الصحراء المغربية
بين واقع الانتماء
وبين صراعات التوظيف السياسي
إذا أردت أن تضيّع الحقيقة فاجعلها موضوع صراع بين دولتين من دول العالم النامي … هذا يتضح لمن يتصدى للبحث في قضية الصحراء المغربية ـ الساقية ووادي الذهب ـ وصراع المغرب والجزائر وموريطانيا حولها .
ذلك أن البدهيات التاريخية والجغرافية والطوبوغرافية والاجتماعية والسياسية كلها تلوى لها أعناقها وتحرف ويعاد تشكيلها لمصلحة هذه الدولة أو تلك . والشيء الواحد يأخذ لوناً معيناً هنا ، ولوناً آخر هناك . والمواقف تتغير في مواجهة كل حالة بين اللحظة والأخرى .
والباحث يقف حائراً متردداً ، لا يدري ما يقدم وما يؤخر ، ولا يميز بين الألوان الحقيقية والألوان المزيفة المنتحلة . هذا حالي عندما عقدت العزم على الكتابة في موضوع الصحراء المغربية لاستجلاء جوهره وتحديد أبعاده ومؤشراته ، ودفع شبهات المغرضين حوله .
ذلك أن هذه القضية لها من الخصوصية ما يجعلها من أطرف القضايا التي لم تتخذ إزاءها أي دولة لها صلة بها ، موقفاً واحداً ثابتاً .
وكذلك الأحزاب الوطنية في المغرب والجزائر وفرنسا وإسبانيا والمنظمات الدولية والإقليمية (هيئة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية) . مما يجعل الاستنتاجات المستخلصة من أدبيات هذه الدول والأحزاب والمنظمات ـ كتباً ومنشورات وبيانات …الخ - غير ثابتة ، ويجعل الأحكام المستقرأة منها غير دقيقة … .
والحقيقة المطلقة الكامنة وراء هذا الصراع ضائعة خلف التصريحات اليومية المفعمة بتعابير الوحدة ، والمصير المشترك ، وحقوق الإنسان والتعاون والتفاهم والعدل والسلام … مما يجعل أدوات البحث التي يمكن أن يعتمدها الباحث مجرد أقنعة سميكة تغطي عداء عنيفاً ، وتطرفاً شديداً وتوظيفاً انتهازياً مغرضاً لكل مظاهر الحقيقة ، من أجل اغتيال جوهرها وتصفيتها .
لذلك كان على الباحث أن يسلك منهجاً يطارد فيه الحقيقة ، ويمزق به الأقنعة المتعددة التي كستها إيّاها مطامع الدول المورطة في هذا الصراع وأهدافها وأغراضها .
وهذا يقتضي العودة إلى الجذور … جذور الجغرافية والتاريخ والإنسان ، والمواقف والصراعات والمعتقدات … كي نستطيع أن نقف على ربوة نستشرف منها جوهر الحقيقة بوضوح وشفافية وموضوعية ، حقيقة انتساب الصحراء إلى مغربها أرضاً ، وشعباً ، وانتماءً .
اسـمهــا ورسـمهــــا
اسمها ورسمها سواء … دائما التغير والتبدل والتلون … تماماً كما هو حال مواقف الدول والحكومات والمنظمات والأحزاب المرتبطة بعلاقة مّا معها … .
وكما تجدها أحياناً معشوشبة خضراء ، وأحيانا قاحلة جرداء . تعلوها الصخور السوداء الصماء ، وأحياناً كثباناً رملية متشابهة تسفيها الرياح ، وتعيث فيها العقارب والثعابين والأفاعي … .
كذلك تجد اسمها الذي يطلق عليها عبر التاريخ ـ مع ما حولها من بلاد شمال أفريقيا - ، اسمها الذي كان يوماً مّا : بلاد البربر ، (( The Coast Of Barbaric أو( La Berbric - Barbary) ، ويوماً مّا كان عند الجغرافيين العرب "بلاد المغرب" ، و "جزيرة المغرب" ، وقبل ذلك كان الاسم : ليبيا ـ أفريقيا الصغرى ـ السلسلة الأطلنطية ـ بلاد الليبو "Lebu" ، والمشوشيين "Mashuasha" ، وتماحو "Tamahu" ، وتحنو "Tehnu" ، وكهاكا "Kahaka " ، وظهرت كثير من هذه الأسماء في النقوش الفرعونية التي ترجع إلى ما بين 1700 ق .م ، 1300 ق .م .
كما أطلق الرومان على أهلها اسم : الجيتوليين ، والنوميديين ، والموريين ، أي : المغاربة ولعل هناك صلة بين كلمة "مور" "MAURI" - المغاربة - التي أطلقها عليهم الرومان في العصر الكلاسيكي وبين الكلمة العبرية "MAHUR"- بمعنى الغرب التي عممت على جميع قبائل ومناطق شمال أفريقيا . ومنها اشتق اسم "موريطانيا" ـ أي : بلاد المغاربة ـ في عهد الملك البربري "يوغورطا" في حروبه مع الرومان (110 ق .م ـ 106 ق .م) .
ومن هذه الكلمة اشتق العرب الفاتحون اسم " المغرب " الذي كان يشمل : - ليبيا ، تونس ، الجزائر ، مراكش . ثم صار مغرباً أدنى : "تونس " ومغرباً أوسط "الجزائر" ، ومغرباً أقصى ـ أي أبعد ـ هو مراكش … ثم خصص اسم المغرب لمراكش بعد أن برز تعبير القطر الجزائري ، والقطر التونسي .
ويضم المغرب بهذا المدلول : المغرب الأقصى ، أي : المناطق التي كانت أول جزء ينشق عن الخلافة العباسية ، ويؤسس دولة مستقلة على رأسها المولى إدريس الأول ويحتفظ باستقلاله طيلة التاريخ الإسلامي عن سلطة الخلافة الإسلامية بما فيها الدولة العثمانية . ويشمل المناطق الشاسعة ما بين الأبيض المتوسط ونهر السنغال جنوباً ، وما بين المحيط الأطلسي غرباً ، وحدود الخلافة التركية ـ غرب الجزائر ـ شرقاً .
ولئن كان مصطلح ـ الصحراء الغربية ـ يناسب الموقع الجغرافي للمنطقة ، ويناسب التعبير الدبلوماسي الذي يبحث عن الحيادية والموضوعية . فإنه تاريخياً كان أصلح منه الآن … لأنه أطلق اعتباراً لموقع المنطقة من مركز السلطة العالمية التي كانت مهيمنة حينئذ . أي الإمبراطورية الرومانية ، ثم الإمبراطورية الإسلامية ، وهذه الصحراء في غربها .
أما بعد أن انتقلت السلطة العالمية إلى أوربا الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين فإن الصحراء صارت بالنسبة لها جنوبية . وبعد حرب الخليج ونهاية الحرب الباردة ، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي الجديد فإنها بالنسبة لواشنطن تعد"الصحراء الشرقية" .
وعموماً فإن موقعها على الطبيعة يبتدئ عندما تغادر مدينة أكادير وتتجه جنوباً بمحاذاة المحيط الأطلسي : هناك تدخل الصحراء ، والمنطقة الأولى منها يطلق عليها "طرفاية" وعاصمتها "طانطان" ومساحتها 25600 كلم2 . والمنطقة التي تليها معروفة باسم الساقية الحمراء التي تمتد إلى الجنوب من وادي درعة ، ومساحتها 82000 كلم2 ، ثم تليها على امتداد الساحل منطقة وادي الذهب التي يعتبر جزؤها الشرقي امتداداً لمنطقة "تيرس" الموريطانية ، ومساحتها 19000 كلم2 .
أما امتداد الصحراء الغربية شرقاً فمنطقة تندوف والساورة وتوات إلى حدود مالي جنوباً ، وهي المناطق التي اقتطعتها فرنسا من المغرب وضمتها إلى الجزائر ، وما زالت موضوع نزاع هادئ بين الجارتين " المغرب والجزائر " .
فإن واصلنا الاتجاه جنوباً بلغنا حدود موريطانيا التي كانت في يوم ما جزءاً من الصحراء ، وامتداداً طبيعيا لبلاد موريطانيا الغربية ، أو الطنجية في عهد الرومان ، أو المغرب الأقصى في العهد الإسلامي .
وعلى هذا فالحدود الطبيعية لهذه المنطقة التي شغلت الأمم المتحدة ، ومنظمة الوحدة الأفريقية ودول شمال أفريقيا ، والدول الأوربية ذات العلاقة الاستعمارية بأفريقيا هي من الشمال : المغرب الشمالي ، ومن الجنوب رأس كانسادور ـ لكويرة ـ ومن الغرب المحيط الأطلنطي ، ومن الشرق صحراء تندوف في القطر الجزائري . أما مساحتها فحسب المسح الإسباني 272000 كلم2 ، داخل منطقة عرضها 460 كلم وطولها 1200 كلم .
وبالنسبة للموقع الجغرافي الدولي ، يمكن تحديد المنطقة بخطي الطول 8 و 20 وبخطي العرض 28 و20 ، ويمر خط الطول 16 على مدينة الداخلة ، في حين يشكل خط الطول 12 الجزء الأوسط من حدود الصحراء مع موريطانيا .
أما عن التسمية ، فإن إطلاق "الساقية الحمراء" سببه نهر كان في المنطقة يمتد على طول 450 كلم ، وتتلون مياهه بالأتربة الحمراء التي تحملها من المرتفعات ، كما أن اسم وادي الذهب )_ORO RIO DE (أطلقه البرتغاليون عندما احتلوا المنطقة في منتصف القرن الخامس عشر بسبب ما كان مزعوما من وجود معدن الذهب في تربته ، وهو زعم لم يثبت لحد الآن .
وعموماً فإن المغاربة كانوا يعتبرون المنطقة حدود العمران ويطلقون عليها" الساقية الحمراء " ويعدونها جزءاً من بلاد سوس (الاستقصاء 3/58) .
أما المظهر الخارجي و الشكل الصحراوي ، وما احتوى عليه من تشكيلات صخرية مشاهدة في الوقت الراهن فهو نتيجة ما عرفته القشرة الأرضية في العصر الجيولوجي الثالث . أي في الوقت الذي تحولت فيه منطقة شمال أفريقيا من بحار إلى جبال .
وقد كانت درجة الحرارة في المنطقة أكبر بكثير مما هو عليه الحال في الوقت الحاضر ، حيث الطقس رطب بالقرب من الشاطئ ، بسبب الرياح المعتدلة التي تأتي من المحيط الأطلسي .
أما الأمطار فقليلة : 40 مم في الكويرة ـ 43 مم في العيون . والمياه الجوفية كبيرة وقريبة من سطح الأرض يسهل استثمارها ، بل إن من الطوبوغرافيين من يذهب إلى أن الصحراء المغربية تسبح فوق بحيرة من الماء .
وتمثل الصحراء المغربية موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية ، فهي تعتبر نقطة دفاع طبيعي ، ومراقبة دقيقة لجزر الكناري والطرق البحرية في المحيط ، كما تشكل المعبر الرئيسي براً وبحراً وجواً ـ ما بين أوربا وأفريقيا ، وجزءاً مهماً من الجناح الغربي للعالم الإسلامي والوطن العربي يجب حمايته وصيانته والدفاع عنه .
انطلاقاً من خاصية التحول والتغير التي تطبع القضية الصحراوية فإننا نتيه في غمرة البحث عن هوية سكان المنطقة وأصولهم وعددهم .
لذلك نفضل حل الإشكالية بطريقة عكسية استقرائية تبتدئ بالتعداد الحالي ، ثم نتبع الجذور .
وإذا ما بدأنا بتقديرات أطراف النـزاع نجد أن الإحصاء المغربي الرسمي المعلن في 20 مارس 1966 كالتالي :- .
طرفاية : 27976 من المهاجرين .
الساقية ووادي الذهب : 48000 من المقيمين .
موريطانيا : 9000 من المهاجرين .
تيندوف : 1200 .
أما حزب التقدم والاشتراكية في كتابه : الصحراء العربية المغربية ص 66 : فعنده أن عدد السكان كان قبل الاحتلال الإسباني يبلغ 200000 والآن لا يتجاوز 60000 .
واليسار المتطرف في مجلة أنفاس ، (مقال : فلسطين جديدة بالصحراء) قدروهم بـ 250000 .
وبالنسبة للبوليزاريو عددهم 375 ألف عدا ما في المغرب وموريطانيا والجزائر والدول المجاورة .
ثم في مرحلة متأخرة من النـزاع نفاجأ بأن الطرفين قد قبلا الاحتكام إلى الإحصاء الإسباني الذي أقرته الأمم المتحدة ، ونشر سنة 1974 ، وحدد العدد بـ (73497) .
ثم فاجأ المغرب المجتمع الدولي عندما ألقى في الساحة السياسية بمطلبه بضرورة إشراك الصحراويين المقيمين بالمغرب في الاستفتاء . وعددهم 120000 ، وهو عين ما أشار إليه المرحوم علال الفاسي في ندوة الشبيبة الاستقلالية (العلم 15 ، مارس 1972) .
وتقبل الأمم المتحدة طلب المغرب وتؤجل الاستفتاء وتتردد بولزاريو بين الرفض والقبول ، ثم يتم الاتفاق على أن يجتمع زعماء قبائل الصحراء يوم 15 يوليو 1993 للنظر في قوائم الذين يسمح لهم بالمشاركة في الاستفتاء طبقاً لإحصاء إسبانيا , وقوائم المغرب الجديدة … .
أما عن أصول السكان فإن الاختلاف في ذلك أكبر من أن يحد ، فمن قائل بأنهم من الجنس الآري ، ومن قائل بأنهم من الغاليين والرومان والوندال النازحين من الشمال ومن قائل بأنهم نزحوا عقب انفجار سد مأرب في اليمن وعقب هزيمة الكنعانيين في معركة طالوت وجالوت بفلسطين .
إلا أن مارمول كربجال في كتاب أفريقيا ”L’Afrique” De Marmol يقول مؤكداً : (لكن أشهر المؤلفين الأفريقيين يؤكدون أن أول سكان بلاد البربر ونوميديا كانوا خمس جاليات أو قبائل من السبئيين جاءوا مع مالك الأفريقي ـ أفريقش ـ ملك اليمن ، وما زالوا يحملون أسماءهم ويسمون : صنهاجة ، ومصمودة وزناته وغمارة ، وهوارة ومنهم خرجت ستمائة سلالة من البرابرة) .
وهذا الرأي موافق لما ذكره ليون الأفريقي في كتابه (وصف أفريقيا) حيث يقول (1/36) : ينقسم الأفارقة البيض إلى خمسة شعوب : صنهاجة ومصمودة ، وزناتة ، وهوارة ، وغمارة .
وابتداء من القرن الثالث الميلادي استولت زناتة وصنهاجة على الصحراء الغربية إلى تخوم السنغال والسودان ، وفي زحفهم هذا أخذوا يشيدون بعض المراكز الحضارية . وقبل ذلك في القرن الثاني بعد الميلاد ارتحل عدد كبير من الصنهاجيين باتجاه الجنوب بحثاً عن مستقر آمن وانتهى حالهم بعودة قسم منهم ، واستقرار القسم الباقي الذي سوف يكون لاحقاً الذرية التي سينحدر منها مؤسسو الامبراطورية المرابطية .
ثم أثناء الفتح العربي في القرن التاسع الميلادي وصلت القبائل العربية الحسانية إلى الصحراء في مهمة أسلمة المنطقة بعد أن ارتد أهلها الذين أسلموا على يد عقبة بن نافع … .
وعلى كل حال فإننا لا ننكر أن المنطقة وفد إليها كثير من الأجناس الزنجية من الجنوب ، والأوربية من الشمال ، وإن كانوا قلة بالنسبة إلى السكان الأصليين زناتة وصنهاجة ومن هاجر من اليمن وفلسطين ، ومن جاء فاتحاً في العهد الإسلامي … .
وامتزاج هذه الشعوب هو ما يكون البنية الأساسية للإنسان الصحراوي الحالي خاصة والإنسان المغربي عامة … غير مغفلين أن التعريف الموضوعي يفرض أن نحكم بعروبتهم ، نظراً لتعاظم الإرث البيولوجي العربي فيهم ولهيمنة التراث العربي الإسلامي وتقاليده وطقوسه ونظمه عليهم … وهذا يحتم علينا أن نركز على واقع الإنسان الصحراوي الحالي وتقسيماته القبلية والجغرافية…
لذلك نستهل هذا التصنيف بما ذكره الأستاذ محمد بنعزوز حكيم في كتابه : - السيادة المغربية في الأقاليم الصحراوية من خلال الوثائق المخزنية ، ص 26 ـ إذ يسجل أنها خمس وعشرون قبيلة هي : تكنة _ آيت موسى وعلي ـ آيت لحسن _ آيت جمل ـ أزرقيين ـ أولاد تدرارين ـ العروسيين أولاد دليم ـ الركيبات ـ أولاد بوسبع ـ زمور ـ البويهات ـ أهل الشيخ ماء العينين ـ المويسات ـ فيلالة ـ يكوت ـ توبالت ـ كميار ـ مجاط ـ الفويكات ـ الكراع ـ المناصير ـ أولاد موسى _ أولاد علي ـ شتوكة … .
هذه هي القبائل التي أوردها الأستاذ محمد بن عزوز حكيم ، لكننا إذا ما رجعنا إلى كتاب الصحراء الغربية للدكتور علي الشامي (ص 78-79) نجده يضيف أسماء قبائل أخرى مثل أولاد عبد الواحد أهل عبد الحي ـ برابيش ـ سكاما ـ تجالانت ـ تارقا ، ويهمل ذكر قبائل أخرى ذكرها بنعزوز حكيم مثل المويسات ـ يكوت ـ زمور … الخ .
ثم يقسم القبائل الصحراوية إلى ثلاث مجموعات حسب مميزاتها الاجتماعية ونشاطها :
فهناك مجموعات مقاتلة : (أولاد دليم ـ أولاد بوسبع ـ رقيبات الساحل ـ رقيبات القواسم ـ تكنة ـ العروسيين ـ برابيش ـ سكاما) .
وهناك قبائل مرابطية أصحاب زوايا دينية : (أهل الشيخ ماء العينينـ بارك الله ـ أهل عبد الحي ـ فيلالة ـ توبالت ـ تجالانت ـ تارقا) . والقسم الثالث لم يصنف مهمته ولا ميزته وهم حسب رأيه : أولاد عبد الواحد تيدرارين ـ ميارا ـ ايمرغوين ـ فويكات ـ المناصير .
وهذا الخلط في تسمية القبائل وتصنيفها الذي نجده عند هذين الكاتبين مرده إلى عدم الدقة في التمييز بين كل قبيلة وفروعها (أفخادها ـ شعبها) . وإلى عدم التمييز بين أسماء بعض الأماكن وأسماء القبيلة المنتسبة لها ، فمثلاً : الركيبات تنقسم إلى قسمين كبيرين : ركيبات الساحل وتضم فروعاً هي : أولاد موسى ـ السواعد ـ أولاد داود ـ المؤذنين ـ أولاد الشيخ ـ أولاد طالب .
وركيبات الشرق أو القواسم ، وتضم البيهات _ أهل إبراهيم وداود ـ الفقرة .
وقبيلة التكنة تضم اثني عشر فرعاً منهم أزرقيين ـ آيت حسن ـ أولاد تيدرارين ـ العروسيون .
أما أولاد دليم : فمن فروعها : الشتاكلة ـ وأيموراغن ـ المناصير .
أما زمور التي اعتبرها الأستاذ بنعزوز حكيم قبيلة فهي ليست إلا أرضاً تسمى " تيرس زمور " أو كلتة زمور . ويعتمد بوليزاريو للاستدلال على الشخصية السياسية للصحراء الغربية على اعتبار القبائل المذكورة ذات تركز تاريخي قديم بالمنطقة ونشاط تجاري ورعوي وسياسي وانفصال طبيعي عن قبائل الشمال ، إشارة منهم إلى أن المرابطين انطلقوا من الصحراء الغربية إلى الشمال .
كما ينطلق المغرب في محاولة استرجاعه للصحراء من اعتبار قبائلها امتداداً لقبائل مغربية موجودة في الشمال أو مهاجرة منه إلى الجنوب … .
فالركيبات مثلاً ينتسبون إلى الأدارسة في الشمال وجدهم الأول الذي انتقل من ضواحي تطوان ـ جبل العلم ـ إلى الصحراء هو أحمد الركيبي .
وأولاد تيدرارين جدهم أحمد بن غنبور هاجر إلى الصحراء من وزان بالشمال .
والعروسيون كذلك أدارسة هاجروا من جبل العلم قرب تطوان إلى الصحراء … إلى آخر القائمة .
إلا أن الشيء المؤكد هو أن الاعتماد لإثبات الهوية الصحراوية السياسية أو الإلحاق المغربي للصحراء على أصول القبائل غير موضوعي ولا يؤيد وجهة أي من الطرفين لأن الامتداد القبلي لسكان الصحراء ليس قاصراً على المغرب فقط بل هو موزع بين أطراف المنطقة العربية كلها .
فأولاد دليم مثلا فرع منهم في العراق ـ وفرع في فزان في ليبيا وفرع في المغرب قرب سيدي قاسم .
والركيبات : يوجدون في تندوف ويوجدون في ترهونة بليبيا ، كما توجد قبيلة أولاد موسى الركيبات ، في موريطانيا (أطَّار والزويرات) .
وآيت لحسن : في موريطانيا باسم (إد ولحسن) وفي ليبيا باسم (الحساونة) .
والكراع : في موريطانيا ، وفي تشاد باسم الكرعان .
أولاد بو سبع : في مالي من الطوارق ـ في غرب ليبيا الجبل الغربي ـ وفي مصر ـ وفي سيدي المختار (شيشاوة ـ بعيداً عن مراكش بـ 70 كلم) .
والعروسيون : في ناحية سطات بالمغرب ـ وفي موريطانيا . وفي ليبيا .
ازرقيين : في تونس قرب منطقة تطاوين باسم الزرقان ، وفي يفرن بليبيا .
وهكذا نجد أن القبائل الصحراوية كلها تقريباً ذات امتدادات عربية يصعب معها اتخاذها دليلاً على صحراوية الصحراء أو مغربيتها … .
ويزداد أمر الاعتماد على أنساب القبائل للاحتجاج للمغرب أو البوليزاريو تعقيداً إذا ما علمنا أن العائلة المالكة نفسها من جزيرة العرب ـ ينبع ـ وأن قبيلة صحراوية كلها "فيلالة" تعتبر امتداداً لقبائل تافيلالت التي تنتسب إليها الأسرة العلوية . بل إن الصحراويين أخوال للملوك العلويين كما ذكر الناصري عن زواج الشريف بن علي بفتاة صحراوية عندما كان معتقلاً عند أبي حسون السملالي فانجب منها ولدين ، (الاستقصاء ج 7 ص 14) وبالتالي يتعذر ـ اعتماداً على الأنساب ـ التمييز بين مدلول أن المغرب صحراوي ، أو أن الصحراء مغربية .
الوضع الاجتماعي في منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب ـ الصحراء المغربية ـ متأثر جداً بطبيعة المنطقة الصحراوية ، وكونها جزءاً في قارة أفريقية متخلفة ، وكونها كانت إلى وقت قريب تحت استعمار إسباني فاشستي متخلف .
على أن النسق ـ النظام - الاجتماعي بها يعتمد على نظام قبلي حاد تنعزل فيه كل قبيلة عن الأخرى ، وتخضع كل منها لرئيس يختاره كبراؤها تستشيره وتتحاكم إليه لحل كل خلاف ، وترسله مع بطانته لمفاوضة القبائل الأخرى . أو لأداء البيعة للسلطة المركزية ، وتقدمه لقيادة الجهاد ضد الغزو الأجنبي .
ومعيشتهم تعتمد كثيراً على اللحوم والفواكه المجففة ، التي يستوردونها من الشمال ، ويعتبر خبز القمح والشعير والكسكسو أَهم طعام لديهم .
أما اللباس فيمتاز بكونه ذا لونين أبيض وأزرق ، الأبيض للشرفاء والأزرق لعامة الناس ، ومنه أطلق عليهم الأوربيون "الرجال الزرق" .
أما العمامة واللثام اللذين اشتهروا بهما وسموا بهما "الملثمين" فهما عادة عربية استقدمها المهاجرون الأوائل معهم من الجزيرة العربية ، ومن ذلك خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي حاكم العراق في عهد بني أمية الذي يقول :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
والزواج عندهم على الشريعة الإسلامية حسب المذهب المالكي ، كما هو الحال في الشمال المغربي إلا أنَّ التعدد عندهم نادر جداً التزاماً منهم بالآية القرآنيــــة : ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة ( .
لكن كثيراً مما ذكرنا هنا عن الوضع الاجتماعي أخذ في الأُفول والتغير بعد استرجاعها عملياً إلى المغرب ، والجهود الجبارة التي بذلت لتطويرها ، والتسهيلات الكبيرة التي أعطيت للرساميل المغربية التي تنقل إليها . وسكان الشمال المغربي الذين يقبلون الاستقرار فيها ، مما أدى إلى نهضة عمرانية وثقافية ، وإلى تبدد كثير من العادات والتقاليد والأعراف القديمة ، وإلى إقحام المنطقة بقوة في أجواء العصر الحديث .
أما الحياة الاقتصادية فتعتمد على معادن الفوسفاط في بوكراع ، والحديد بناحية زميلات اكراسات ، والبوتاس في الساقية الحمراء ، والنحاس في جبل أنيال . وعلى المزروعات من الذرة والشعير وتربية المواشي من الإبل والغنم والماعز (حسب إحصاء 1972 : 39000 جمل ، 57800 ماعز ، و11230 رأس غنم) وعلى الصيد البحري الذي يعتبر الثروة الحقيقة الأولى للصحراء الغربية .
تعاقب على المغرب الأقصى ـ بما فيه السوس الأقصى ، الصحراء - قبل الإسلام ، غزاة من ثلاثة أجناس .
الفينيقيون التجار الذين اكتفوا بالمعاملات التجارية في الموانئ التي لم يتجاوزوها في أغلب الأحيان .
ثم الرومان ، فالبيزنطيون فالوندال ، وكلهم جاءوا غزاة فاتحين ، ولكنهم لم يكونوا يتجاوزون الشواطئ ، وفي أحيان قليلة كانوا يؤسسون بعض المراكز العسكرية المحصنة في الدواخل ، مثل مدينة "هليوبوليس" أو "وليلي" قرب مدينة زرهون ، التي كانت مرتبطة بمدينة طنجة بواسطة طريق بري شبه معبد .
أما في الدواخل فإن السكان الأصليين كانوا يحتفظون بحريتهم الكاملة ، ويمنعون الغزاة بحد السلاح من التوغل وإتمام السيطرة على البلاد ، وكانت لهم طيلة هذه العهود ممالك صغيرة وإمارات أشبه ما تكون بتجمعات فدرالية للقبائل ، عليها رئيس يسمى "أكليد" وفيما كان بعض هؤلاء الـ "أكليد" ـ الأمراء ـ يؤدون الجباية لهرقل ملك الروم ولغيره من أباطرة الغزاة ، اتقاء لشرهم ، واستعانة بهم على منافسيهم من رؤساء البربر الآخرين . كان أمراء برابرة غيرهم يرفعون شعار طرد الاستعمار الأجنبي وتوحيد البلاد كما هو حال "يوغورطا" .
وظلت المنطقة على هذا الحال … مراكز سلطوية أجنبية في السواحل وبعض المدن الداخلية ، وأراضي سائبة يحكمها أمراء محليون ، أو شيوخ قبائل . دون أن تقوم دولة كبرى متماسكة تؤسس نظاماً سيادياً على كامل التراب إلى أن جاء عقبة بن نافع الفهري ، القائد العربي المسلم فاتحاً في عهد يزيد بن معاوية الأموي (62 هـ) فوجد الأهالي ما بين مجوس على دين أجدادهم الأول ، أو يهود بتأثير نفوذ مملكة سليمان عليه السلام في فترة معينة ، أو مسيحيين على دين حكام السواحل من الروم والبزنطيين .
أما الجنوب المغربي ـ السوس الأقصى أو الصحراء الغربية ـ فقد كان سكانه كلهم مجوساً في هذه الفترة (الاستقصاء ، ج 1 ص 82/83) . ثم ظلت منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب تتردد بين الإسلام والردة ، وبين الانضباط لسلطة الخلافتين الأموية والعباسية وبين التمرد والثورة . إلى أن أسس إدريس الأول دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى وانفصل بها عن الخلافة المركزية .
وطيلة فترة الأدارسة التي امتدت ما بين 172 هـ إلى 375 هـ كانت الصحراء المغربية بين مد وجزر ، تحت نفوذهم المباشر تارة ، وغير المباشر تارة ، وفي حالة تسيب تارة أخرى ، وذلك بسبب الحروب التي كانت تشن عليهم من دولتين عربيتين مجاورتين هما دولة العبيديين في أفريقيا (الجزائر) والأمويين في الأندلس (الاستقصاء ج1 ،ص 205) .
ومنذ سقوط دولة الأدارسة إلى تمام قرن من الزمان هو عمر دولة زناتة وبني يفرن كانت المنطقة في شبه حرب أهلية بين الزناتيين وحكام الأندلس مرة وبين الزناتيين والخارجين عليهم تارة أخرى ، وتركزت الصراعات الحربية في شمال المغرب الأقصى والأوسط ، وحول المدن الرئيسية ذات الأهمية العمرانية والسياسية ، وأهملت المناطق النائية غير المـأهولة وفي مقدمتها الصحراء التي أخذ ينـزح إليها من خاف على نفسه أو يئس من إصلاح حال الأمة ، واستبعد حلول السلام ، أو استنكر التقاتل بين الإخوة .
وبذلك تكونت بعيداً عن السلطة المركزية أرضية اجتماعية وثقافية وسياسية من الرافضين ، أشرف على تكوينهم العقدي على النهج السلفي فقيه متمكن هو عبد الله بن ياسين الذي كون منهم في الصحراء جيشاً قوياً ، زحف به إلى الشمال بقيادته الروحية ، وقيادة أبي بكر بن عمر اللمتوني وابن عمه يوسف بن تاشفين اللمتوني الحربية .
وبذلك قامت في المغارب (الأقصى والأوسط والأدني) وبرقة وطرابلس إلى الحدود المصرية (السلوم) شرقاً ، وإلى حدود بلاد الغال في أوربا شمالاً ، وإلى نهر السنغال وبحيرة تشاد جنوباً ، وعلى ضفاف المحيط الأطلسي غرباً ، دولة يقودها سكان الصحراء المغربية ، ثم وَرَثَ هذه الأمبراطورية عنهم أمراء الموحدين فيما بعد …
هكذا تداولت القبائل المغربية السلطة المركزية ، فبعد أن كان الحكام يأتون من الشمال إلى الجنوب ، أخذ الجنوب يصدر إلى الشمال رجال السلطة ، وكلا الحكام - الجنوبيين والشماليين - يعترف بهم شعبياً وشرعياً حكاماً للمغرب الأقصى من طنجة إلى نهر السنغال .
إن التفاعل السياسي بين شمال المغرب وجنوبه ـ صحرائه ـ أخذ منذ عهد المرابطين شكل مشروع وحدوي بعيد الأثر في تاريخ المنطقة فالشمال الذي كان يهيمن على الجنوب في القرن التاسع أصبح جنوباً يهيمن على الشمال في القرن الحادي عشر ويصوغ روابط تاريخية عميقة عبر الجزائر وتونس وليبيا ويطرد من المنطقة كلها على امتداد التاريخ المرابطي والموحدي كل المذاهب غير السنية ـ خوارج وشيعة وغيرهما ـ ويوحد الشمال الأفريقي كله حول المذهب المالكي السني ، باستثناء إباضية قليلة جداً في الجزائر والجبل الغربي بليبيا .
وبقيت الصحراء بعد ذلك تحت نفوذ السلطة المركزية في عهد المرينيين والوطاسيين والسعديين حيث تمكنت السلطة المركزية من إحكام قبضتها على الصحراء الغربية في عهد السلطان "المنصور الذهبي" الذي امتد سلطانه إلى السنغال .
وظلت العلاقة بين الشمال والجنوب على حالها في عهد العلويين الذين كانوا يبعثون إليها بالقضاة والفقهاء والولاة ويشرفون على قمع الثورات التي تنشب فيها بين لحظة وأخرى كما ذكر ذلك الناصري في الاستقصاء (ج 9 ص 177) في مجال حديثه عن غزو الجنوب المغربي لتهدئته سنة 1299 هـ ووصول الجيش إلى قبيلة آيت باعمران وتولية عمال وفقهاء وعلماء في المنطقة للإرشاد والإدارة . هكذا استمر حال الصحراء الغربية مرتبطاً بالشمال ارتباطاً بشرياً ولغوياً ودينياً وسياسياً تارة ، أو ارتباطاً بشرياً ودينياً ولغوياً في فترات التسيب والفوضى .
الصحراء المغربية والعد التنازلي نحو الاستعمار
منذ انهارت امبراطورية الموحدين عام 1269 م دخلت المنطقة مرحلة الضعف وكانت أولى بوادره تعددية مراكز السلطة (بنومرين في المغرب الأقصى ، بَنُوزيَّان في الجزائر ، بنو الأحمر في الأندلس) .
وأخذ الوضع السياسي يأخذ شكل علاقات متناقضة وتحالفات متغيرة تدفع بني زيان إلى محاربة المرينيين أحياناً ، وتدفع بني الأحمر إلى التحالف مع المسيحيين ضد بني مرين أحياناً أخرى .
وفي نفس الوقت كانت بوادر استراتيجية أوربية غربية مسيحية تتكون على أساس توحيد شبة جزيرة "إيبريا " وعزل بني الأحمر عن مراكز القوة الإسلامية في المنطقة تمهيداً لطرد العرب من أسبانيا ، ثم التقدم لاحتلال المناطق الساحلية لأفريقيا الشمالية تمهيداً للسيطرة عليها .
وقد بدأت الخطوات الأولى لتنفيذ هذه الاستراتيجية بإشراف الكنيسة الكاثوليكية ، وذلك بتوحيد الممالك الصغيرة في استورياس ، وأراغون ، وقشتالة ، وتوجت باتفاقية طور ديسياس سنة 1494م التي مهدت لقيام سياسة مشتركة لتقسيم أفريقيا عام 1509 م والتي أخذت شكلها الكامل بقيام وحدة شبه الجزيرة الإيبيرية تحت عرش فليب الثاني ملك أسبانيا عام 1580 م ، الأمر الذي انتج أسبانيا موحدة وقوية في وجه مغرب ضعيف ومفتت ، ثم تلتها الخطوات التالية بقيام الوحدة البرتغالية ـ الإسبانية على أسس استعمارية قوامها احتلال الشواطئ المغربية واتخاذها منطلقاً للدفاع عن الوحدة المسيحية في مواجهة إسلام دائم الاستنفار .
وفي نفس الفترة بدأت عمليات التدخل الإسباني في الصحراء الغربية مستغلة انكفاء السلطة المركزية على نفسها ، وانحسار نفوذها عن شواطئها الشمالية وانشغالها بمكافحة الأتراك في الشرق (الجزائر) والمسيحيين في الشمال والثورات الداخلية في السهول والجبال .
ففي عام 1504 م قام الإسبان بأول غزو للصحراء الغربية انطلاقاً من جزر الكناري حيث نهبوا قافلة لقبيلة "تكنة" في عملية بحثهم عن الذهب والعبيد .
وفي أواسط القرن الخامس عشر (1476 م) أنشأت أسبانيا برجاً في مصب وادي الشبيكة أطلقت عليه "Santa CRUZ De Mar PEQUENA " .
وفي سنة 1492 م استرجعه المغاربة ، ولكن الأسبان أعادوا بناءه سنة 1496 م ، فاسترجعه المغاربة مرة أخرى سنة 1517 م ، ثم أعاد الأسبان احتلاله في نفس السنة ، ولم يسترجعه المغاربة إلا في سنة 1527 م .
ومرت 240 سنة على تحطيم البرج بعد استرجاعه من طرف المغاربة ، حين حط بنفس المكان الإنجليزي "كلاص" سنة 1764 فطرده المغاربة .
وأثناء المفاوضات الإسبانية المغربية سنة 1766 م على يد السفير المغربي أحمد الغزال كان من بين المطالب التي قدمها الملك كارلوس الثالث الإذن بإعادة بناء البرج "SANTA CRUZ" . ونصت الاتفاقية بين الطرفين في نصها العربي على أن المغرب لا يوافق على طلب الأسبان ولكن محرر النص الإسباني أثبت أن البرج خارج حدود المملكة المغربية … ومرت 93 سنة دون أن تتمكن أسبانيا من بناء البرج ـ رغم خديعتها للمغرب بالنص الأسباني ـ إلى أن أعلنت الحرب على المغرب سنة 1859 وهزم الجيش المغربي في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمن فعرضت عليه السلطات الأسبانية ، صلحاً يقضي بأن يسلم إلى أسبانيا قطعة أرض لإنشاء مركز صيد في المكان الذي كان يوجد فيه برج سانتا كروز سنة 1478م ، ودون أن يعرف المفاوض المغربي ولا الإسباني المكان الذي كان فيه البرج ، وإنما نصت المعاهدة على أن تقوم لجنة مشتركة بتعيين موقعه .
وفي سنة 1879 نزل بطرفاية الإنجليزي Mackenzic ، مدعيا أن الأرض خلاء ، رغم احتجاجات المغرب المتوالية التي أيده فيها الأسبان لأبعاد تاكتيكية ، والتي قدمها نائب السلطان بطنجة إلى سفراء الدول المعتمدين هناك يوم 28/1/1879 .
وفي يوم 3 نوفمبر 1884 قررت أسبانيا أخذ ما نصت عليه المعاهدة قسراً ، فنـزل في منطقة الداخلة الأسباني RONELLI وأنشأ كوخاً من خشب جعله مركزاً للتجارة باسم شركة تجارية أسبانية ، وفي يوم 26 ديسمبر 1884 أعلنت الحكومة الأسبانية للدول الأوربية نزولها بالداخلة وبسط حمايتها عليها دون أن تخبر المغرب إلا أن المغاربة استطاعوا طرد الأسبان من المركز في 9 مارس 1885 م .فاحتجت أسبانيا يوم 16 إبريل على الاعتداء المغربي ، فأجابها المغرب بأنه كان قد حذر من عواقب نزول الأجانب بالشواطئ المغربية وإذاك قررت أسبانيا استخدام القوات العسكرية ، فأرسلت مع بونيلي كتيبة عسكرية تحت قيادة ضابط يوم 8 يونيو 1885 … ومنذ ذلك الوقت ظل المركز يتعرض لمحاولات التحرير (سنة 1886 ـ 1887 ـ1888 ـ 1889 ـ 1890 ـ1892 ـ 1894) .
وفي يوم 13 مارس 1895 أبرمت بين المغرب وبريطانيا العظمى معاهدة مراكش التي استرجع المغرب بمقتضاها المنطقة التي كان الإنجليزي ماكينزي قد أنشأها بطرفاية .
وفي يوم 20 يوليوز سنة 1900 م أبرم بمراكش بروتوكول مغربي أسباني ينص على أن يعهد إلى لجنة مشتركة بالبحث عن مكان يقام فيه مركز للصيد المتفق عليه في معاهدة تطوان ، 26-4-1860 ، وأن ذلك سيكون بالشاطئ المغربي الممتد من راس جوبي ـ في طرفاية إلى راس بوجادور بالساقية الحمراء ، وهذا اعتراف ضمني بأن الصحراء مغربية يضاف إلى اعتراف بريطانيا في المعاهدة السابقة (معاهدة مراكش 13-3-1895) .
وفي نفس الوقت كانت أسبانيا تفاوض فرنسا من أجل اقتسام الأرض المغربية برمتها ووقع الطرفان يوم 27-6-1900 بباريس معاهدة جزئية خاصة بالصحراء تأخذ بمقتضاها أسبانيا وادي الذهب من الرأس الأبيض في الجنوب إلى رأس بوجادور في الشمال .
وفي يوم 11/11/1902 تم الاتفاق بين أسبانيا وفرنسا على اقتسام باقي الأراضي المغربية على أن تكون لأسبانيا منطقتان محميتان واحدة بشمال البلاد ، وأخرى بجنوبها ، والجنوبية تمتد من رأس "غير" قرب أكادير إلى راس بوجدور بالساقية الحمراء ، إلا أن البرلمان الأسباني لم يوافق على المعاهدة .
وفي 8 أكتوبر 1904 كانت بين فرنسا وأسبانيا معاهدة سرية لاقتسام المغرب على أن تكون لإسبانيا منطقة شمالية (سلسلة جبال الريف وشاطئ الأبيض المتوسط) ومنطقة جنوبية (من رأس بوجدور جنوباً إلى قرب أكادير شمالاً) ولكن هذه المعاهدة لم يتم تنفيذها إلا بعد عقد معاهدة مدريد 27/11/1912 التي تمت بعد صفقة مقايضة بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا ، تتنازل فيها فرنسا لبريطانيا وإيطاليا وألمانيا على حقها في احتلال طرابلس ومصر والكونغو ، على أن تتنازل هذه الدول لفرنسا عن حقها في احتلال الشمال الأفريقي . وكان على أسبانيا نتيجة هذه الصفقة أن تعوض لفرنسا بالتنازل لها عن بعض التراب المغربي الذي حصلت عليه بمقتضى معاهدة 8 أكتوبر 1908 . وبعد أن فرضت الحماية على المغرب في 30 مارس 1912 نفذ الاتفاق الفرنسي الأسباني على تقسيم المغرب بينهما ، فكان لأسبانيا منطقة بالشمال ـ الشريط الساحلي على الأبيض المتوسط وجبال الريف في امتداد جنوبي إلى سوق أربعاء الغرب - ومنطقة بالجنوب هي الساقية الحمراء ووادي الذهب ، وبقي لفرنسا ما دون ذلك (ما بين سوق الأربعاء شمالاً إلى قرب إيفنى جنوباً ، ومنطقة شنقيط (موريطانيا) .
وبمقتضى عقد الحماية وقع الاتفاق بين الأسبان والفرنسيين والمملكة المغربية على أن يكون للملك خليفة في مناطق النفوذ الأسباني ، وعين بمقتضى ذلك الأمير المهدي بن إسماعيل بظهير سلطاني يوم 14 مايو 1913 ، ثم أخذ الخليفة السلطاني يعين نوابا عنه في مناطق النفوذ الأسباني ، فعين في راس جوبي سالك بن عبد الله بظهير خليفي بتاريخ 22/12/1917 ، وعين محمد الأغضف بن الشيخ ماء العينين على أفني بظهير خليفي بتاريخ 1/10/1934 …الخ .
وبذلك بقيت الصحراء المغربية تحت السيادة الإسمية للمغرب برغم معاهدة الحماية الفرنسية والأسبانية .
ثم بمقتضى التصريح المشترك المغربي الأسباني يوم 7/4/1956 الذي اعترفت فيه أسبانيا باستقلال المغرب والتزامها بوحدته الترابية ، كان على أسبانيا أن تغادر المنطقة -الصحراء الغربية ـ وتردها إلى المغرب ، لكنها بدل ذلك أعلنت عن ضم الصحراء كلها (افني ـ طرفاية ، الساقية الحمراء ، وادي الذهب) إلى التراب الأسباني بمرسوم فرانكو ليوم 10-1-1958 ، واحتاج المغرب إلى صراع سياسي دام عشر سنوات لينتزع من أسبانيا منطقتي أفني ، وطرفاية ، بمعاهدة فاس ليوم 4/1/1969 ، ومن ثم دخل عهد جديد هو عهد المطالبة بالصحراء الغربية ومحاولة تحريرها على ثلاثة خطوط :
خط وحدوي إسلامي شعبي مسلح .
خط وحدوي رسمي .
خط انفصالي ثوري .
الخط الوحدوي الإسلامي الشعبي المسلح
سيكون مؤتمر الجغرافيين الأسبان سنة 1884 الذي قنَّن وضعية المناطق الصحراوية ، وكوَّن الشركة الأفريقية للتجارة ، وصدور قرار المجلس الوزاري الإسباني الذي نص على أن تصبح منطقة وادي الذهب وسانتاس تحت الحماية الإسبانية ، وتأسيس فيلا سنيوروس ، بمثابة الشرارة التي فجرت التحرك الجماهيري ضد الاحتلال الأجنبي ، فاندفعت الجماهير لمهاجمة مدينة الداخلة مركز الشركة التجارية ، ولحق الأسبان بهذا الهجوم خسائر فادحة وأرسلت جماهير الصحراء وفوداً كثيرة إلى السلطة المركزية المغربية لحثها على النهوض للدفاع عنهم أو لتزويدهم بوسائل الدفاع (السلاح والمال) ، ولكن السلطان نفسه كان منشغلاً بمواجهة مؤامرات الغرب ، وحروب " السيبة " التي استشرى أمرها ، وكل همه كان محاولة تهدئة الأوضاع والحرص على عدم فتح جبهات جديدة ، بجانب الجبهات المفتوحة فلم يملك إلا أن يجيبهم برسالة مورخة بـ 25 سبتمبر 1887 منها :
(أما الحكومة الفرنسية فلم تكن لها لحد الآن مع أسلافنا الكرام إلا علاقات المودة ، وقد أظهرت إخلاصها لاتفاقية السلام ، واحترامها لحقوق الجوار ، وأسلوب عملها منصف ، ونزيد أن بين حكومتنا وبين الحكومة الفرنسية سلام دائم وعلاقات ودية … إنهم لا يعملون ضد أحد دون أن يبنى عملهم على سبب عادل ، ولا يحدثون ضرراً بجيرانهم إذا لم يجبرهم هذا عليه ، فإذا بقيتم في حدود حقوقكم مقتدين في ذلك بأسلافكم لن يصلكم منهم ضرر ولا خراب ولن يلحقكم منهم ظلم طول العمر بإذن الله) .
وهكذا وجدت الجماهير البعيدة عن السلطة المركزية نفسها عزلاء في صحراء شاسعة ، وفي مواجهة غزو أجنبي مجهز أحسن تجهيز . فعمدت إلى تنظيم نفسها تحت قيادات محلية ومبادرات فردية ، فكانت أول حركة منظمة جادة للنضال المسلح بقيادة الفقيه الديني الشيخ ماء العينين ، الذي حاول ـ أول الأمر ـ التنسيق مع السلطة المركزية ولكن الملك عبد العزيز لم يكن في وضع داخلي أو خارجي يمكنه من فعل أي شيء ضد الغزاة فاضطر الشيخ ماء العينين للاعتماد على الإمكانيات المحلية الذاتية بشراً ومالاً وعتاداً .
وفي هذه الأثناء ازداد التغلغل الفرنسي والإسباني من أجل الاحتلال المباشر الذي لم يقتصر على السواحل فقط . بل تعداها إلى العمق المغربي حيث اقتحمت فرنسا سنة 1903 جبل بشار وضمته إلى الجزائر ، ومنه دخلت إلى منطقة الساورة وضمتها أيضاً إلى الجزائر سنة 1904 .
وفي سنة 1906 انعقد مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي كرس الاتفاقيات السرية والعلنية ، أي تقسيم المناطق المغربية إلى مناطق أسبانية وفرنسية ، وتأسيس بنك الدولة وتقنين نظام الجمارك لصالح الرأسمالية الأوربية .
وفي هذه الظروف فشلت - أيضا - زيارات الشيخ ماء العينين إلى السلطة المركزية بالشمال وفشلت جهوده أيضاً من أجل فك حصار التسليح الذي فرضه عليه الأسبان والفرنسيون .
وفي سنة 1907 اعترضت قوات الفرنسيين والأسبان قافلة محملة بالأسلحة موجهة من طرفاية إلى الشيخ ماء العينين وصادرتها ، وفي سنة 1910 فرض اتفاق على السلطة المركزية بمنع تهريب الأسلحة بشكل نهائي إلى المقاومة الصحراوية بقيادة الشيخ ماء العينين .
إن الشيخ ماء العينين الذي ينتمي إلى قبيلة أدرار المغربية الصنهاجية التي تنتسب إلى إدريس الأول والذي أسس أوّل مقاومة مسلحة للاحتلال الأجنبي تحت شعار الجهاد الإسلامي ، كان يرى نفسه وكافة الصحراويين أضعف من أن يواجهوا وحدهم الغزو الأسباني والفرنسي ، ولذلك كانت قناعته أكيدة بضرورة الاستعانة بالسلطة المركزية ولذلك أعلن بيعته سنة 1894 .
وبعد عدة رحلات قام بها الشيخ ماء العينين إلى السلطان ، وجهود مكثفة استطاع أن يحصل منه على تفويض بقيادة القبائل في اتجاه الحرب . وإذاك دعا ماء العينين إلى تحالف قبلي في مدينة السمارة من أجل المقاومة .
وفي خريف 1905 التقى في السمارة كل القبائل بحضور بعثة رسمية تمثل السلطان من فاس ، وتعاهد الجميع على المقاومة :
قبائل الداخلة ووادي الذهب (أولاد دليم ، العروسيون ، أولاد تيدرارين ، الرقيبات) .
وقبائل جنوب أدرار (أولاد أموني ، أولاد أكثر ، أولاد شيلان ، الطرشان ، سماديد ، أيد يشيلي … ألخ) .
وقبائل شمانة (الترارزة ، أولاد بيري ، أهل بارك الله … الخ) .
وقبائل التكنة (ازرقيين ، آيت لحسن … الخ) .
وابتداء من سنة 1908 بدأت المقاومة المسلحة التي حققت انتصارات متوالية على جيش نظامي عصري متطور التدريب والتسليح ، ليس له من نقطة ضعف سوى جهله بالمنطقة التي يقاتل فيها واستطاع الشيخ ماء العينين أن يحكم قبضته على الساقية والوادي ، ثم بدأ الزحف نحو الشمال إلى "تادلا" ليواجه قوات الجنرال موانيي عام 1910 في أكبر معركة واجهت الغرب منذ دخوله المنطقة ، ولكن الهزيمة كانت من نصيب الشيخ ماء العينين الذي كان برغم شجاعته وشجاعة جنوده واستماتتهم يقاتل ضـد تيار جارف لا يمكن رده نظراً لانهيار الجيش المغربي النظامي الرسمي واتفاق دول أوربا على تسليم المغرب إلى الغزاة الجدد .
ثم بعد وفاته عقب الهزيمة ، قام بعده ابنه أحمد الهيبة وأعاد تنظيم المقاومة وزحف مرة أخرى إلى الشمال واحتل مدينة مراكش وتمركز في مدينة بن جرير ، ولكنه تراجع أمام القوات الفرنسية الهائلة .
واستمر الاحتلال الفرنسي والأسباني للمغرب شمالاً وجنوباً بعد أن خضعت آخر المناطق بقوة السلاح سنة 1934 ، ولكن المقاومة الشعبية أخذت أسلوباً آخراً سياسياً أسسه مجموعة من فقهاء جامعتي القرويين بفاس وابن يوسف في مراكش بقيادة الزعيم الإسلامي علال الفاسي ، ولكن هذه الحركة سرعان ما تحولت إلى عدة أحزاب سياسية مطالبة بالاستقلال على أساس وطني .
وما بين 1952 و 1956 صعدت درجة حرارة المقاومة السياسية ولجأت السلطات الفرنسية إلى إزاحة رموز السيادة الوطنية والكفاح التحريري من الساحة الوطنية ، فاسترجع الأهالي المبادرة التحريرية وتكونت المقاومة المسلحة التي تطورت إلى جيش تحرير خاض عمليات مسلحة ضد الاستعمار الفرنسي .
ثم بعد إعلان استقلال الجزء المغربي الأوسط سنة 1956 من الاستعمار الفرنسي ، اتجه جيش التحرير إلى الجنوب واستطاع أن يحرر منطقة طرفاية ، وآيت باعمران وايفني . وأن يقوم بعمليات مسلحة موفقة في موريطانيا . إلا أن ظروفاً سياسة وأمنية داخلية فرضت أن يصفى جيش التحرير ويلحق أكثر ضباطه بالجيش الملكي ، وتصفى بذلك المقاومة المسلحة في مقابل اعتراف أسبانيا بمغربية طرفاية وآيت باعمران وإيفني ـ التي كان جيش التحرير قد استرجعها بقوة السلاح .
ثم بعد ذلك أعلنت فرنسا منطقة موريطانيا دولة مستقلة برغم معارضة المغرب الذي ما لبث أن اعترف بالأمر الواقع ، وبقيت الساقية الحمراء ووادي الذهب تحت النفوذ الأسباني الذي أخذ بدوره يفكر في تكوين دولة استيطانية بهما ، ثم انتقل إلى التنفيذ باعلانهما ـ الساقية والوادي ـ مقاطعة إسبانية بمرسوم بتاريخ 10/1/1958 ، وبذلك عزلت الحركة الجماهيرية للمقاومة عن روافدها ومصادر دعمها في الشمال (ا لمغرب المستقل) وفي الجنوب (موريطانيا ـ الدولة الجديدة) ، مما اضطر الناشطين فيها إلى إعادة تنظيم أنفسهم طبقاً للظروف الجديدة .
وهكذا ظهر الشكل الأول للتنظيم على شكل "الجماعة الصحراوية" سنة 1967 يمثل نوعاً من السلطة المنبثقة عن القبائل والموحدة لها بعيداً عن النفوذ الإسباني .
وفي نفس الوقت كان شاب مغربي من الصحراء اسمه محمد إبراهيم البصيري المولود سنة 1944 قد أتم دراسته في سوريا ورجع إلى المغرب وأسس صحيفة "الشهاب" وأصيب بالإحباط بسبب سلبية الجهود المغربية الرسمية لتحرير الصحراء ، وفشل جهود الجماعة الصحراوية في الداخل ، فعمد إلى الرجوع إلى الصحراء سراً في دسمبر 1967 . وأسس منظمة للتحرير جديدة اسمها " المنظمة الإسلامية لتحرير الصحراء " أو الحزب المسلم كما أطلق عليها الأسبان . وأعلنت هذه المنظمة عن أهدافها المتمثلة في ثلاث نقط هي :
1- تحرير الصحراء من الوجود الأسباني .
2- الانضمام إلى المغرب .
3- طريق التحرير هي الحرب المسلحة المعتمدة على جيش وطني من السكان .
وفي 1970 قررت أسبانيا تنظيم تجمع شعبي للبرهنة على أن الصحراء جزء من (أسبانيا ـ الأم) ، فقررت المنظمة الإسلامية للتحرير معارضة المشروع وتحديه ، فكانت مجزرة العيون التي اسفرت عن مقتل المئات وسجن الآلاف وانتهى فيها محمد البصيري مقتولا تحت التعذيب بعد أن اعتقلته السلطات الإسبانية .
وكان رد الفعل المغربي والأحزاب الوطنية المغربية سلبياً أثار حفيظة سكان الصحراء ومهدت هذه السلبية بعد تفتت حركة البصيري إلى نشوء حركة انفصالية بقيادة الوالي الركيبي ، دعيت فيما بعد الجبهة الشعبية لتحرير الساقية والوادي . أو "بولزاريو"… .
بعد تفتت حركة محمد البصيري ، كانت الرياح تجري في المنطقة ضد مصالح المغرب الرسمي ، لا سيما وجزائر بومدين أخذت تتخوف بجدية من إمكانية تحرك جدي مغربي لاسترداد أقاليم الساورة وتوات وتندوف التي ضمتها فرنسا إلى الجزائر في حال استرداد الصحراء المغربية .
واليسار العالمي بلغ أوجه وأنشأ مناطق توتر في كثير من الأقطار والصحراويون مصابون بخيبة وإحباط ويأس بسبب ما ظنوه خذلاناً مغربياً لهم في معركة التحرير …
وأسبانيا تخشى من أن نجاح المغرب في استرداد الصحراء سيحفزه للمطالبة بسبته ومليلية والجزر الجعفرية على شاطئ الأبيض المتوسط واستغل مجموعة من الشباب الصحراوي هذه الظروف أحسن استغلال وعملوا على تأسيس منظمة انفصالية للتحرير ـ بوليزاريو ـ محاولين إقناع أسبانيا بالتعاون معهم بدعوى أن الصحراء هي المنطقة الوحيدة في أفريقيا التي تحتفظ بالثقافة الإسبانية لغة وروابط اجتماعية وسياسية ، وإذا ما استقلت ستكون موطيء القدم الوحيد لإسبانيا في أفريقيا .
وإقناع اليساريين والقوميين العرب بأن بوليزاريو تمثل بؤرة ثورية للتحرير والتوحيد تزحف من الصحراء مكتسحة المغرب العربي نحو المشرق العربي .
وإقناع الجزائر بأن تكوين دولة منفصلة عن المغرب سيحمي مناطق تندوف والساورة وتوات من الأطماع المغربية ، ويكف المغرب عن أحلامه التوسعية .
وإقناع اليسار العالمي بأن المنطقة الصحراوية إن استقلت سوف تكون بؤرة ثورية للفكر الماركسي وتصدير الصراع ضد الغرب والإمبريالية والرجعية إلى كافة مناطق العالم الثالث ، وسوف تتحول إلى كوبا جديدة للقارة الأفريقية . ولعل هذا مما جعل قيادة البوليزاريو لا تقيم أي مسجد في المخيمات ، ولا تسمح بصلاة الجمعة أو بالصلوات الخمس الجماعية .
وبهذا التاكتيك استطاعت هذه المنظمة الوليدة أن تنمو بسرعة وأن تحشد حولها المساعدات من أغلب دول المنطقة والمعسكر الاشتراكي كله … فقويت شوكتهم وأسسوا مراكز للتدريب في الجنوب الغربي للجزائر (تندوف) وتدفق عليهم الدعم المالي والعتادي ، واللوجستيكي ، وشنوا عمليات مسلحة ضد بعض المراكز الأسبانية . ثم ضد الجيش المغربي ، وحققوا انتصارات لا باس بها على الطرفين مما قوى فيهم النـزعة الانفصالية وأعلنوا فيما بعد انفصال الصحراء والقطيعة المطلقة مع الوطن الأم .
ومع هذا فللعدل والموضوعية ينبغي أن نبين أن الانفصال لم يكن الهدف الأول لمؤسس البوليزاريو " الولي الركيبي " ولكنه كان رد فعل للإحباط الذي قوبل به جهده الدائب لإقناع السلطة المغربية والأحزاب السياسية بدعمه … ذلك أن الوالي الركيبي نفسه سبق أن اعترف بمغربية الصحراء في المذكرة التي قدمها للأحزاب الوطنية المغربية في شهر يناير 1973 ونشرتها صحيفة 23 مارس على حلقات في الأعداد 19و20و21و22و23و24و25 . هذه المذكرة المكتوبة بخط يده يقول فيها : (ويمكن القول إن المنطقة كانت إقليماً مغربياً كسائر الأقاليم المغربية) ، ولكن مواقف الحكومة المغربية - حسب نظره ـ والأحزاب الوطنية ، والصراع الدولي بين الشرق والغرب والصراع الإقليمي داخل المنطقة المغاربية والعربية أوصل الصحراويين إلى نقطة القطيعة مع الوطن الأم وإعلان جمهورية الصحراء في المنفى ، وفي بعض المناطق المحررة كما يقولون ، أو في تندوف كما هو واقع الحال . وذلك يوم 27 يبراير 1976 م .
كان موقف الدولة والأحزاب السياسية المغربية مخيباً لآمال الصحراويين لا سيما عقب مجزرة العيون ، ولكنهم كانوا في وضع لا يسمح لهم بغير ذلك ، فقد كان الطرفان (الدولة والأحزاب) مشتبكين في صراع سياسي مرير . الأحزاب - لا سيما اليسارية ـ منشغلة بمقاومة الدولة بشتى الوسائل ، والدولة منشغلة بمحاولة الدفاع عن نفسها . ومع ذلك فقد ترك الطرفان هامشاً للاشتغال بقضية الصحراء كل بما يخدم مصالحه .
المعارضة تريد أن تحرج الدولة بدفعها إلى معارك خارجية ضد أسبانيا والمصالح الأجنبية ، لتتمكن من توسيع دائرة نفوذها الشعبي ، والدولة تريد أن توظف القضية الصحراوية لتدعيم الشرعية دون الدخول في معارك مع الدول المجاورة . ولجأ المغرب إلى الأمم المتحدة التي عالجت الموضوع في دورتها العشرين عام 1965 ، واتخذت قرارها رقم 2072 بتاريخ 16-12-1965 القاضي بدعوة أسبانيا إلى تصفية مستعمراتها في الصحراء معتبرة المغرب وموريطانيا طرفين معنيين ينبغي التشاور معهما في الموضوع .
وبعد ذلك قررت الأمم المتحدة استشارة محكمة العدل الدولية بالقرار رقم 3292-29 بتاريخ 13/12/1974 ، وطلبت منها الإجابة على السؤال :
هل كانت - الصحراء الغربية - الساقية الحمراء والوادي ـ بدون سلطة حاكمة فيها عند دخول الأسبان إليها ؟
وإذا كان الجواب بالنفي فما هي العلاقة القانونية القائمة بين هذه المنطقة وبين كل من المملكة المغربية وموريطانيا بصفة عامة ؟
وصدر الحكم عن محكمة العدل الدولية يؤكد ارتباط الصحراء بالمغرب بواسطة البيعة ـ وامتداد سلطة النظام المغربي إلى الصحراء قبل الاستعمار الإسباني .
وفي يوم 6 نوفمبر 1975 عقب ظهور بوادر انسحاب إسباني من الصحراء تمهيداً لقيام كيان مستقل ، اتجه المغاربة في مسيرة خضراء توجت بإعلان البرلمان الإسباني يوم 19/11/1975 الموافقة على اتفاقية مدريد والمرسوم الملكي الإسباني الذي أذن للحكومة الإسبانية بالتخلي عن إقليم الصحراء ، ونصّ على أن الصحراء لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من التراب الوطني للمملكة الإسبانية .
ثم دشنت المفاوضات الثلاثية بين أسبانيا والمغرب وموريطانيا وتوجت باتفاق ثلاثي يتضمن انسحاب اسبانيا وتقسيم الصحراء بين المغرب وموريطانيا ، وأعلن عن الاتفاق في الرباط بلاغ مشترك أسباني مغربي موريطاني ، مباشرة عقب اجتماعات مدريد الثلاثية التي استمرت أيام 12/13/14 نوفمبر 1975 .
ثم بعد اشتداد معارك بوليزاريو ضد الجيش المغربي وعجز موريطانيا عن حماية الجزء الذي كان من نصيبها ـ وادي الذهب ـ وعن مواجهة الضغوط الممارسة ضدها من قبل المعسكر الاشتراكي تخلت عن وادي الذهب وسحبت نفسها من القضية نهائياً فضم المغرب الوادي إليه .
وبذلك تمت الوحدة الترابية للمغرب مع أكبر أجزائه وبقيت سبتة ومليلة والجزر الجعفرية وحجرة بادس في الشمال بيد أسبانيا .
وبذلك انتهت قضية الصحراء ميدانياً بسيطرة فعلية مغربية عليها ، على اعتبار أن تعبير ـ"الأرض المحررة" التي تتحدث عنه بوليزاريو ما هو إلا للدعاية والحرب النفسية ، وإلا فليس للبوزاريو فعلاً من موطيء قدم إلا في تندوف وبعض التسللات داخل الصحراء للقيام بأعمال حربية ثم العودة إلى تندوف .
انتهت القضية ميدانياً ، ولكن بقيت ذيولها السياسية المعقدة ، التي على رأسها معسكرات اللاجئين في تندوف ، وجيش بوليزاريو المجهز تجهيزاً قوياً ، والضغوط الأجنبية المعارضة للمطامح المغربية في ضم الصحراء ، والمستثمرة للقضية من أجل ابتزاز المغرب أو شغله لأهداف متعددة ، كما هو حال أسبانيا التي لا تريد أن يتفرغ المغرب للمطالبة بالمستعمرات في الشمال (سبتة ومليلية) . ثم بعد إقامة الجدران الوقائية على طول الحدود المغربية الموريطانية ، وقرب الحدود الجزائرية تمت السيطرة العسكرية المغربية على المنطقة ، وفقدت كتائب البوليزاريو مفعولها الذي لم يعُد يتجاوز عمليات شغب ، هجوم وهروب ، تليه بيانات تضخيم للخسائر المغربية والمكاسب الصحراوية ، وبيان من المغرب يقلل من قيمة الهجوم ومن الخسائر . ولكن المعركة الدبلوماسية بين المغرب وبين بولزاريو ومؤيديها في أروقة الأمم المتحدة ، ومنظمة الوحدة الأفريقية ودول عدم الانحياز بقيت قائمة…
الصراع في منظمة الوحدة الأفريقية
تحددت أطراف النـزاع نهائياً وهم : المغرب ، والبوليزاريو ، والجزائر ، كل من وجهة نظره ومصالحه .
وحيث أن غالبية الدول العربية كانت مؤيدة للمغرب ، وحيث أن الأمم المتحدة كانت قراراتها مرتبكة تؤيد تقرير المصير للسكان الصحراويين من جهة ، وتثبت بطريقة غير مباشرة اتفاقية مدريد الخاصة بتسليم الصحراء إلى المغرب وموريطانيا من جهة أخرى ، فإن الجزائر وبوليزاريو حالتا دون دراسة القضية في الجامعة العربية ، وفتحتا خطا موازياً للأمم المتحدة من أجل مواصلة المعركة الديبلوماسية.
هذا الخط هو منظمة الوحدة الأفريقية التي تتمتع فيها الجزائر بنفوذ أكبر من المغرب ، وظلت المعارك الدبلوماسية المغربية الجزائرية في منظمة الوحدة الأفريقية في شد وجذب إلى أن توجت باعتراف المنظمة بجمهورية بوليزاريو وقبلتها عضواً فيها .
فكان رد فعل المغرب تعليق عضويته في المنظمة الأفريقية ومقاطعتها .
حدث اعتراف المنظمة بجمهورية بوليزاريو رغم إعلان المغرب قبوله إجراء الاستفتاء من أجل تقرير المصير … وبذلك اقتصرت المبارزة المغربية الجزائرية المباشرة على أروقة منظمة الأمم المتحدة .
بعد حكم محكمة العدل الدولية المتناقض الذي يؤيد اتفاقية مدريد الثلاثية ـ أسبانيا ـ المغرب ـ موريطانيا - ، ويؤيد حق الاستفتاء أخذت الكفة تميل لصالح الجزائر وبوليزاريو في كل دورة للأمم المتحدة ، وكانت عمليات التصويت تعكس موازين القوى بين المغرب والجزائر على أرض الواقع .
وإذا أخذنا مقياساً لذلك تصويت الأمم المتحدة على القرار 3458 في الدورة الثلاثين (1975) نجد أن التصويت المتعلق ببحث تقرير المصير لسكان الصحراء انتهى لصالح الجزائر بنسبة 88 صوتاً ضد 41 امتناع ، و15 غياب .
أما التصويت المتعلق باتفاقية مدريد فقد انتهى لصالح المغرب بنسبة ضئيلة إذ صوت مع القرار 56 دولة ، وضده 42 ، وامتناع 24 دولة وتغيب 12 دولة .
وبالتالي فإن قرارات الأمم المتحدة لم تكن لها الفعالية الكافية وإنما كانت غطاء لتنافس سياسي ودبلوماسي بين المغرب والجزائر أما بوليزاريو فقد كانت تقبع ـ دائما ـ خلف الكواليس .
إن قرارات الأمم المتحدة إلى ما قبل حرب الخليج ، وظهور بوادر النظام العالمي الجديد لم تكن بالنسبة للبوليزاريو إلا أضغاث أحلام ومحاولات ضغط ، وكسب جولات دبلوماسية لا تغني بالنسبة لسياسة الأمر الواقع التي نهجها المغرب بفرض سيطرته على الأرض الصحراوية وضمها إلى الوطن الأم . ذلك أن حسم الصراع السياسي على واقع الأرض يجعل من القرارات الدولية مجرد لغو ورفاهية دبلوماسية وجعجعة ليس بعدها طحن .
إلا أن قبول المغرب لمبدأ الاستفتاء من أجل تقرير المصير ، فتح الطريق أمام الأمم المتحدة التي سرعان ما أقرت المبدأ ، وعينت نائباً للأمين العام الأممي للإشراف على الاستفتاء ثم أرسلت جنود الأمم المتحدة للمراقبة بتاريخ 6/9/91 وعينت تاريخاً للاستفتاء هو أول سنة 1992 ثم تأجل الاستفتاء إلى متم 1993 ، وعين يوم 15-7-93 للقاء الطرفين في مدينة العيون لوضع مقاييس تجديد هوية المشاركين في الاستفتاء .
وفي هذه الأثناء لاحظنا أن الأحزاب المغربية أبدت انزعاجاً من الاستفتاء وأخذت تطالب بعدم إجرائه لأن الظروف قد تجاوزته ، خاصة بعد اتفاقية المغرب العربي الذي التزمت فيه كل دول المنطقة بعدم مساعدة أي خصم لأنظمتها ، وبعد انهيار الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في الجزائر بشكل يجعلها غير قادرة مطلقاً على دعم البولزاريو . وبعد حسم الصراع ميدانياً بالسيطرة على أرض الصحراء ، وبداية العدّ التنازلي لتماسك المنظمة الصحراوية الانفصالية .
أما الجزائر فإنها تحاول أن تخرج من المعركة بمكسب ما وهي تفضل أن يكون المكسب تنازل المغرب عن مطالبه الترابية في غرب الجزائر ، لذلك صرح ناطق باسم الخارجية الجزائرية بأن ترسيم الحدود بين الجزائر والمغرب ينبغي أن يجري قبل متم سنة 1993 ، وهو الموعد الذي كان ينتظر أن يتم فيه الاستفتاء حول الصحراء في عرض غير مباشر لصفقة مغربية جزائرية فحواها أن الجزائر مستعدة للتخلي نهائياً عن البوليزاريو إذا رسمت الحدود بين الطرفين . ولكن المغرب يعرف أن الجزائر مضطرة للتخلي عن البوليزاريو بدون مقابل نظراً لظروفها الداخلية ولذلك كان جوابه غير المباشر اعتقال عبد الحق عيادة أحد قياديي الجماعة الإسلامية اللاجئين في المغرب وكتبت بعض الصحف عن إمكانية مبادلته بقيادة البولزاريو … وهكذا ضمن المغرب شبه استفراد بمنظمة البوليزاريو .
مواقف الأحزاب السياسية المغربية
الأحزاب السياسية المغربية من حيث موقفها من النظام المغربي تنقسم إلى أحزاب موالية وإلى أحزاب معارضة .
ومن حيث المعتقد السياسي تنقسم إلى أحزاب يمينية ذات توجهات لبرالية وأحزاب يسارية ذات توجهات ماركسية سافرة ومقنعة .
ومن حيث حرية العمل السياسي تنقسم إلى أحزاب شرعية علنية ، وأحزاب غير شرعية وسرية .
وسنكتفي بذكر مواقف أهم الأحزاب المعارضة على اختلاف معتقدها السياسي ، ووضعها القانوني أما الأحزاب الموالية فرأيها دائماً قابل للتبدل والتغير تبعاً للموقف الرسمي .
وأهم الأحزاب اليمينية في المغرب حزب الاستقلال كحزب وطني لبرالي قاد حركة الاستقلال وأسسها ، ثم بعد الاستقلال انشقت عنه تقريباً كل الأحزاب اليسارية التي لم ترض عن توجهاته السياسية اللبرالية ولا عن توجهات قائده ـ علال الفاسي ـ الدينية ، أما الأحزاب اليسارية المعارضة فالشرعية منها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية . والسرية منها حركة "23 مارس" وحركة "إلى الأمام" الماركسيتان اللينينيتان .
شكل حزب الاستقلال منذ بدء النهضة الاستقلالية في الثلاثينات النواة المركزية لحركة التحرر الوطني في المغرب . لذلك كان الحاضن الأساسي لوحدة المغرب وأدى به موقفه هذا إلى رفع مشروع المغرب الكبير الذي يشمل موريطانيا والصحراء الغربية والصحراء الشرقية (تندوف والساورة وتوات) وسبتة ومليلية .
وما زال الحزب رغم إنشاء دولة مستقلة في موريطانيا يتلكأ في الاعتراف بها ، وما زال أكثر الأحزاب تشدداً في قضية مغربية الصحراء الغربية ، ومطالبة باسترجاع الصحراء الشرقية وتحرير سبتة ومليلية .
ففي 14 يبراير 1957 اجتمع ممثلو حزب الاستقلال في الصحراء المغربية وبعثوا ببرقية إلى الملك يطالبون فيها بالوحدة مع المغرب … ثم كتب علال الفاسي عن الصحراء الشرقية مقالاً في "صحراء المغرب" العدد 24 ـ 4 ـ 1957 تناول فيه الحدود التاريخية للمغرب فقال :
(وقد اعترفت فرنسا بهذه الحدود سنة 1830 عندما قنبلت الشواطئ المغربية وطلبت من جلالة مولاي عبد الرحمن أن يسترد خليفته من تلمسان ويسحب جنوده إلى غرب نهر تافنا ، وكان النهر المذكور حداً فاصلاً بين المغرب وولاة الأتراك منذ استيلائهم على المغرب الأوسط … ولما برقت لفرنسا بارقة الغلبة سنة 1844 اعتدت على التراب المغربي وأنشأت مخافر عسكرية بجامع الغزوات ، ولاله مغنية من قبيلة بني واسين ، وكان المغرب يعتبر هذه القبيلة مغربية ، فاضطر أن يدافع بحد السلاح عن حدوده ، وخاض من أجلها معركة "ايسلي" التي انهزم فيها . ولما انعقدت معاهدة الصلح بتاريخ 10/9/1884 أكدت مادتها الخامسة الحدود القديمة بين ملوك المغرب وولاة الأتراك ولكن المعاهدة التي عقدت في السنة التي بعدها ـ 1885 - جعلت هذه الحدود تتقهقر إلى الغرب لتبدأ من نهر "كيس " أمام مرس "عجرود") .
تغير موقف الاتحاد الوطني من قضية الصحراء تبعاً للتغيرات التي عرفتها قيادته السياسية التي تعاقبت عليه ، والتحالفات السياسية الخارجية التي عقدها .
ففي عهد قيادة المهدي بن بركة اتخذ الحزب موقفاً منسجماً مع سياسة اليسار الفرنسي والعالمي إذاك ، فلم يتورط في تأييد الانفصال ، ولم (يتورط) في تأييد مطالب المغرب . واتخذ في ذلك موقفاً مراوغا ، من جهة أيد حق تقرير المصير إرضاء لليسار العالمي والعربي المؤيد للبوليزاريو ، ومن جهة غطى عن واقع التأييد للانفصال برفع شعار وحدة المغرب العربي .
وهذا الموقف لخصه تقرير المهدي بن بركة للمؤتمر الثاني للبلدان الأفريقية ما بين 25 و 29 يناير 1960 بقوله :
(إن عملية الاكتساح والهجوم التي تمارس ضد جماهير الصحراء تفرض تقوية صفوفنا وإرادتنا من أجل فرض إخلاء كل القواعد العسكرية الأجنبية ودعم نضال الجماهير الصحراوية بكيفية خاصة من أجل حريتهم وتقرير مصيرهم) .
ولكن القيادات التي ورثت الاتحاد الوطني بعد اختفاء المهدي بن بركة ، لم تحتفظ بهذا الموقف ، وإنما رجعت إلى اعتبار الصحراء جزءاً من المغرب يجب استرجاعه ، منتقدة في نفس الوقت موقف المغرب الذي قبل عرض القضية على لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة ، لأن هذا القبول يضفي الشرعية على حق تقرير المصير الذي يطالب به اليسار العالمي المؤيد للبوليزاريو ، ويتعارض مع أهداف المغرب في استرجاع أرضه .
في أول مؤتمر تأسيسي عقده الحزب سنة 1975 وقع الإجماع على شرعية تقسيم الصحراء بين المغرب وموريطانيا .
وفي التقرير المذهبي المقدم لهذا المؤتمر شجب التوجهات المغربية لإحياء الامبراطورية المغربية كما كانت في عهد الملوك السعديين في القرن السادس عشر ( ـ جريدة الحزب 11 يناير 1975 عدد 212 ـ التقرير المذهبي ـ ) .
ثم بعد أن أعلن المغرب في مؤتمر القمة الأفريقية قبوله لمبدأ تقرير المصير للصحراويين رفع الحزب أيضاً شعار حق تقرير المصير .
ثم بعد الصلح مع الجزائر في إطار "الاتحاد المغاربي" رفع شعار مغربية الصحراء وتجاوز مرحلة الاستفتاء من أجل تقرير المصير .
وهذه التناقضات التي وقع فيها الحزب كانت بسبب تعدد ولاءاته السياسية داخلياً وخارجياً ، فهي مرة متأثرة بالنفوذ السوري ، وأخرى ، بالمعسكر الشيوعي ، وأخرى بالمصالح المحلية الخاصة ، وأخرى باليسار الفرنسي الذي يرتبط معه بعلاقات خاصة .
لعل هذا الحزب أشد الأحزاب اليسارية المغربية تشبثاً بمغربية الصحراء ، وقد ألف رئيس الحزب الأستاذ "علي يعطة " كتاب "الصحراء الغربية المغربية" يقول فيه :
(إن الخطوات التاريخية أبانت عن فشل وتفاهة واستهتار جميع الحلول التي كانت لا تتفق والحل الذي وضعه المواطنون أمام أعينهم منذ البداية ألا وهو التحرير التام للصحراء المغربية وإرجاعها إلى الوطن بدون أي مساومة أو تنازل .
وهي منظمة ماركسية لينينية تأسست سراً عام 1965 عقب أحداث الدار البيضاء الدامية في مارس 1965 ، وقد حاولت توظيف القضية الصحراوية لأهدافها الأممية بتحويل الصحراء إلى بؤرة ثورية على غرار ثورة ظفار بجنوب الجزيرة ، وكوبا . وثورة شي غيفارا في بوليفيا ، ولكنها لم تملك إلا أن تعترف بمغربية الصحراء وتحاول توظيفها لأهدافها الايديولوجية في بيانها الصادر عن لجنتها الوطنية بتاريخ 22/9/1974 والذي ورد فيه :
(إن كون الصحراء مغربية لا يعني تأييدنا لإلحاقها بالعنف الرجعي بالنظام الملكي الاوتوقراطي التبعي المغربي ، بل يعني التأكيد على الوحدة التي تربط بين الجماهير الصحراوية وجماهير المغرب ـ كما هو شأن سبتة ومليلية والجزر الجعفرية ـ فإن هذا لا يحل المشكلة) .
منظمة "إلـى الأمام" (ماركسية) :
منظمة ماركسية لينينية أيضاً انشقت عن منظمة 23 مارس وهي بدورها تعترف بمغربية الصحراء وتحاول توظيفها لأهدافها الأممية كما هو حال منظمة 23 مارس .
وقد جاء في بيانها الصادر بتاريخ 10/8/1974 :
(لقد شكلت جماهير الصحراء عبر التاريخ وحدة متينة مع الشعب المغربي وهذه مسألة بديهية وواضحة كل الوضوح … . لذلك فإن حركتنا الماركسية اللينينية لا تعتبر الجماهير الصحراوية تشكل شعباً مستقلاً استقلالا كاملاً عن الشعب المغربي) .
أما عن كيفية توظيف هذه القضية للأهداف الماركسية فقد لخصه البيان فيما يلي :
(الحركة الماركسية اللينينية المغربية التي ترفض هذا الموقف رفضاً قاطعاً ، وتشكل القوة السياسية الوحيدة التي تناضل من أجل فضح الأهداف الحقيقية للحكم وللأحزاب البورجوازية ، وتطرح قضية الصحراء من زاوية كفاحية ثورية) . وهكذا يتضح أن الحركتين الماركسيتين اللينينيتين (23 مارس ، وإلى الأمام) تنطلقان في موقفهما من القضية الصحراوية من نقطتين :
الأولى : إدانة توظيف الدولة للقضية الصحراوية من أجل تدعيم الشرعية .
الثانية : محاولة توظيف القضية الصحراوية بتحويل جبهة بوليزاريو إلى بؤرة شيوعية للمنطقة كلها ، وهذا من أوهام الماركسية ، لأن المنطقة تاريخياً واجتماعياً وسياسياً وعقدياً وإقليمياً ودولياً غير قابلة لذلك . والبوليزاريو نفسها ـ خاصة بعد اختفاء زعيمها المندفع الطموح ـ الولي الركيبي ـ لا ينطلق قادتها الحاليون إلا إلى أهداف متواضعة جداً هي الحصول على جزء من رمال الصحراء ، لرفع علم ، وتأسيس قصر ، وإرسال ممثلين عنهم إلى الخارج … .
والخلاصة : هي أن جميع الأحزاب المغربية العلنية والسرية ، اليمينية واليسارية والإسلامية والعلمانية ، والدولة المغربية ، بل وحتى مؤسس البوليزاريو ـ الولي الركيبي ـ كلهم مجمعون على مغربية الصحراء ولكن كلاً منهم يحاول توظيفها لصالحه سلاحاً لتحقيق أهدافه .
ومغربية الصحراء لا تستمد شرعيتها من اعتراف الأحزاب والمنظمات ولا من نتائج الاستفتاءات ، ولا من حكم محكمة دولية ، أو تأييد دولة أجنبية أو منظمة عالمية ولا من نظام حكم معين ، أو قواعد قانونية خاصة ، لأن هذه كلها روابط قابلة للتغير والتبدل تبعاً لسنة الكون وتعاقب الأجيال .
إن مغربية الصحراء ضاربة في جذور التاريخ ، وفي أعماق وجدان المواطنين منذ خلقت الأرض ونشأت التجمعات البشرية ، وقبل أن يعرف المغرب نظاماً سياسياً معيناً ، وقبل أن تنشأ في الفقه السياسي الإسلامي قواعد البيعة أو نظام التعددية الحزبية ، والاستفتاءات الشعبية ، وسوف تبقى ـ بإذن الله ـ جزءاً من المغرب ، على رغم ما يمكن أن يطرأ على ساحته من تغيرات وتقلبات على امتداد المستقبل . لأن القاعدة الراسخة لانتساب الصحراء إلى مغربها هي روابط الأصل الواحد ، والدين الواحد والمصير الواحد ، والمصالح والأهداف المشتركة ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ، كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولن يسمح أي مغربي مسلم حر بأن تقتطع المصالح الأجنبية جزءاً من أرضه ليكون شوكة في خاصرته أو غصة في حلقه أو حجراً للحاقدين والمعقدين ، أو قاعدة يُستَعْدى منها الأجنبي ضد الأمة .
تمثل الصحراء المغربية أهمية خاصة بالنسبة لأسبانيا ، فهي إضافة لكونها ظهراً لحماية جزر الكناري الواقعة تحت النفوذ الأسباني والمنتمية جغرافياً إلى المغرب ، ولحماية المستعمرات الإسبانية في شمال المغرب (سبتة ومليلية والجزر الجعفرية) من أي محاولة تحريرية مغربية ، تعتبر مجالاً استراتيجياً لتطويق المغرب الأقصى الذي يمثل خنجراً في خاصرة أسبانيا ، والذي كان عبر التاريخ يتبادل معها دور المستَعْمَر والمستَعْمِر ، ومجالاً اقتصادياً لتغذية الاقتصاد الأسباني بالمواد الخام الموجودة في الصحراء (الفوسفاط) ، وبالثروة الحيوانية البحرية المتوفرة بكثرة في شواطئها .
كما تعتبر "مسمار جحا" مدفونا في ظهر أفريقيا والمغرب العربي يستفاد منه لكل غاية وهدف … ضد المغرب ، وضد الجزائر وكافة دول المنطقة لذلك تلكأت أسبانيا كثيراً في حل هذه القضية ، وترددت بين عدة تناقضات وعرفت خططها اضطراباً وتغيراً ملحوظين .
وقد كانت استراتيجيتها في البداية تقوم على ضرورة الاحتفاظ بالصحراء وضمها إلى أسبانيا ، وسعت إلى ذلك بأساليب ملتوية وخطوات حذرة ، مخافة أن تفقد مصالحها الكبيرة لدى المغرب وحلفائه من الدول العربية الغنية ، ولدى الجزائر والدول العربية التقدمية التي تعتبر الصحراء جزءاً من الوطن العربي الكبير.
وقد سارت أسبانيا بين هذه المآزق السياسية المتمثلة في ضرورة المحافظة على مصالحها الاستراتيجية في الصحراء ، وبين مصالحها لدى الدول العربية ـ يمينيها ويساريها ـ بحذر شديد .
ففي سنة 1970 نظمت مؤتمراً يهدف شكلياً إلى تقرير مصير الصحراويين مع الارتباط بالوطن (الأم ـ أسبانيا) أعقبته في 31 ـ1-1971 انتخابات صحراوية لاختيار مجلس الجماعة ـ برلمان على الطريقة البدائية ـ وأعلن أن نسبة المشاركة في الانتخابات بلغت 100% وأن الصحراويين قد أكدوا بمشاركتهم تعلقهم بـ (الوطن الأم ـ أسبانيا) .
ثم بعد ذلك انتخب مجلس الجماعة ستة أعضاء ليكونوا نواباً في مجلس النواب الأسباني " الكورتيس " ثم وضع نظام إداري جديد للصحراء فرضت بمقتضاه السيطرة الإسبانية عليها .
وفي أثناء ذلك حاولت أسبانيا استغلال التنافس الجزائري المغربي وخلافاتهما الحدودية ، ففتحت مفاوضات اقتصادية وسياسية مع كل طرف على حدة ، وحاولت استغلال القضية لابتزاز كل منهما وضرب الواحد بالآخر في سعي حثيث لتحضير أجواء خلق كيان صحراوي مستقل شكلياً ، ومرتبط بأسبانيا عملياً ، أعلن عنه في مذكرة أسبانية سنة 1973 سلمت لسفراء الحكومات المعنية ، فقبلتها الجزائر ورفض المغرب تسلمها . وقد جاء في هذه المذكرة :
1- تأكيد حق الصحراويين في تقرير المصير .
2- للشعب الصحراوي وحده الحق في تقرير مصيره بكل حرية .
3- العلاقة بين الشعب الصحراوي وأسبانيا مبنية على الإخاء .
4- أسبانيا تضع مسطرة عملية تضمن بها حرية الاستفتاء لتقرير المصير .
5- السلطة العليا للشعب الصحراوي تظل مجسمة في رئيس الدولة الإسبانية ، وتضمن أسبانيا وحدته الترابية ، وتتولى التمثيل في الخارج نيابة عنه .
وفي نفس السنة أعلن عن موافقة الجماعة الصحراوية بمذكرة قدمتها إلى الجنرال فرانكو .
وبذلك توترت العلاقات المغربية الإسبانية ، وأخذت العلاقات الإسبانية السعودية تأخذ نفس النهج .
لقد كانت أسبانيا بين ثلاثة خيارات :
1- تكوين دولة صحراوية مستقلة ومرتبطة بأسبانيا ـ كما هو حال الكويت مع بريطانيا ودول الغرب ـ وهذا يجعلها تصطدم بالمغرب وبالدول العربية المؤيدة له ، وبالمعارضة المغربية بكل فصائلها ، مما يؤثر على العلاقات الإسبانية العربية برمتها ، خاصة على المستوى الاقتصادي ، ويربك الملكية الإسبانية التي تهيئ نفسها لخلافة فرانكو الذي يودع أيامه الأخيرة .
2-تسوية مساومة مع المغرب وموريطانيا ، وهذا يجعلها تخسر علاقتها مع الجزائر وحلفائها .
3- توظيف القضية لتفجير المنطقة وشغل دولها بنفسها وحماية مستعمراتها في شمال المغرب ، مع ما في هذا الخيار من مغامرة لا تناسب الوضع الداخلي الإسباني آنذاك .
وقد كان تنفيذ الخيار الثاني ـ تسوية المساومة مع المغرب وموريطانيا ـ بأسلوب ملغم كفيلاً بتحقيق الاختيار الثالث (تفجير المنطقة) .
وهكذا ربطت الخيوط مع أعداء الأمس ـ بوليزاريو ـ وفتحت لهم ممثلية في أسبانيا وفسحت لهم مجال الانتشار العسكري في الصحراء ، مما قوى عزيمتهم على الانفصال عن المغرب والارتباط بأسبانيا . فأخذوا يدرسون الأسبانية في مدارسهم بتندوف تقرباً لأسبانيا ، ودفع بالجزائر إلى رفع قبضة التحدي في وجه المغرب .
ثم في نفس الوقت أكدت نواياها بعدم الضم ، وفتحت مفاوضات مع المغرب وموريطانيا ، توجت ـ بعد ضغوط مغربية مكثفة بالمسيرة الخضراء ، والتلويح بورقة سبتة ومليلية ، وحكم محكمة العدل الدولية ، وضغوط السعودية والخليج ـ بإعلان الانسحاب الإسباني من الصحراء واقتسامها بين المغرب وموريطانيا .
وبذلك صبت البنـزين على المنطقة ورمت فيها بشرارة سرعان ما اندلعت منها نار الحرب ، وانشغل المغرب عن تحرير شماله (سبتة ومليلية والجزر الجعفرية) ، وأعفيت الجزائر وحلفاؤها من ضرورة التحالف مع المغرب لتحرير أرضه في الشمال والجنوب ، كما تفرض ذلك مقررات الجامعة العربية ، وفسح المجال للبوليزاريو … .
تقف القضية الصحراوية حاليا عند نقطة حساسة جداً … إسبانيا تقف متفرجة ، وقد خرجت من المأزق ، علاقاتها مع كل من المغرب والجزائر طيبة ، مستعمراتها في شمال المغرب آمنة ، لانشغال المغرب عنها بالقضية الصحراوية .
والصحراء ـ ميدانياً ـ بيد المغرب ـ وقد فرض سياسة الأمر الواقع الذي لا يمكنه التزحزح عنه أمام شعبه وجيشه . والجزائر تعاني من أوضاعها الأمنية بدخول المد الإسلامي مرحلة الثورة المسلحة ، وبتنامي ثورة الطوارق في جنوبها ، وبإمكانية تحالف الصحراويين - أو بعضهم على الأقل ـ إذا وصلوا مرحلة اليأس مع الإسلاميين والطوارق . والبوليزاريو ـ قيادة ـ أخذ يتفتت بعوامل اليأس ، وانحسار الدعم الأجنبي ، ما بين مجموعات عادت إلى المغرب ، ومجموعات خائفة يائسة تائهة . ومجموعة مازالت تقاوم التيار وتسير المعركة الدبلوماسية محاولة أن تكسب الوقت إلى حين تغير المعطيات السياسية في المنطقة والعالم لصالحها ، والأمم المتحدة تسير ببطء شديد متكئة على عكاز محاولة مراجعة قوائم الذين يحق لهم المشاركة في الاستفتاء .
وجميع الفئات المغربية أحزاباً وجمعيات ومؤسسات ثقافية واجتماعية واقتصادية مجمعون على أن الوضع في الصحراء محلياً ودولياً ، تجاوز الحل الاستفتائي لأن الصحراء عمليا بيد أهلها باعتراف مؤسس البوليزاريو نفسه .
تأليف
عبد الكريم محمد مطيع الحمداوي
التعليقات (0)