أن يحولها إلى نار وجحيم.. ولولا علي بن سالم وأمثال علي بن سالم لأكلنا الطغيان وبالت علينا الأمم..
عشت لنا ذخرا وملجأ وملاذا يا علي يا ابن سالم.. عشت عاليا على أعدائك.. شامخا فوقهم شموخ الجبال.. سالما من كل عيب ومن كل مكروه.. حماك الله وحفظك.. وأعطانا شيئا مما أعطاك من فضله.. وبلغك التسعين.. وزادك في العمر حتى المائة وأكثر.. لعلك في آخر عمرك ترى بلدك الذي جاهدت لاستقلاله وقد استقل حقا.. لعلك ترى بلدك يعشش فيه الخير.. وتغرس فيه الفضائل والحرية.. وتقتلع منه شجرة الظلم والطغيان.. وتحترم فيه الكرامة الآدمية.
عش لنا يا علي يا بن سالم حتى نتعلم منك الكرامة والصبر والتضحية والشهامة.. عش لنا، يا ملح الأرض وحجر الوادي، حتى نجد لأبنائنا فيك رمزا حيا نعلمهم أن يقتدوا به، ويسيروا على دربه حتى النهاية.. عش لنا مزيدا من العمر كما عشت لنا ثمانين حولا.. ترجنا رجا.. وتهزنا هزا.. توعينا بحجم آلامنا.. تكشف ضعفنا، وتحرضنا على الكرامة..
أكرمك الله أيها الكريم.. فأنت وقلة قليلة من أمثالك هم من أدرك معنى إسجاد الله ملائكته لآدم تكريما وتعظيما.. ومثلك، في عيد ميلادك الثمانين، يستحق الكرامة والتكريم.. فاقبل مني بضاعتي المزجاة، وعية لساني وقلمي، وعجزي عن التعبير عما يجيش لك في صدري من محبة واحترام، وقصور كلماتي عن أن تفيك حقك، وتقدرك حق قدرك بين الرجال.
رجاء أخير يا سيدي.. ثمانون شمعة ستوقدها يوم السبت (5 جوان 2010) في عيد ميلادك الثمانين.. أرجوك لا تطفئها يا سيدي.. دعها لنا صدقة منك علينا، لعلها تنير لنا دربنا.. درب العميان في هذا الزمن البائس الأعمى المخيف.. زمن القهر والقمع والاستبداد.. لعلنا نبصر بنورها أين نضع أرجلنا ونحن نقتفي أثرك.. أثر الرجال المحترمين.
(انتهى)
==============
تعريف موجز بعلي بن سالم بقلم فوزي الصدقاوي
(علي بن سالم: من مواليد 5 جوان 1930، أصيل مدينة بنزرت، شارك ضمن نخبة من الوطنيين في معركة التحرير سنة 1952 فقام بعمليات تخريب (les sabotages) بقنابل محلية الصنع لعدد من مصالح الاستعمار الفرنسي في بنزرت، وحين كُـشف أمره وأمر رفاقه لاذ بالفرار مع صديقه المناضل محمد الصالح البراطلي، وانتهى به الأمر إلى اللجوء إلى ليبيا حيث تلقى تدريباً عسكرياً ضمن مجموع اللاجئين التونسيين الذين كان الزعيم علي الزليطني يشرف عليهم. التحق بعد ذلك بالمقاومة في الجبال التونسية، كان ضد الاتفاقات التي جاءت بها المفاوضات حول الاستقلال الداخلي، ورغم أنه لم يكن يوماً يوسفياً كما يؤكد دوماً، إلا أن الحملة التي شنها بورقيبة بلجان رعايته على اليوسفيين قد شملته، فتم اختطافه والاحتفاظ به في أحد مراكز لجان الرعاية في حمام الأنف، لكنه فرّ من مكان اختطافه، وظل مختف عن الأنظار إلى أن تدخل لفائدته جلولي فارس ومنحه حماية خاصة.
قاد مجموعة من المتطوعين في معركة بنزرت في جويلية 1961، توفي عدد كبير من رفاقه، قبل أن يقع في الأسر إثر إصابته بشظايا في أسفل الظهر والرقبة، تم إطلاق سراحه في إطار تبادل للأسرى بين الجيش الفرنسي والحكومة التونسية.
وفي سنة 1962 شارك في المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد نظام الحكم البورقيبي وحوكم مع رفاقه فـقضى منها بين كراكة غار الملح وبرج الرومي إحدى عشر سنة سجناً، قضّى منها هو ورفاقه سبعة سنوات في الظلام تحت عمق 100 قدم، مكبلين إلى الحائط بالأصفاد، أطلق سراحه في سنة 1973.
شارك في تأسيس فرع بنزرت للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 1981، وهو أيضاً عضو مؤسس للمجلس الوطني للحريات، وعضو مؤسس ونائب رئيس للجمعية التونسية لمناهضة التعذيب، وودادية قدماء المقاومين. رفع قضية ضد من يثبت البحث تورطه بعد محاولة اغتياله من قبل رجال الأمن سنة 2002.. لا يزال عَلَماً وسَيَظل.)
التعليقات (0)