الصادق المهدي في ..(مسرحية السمسرة الأخيرة)
(الجزء الثاني)
مصعب المشرّف
13 سبتمبر 2014م
نخصص هذا الجزء للبحث والتحليل في الأسباب التي جعلت الصادق المهدي يوافق على تمثيل دور البطولة في مسرحية السمسرة الأخيرة ..... ومدى توافق المصالح بينه وبين حزب المؤتمر الوطني ؛ فيما يتعلق بمجابهة الجبهة الثورية ككتلة موحدة أو لمكونات بعينها من بين أعمدتها السبع.
وبداية نؤكد أن الغاية من كل هذا الأداء كان تلاقي مصلحة كل من المؤتمر الوطني الحاكم من جهة والصادق المهدي من جهة أخرى ؛ في إختراق الجبهة الثورية والخروج من هذا الإختراق بأربعة:
1) جلب الجبهة الثورية إلى طاولة الحوار على علاته. بما يعني نجاح المؤتمر الوطني مبدئياً في النيل من مصداقية شعار الجبهة الثورية باللجوء إلى السلاح لإسقاط النظام .. لا بل والتنازل حتى عن مطلبها وهدفها المعلن بإسقاط نظام الإنقاذ خاوياً على عروشه.
2) إحداث تصدع في تركيبة الجبهة الثورية ؛ سواء قبل دخولها الفعلي للحوار أو بعده ..... ويأتي ذلك بالفائدة المباشرة لجزب المؤتمر الوطني . ثم ولجناح الصادق المهدي داخل تركيبة حزب الأمة القومي.
3) أن يكون التصدع المشار إليه مدعاة لإضعاف موقف كل من حركة تحرير السودان (عبد الواحد) ، و حركة تحرير السودان (مناوي) ، ......... وفي ذلك فائدة إستراتيجية مباشرة تصب في "جراب" الصادق المهدي وحزب الأمة القومي بالتبعية . لأن إضعاف هؤلاء ومحو تواجدهم نهائيا من على الخريطة السياسية يعني عودة حزب الأمة القومي وإمام الأنصار مرة أخرى وبقوة إلى قواعده التقليدية في إقليم دارفور . بعد أن كادت القوى الثورية الدارفورية الناهضة الحديثة أن تمحو كل أثر لإحتكار القوى السياسية التقليدية لساحة الإقليم وفي مقدمتها حزب الأمة وكيان الأنصار منذ عام 1884م.
4) يتوقع الصادق المهدي .. وربما هو على قناعة بأن نصر الدين الهادي المهدي ؛ يظل هو أيضا (إلى جانب مبارك الفاضل المهدي) الغريم الآخر العنيد لأبنائه (أبناء الصادق المهدي) في مسألة تولي منصب الإمامة لكيان الأنصار .... وإحتمالات أن يفلح نصر الدين الهادي المهدي في إعادة اللحمة إلى كيان الأنصار الممزق واردة بقوة . وذلك لما يتوفر لنصر الدين من خيارات تجعل منه المتسابق الأكثر حظاً في إحتمالات الوصول إلى كرسي الإمامة قبل غيره .... فهو إبن الإمام الرابع للأنصار والملقب بـ "الإمام الشهيد" تارة و "الإمام الغائب" تارة أحرى .. ألا وهو الإمام الهادي عبد الرحمن محمد أحمد المهدي بكل ما كان يمثله من كاريزما روحية وسط جموع وعموم الأنصار .... وحيث لا تزال تنسج حوله الكثير من الهالات القدسية والأساطير التي تصل إلى حد إنكار معظم أتباعه لواقع وفاته ؛ بعد تدبير الرئيس السابق جعفر نميري حادثة إغتياله في شرق السودان ، وهو في طريقه نحو أثيوبيا عام 1970م.
أعمدة الجبهة الثورية
مهمة جلب الجبهة الثورية إلى طاولة الحوار أفلح فيها الصادق المهدي بعد وخلال أدائه هو وإبنته للدور المنوط بهما في "مسرحية السمسرة الأخيرة" ؛ وفق ما يعلم الشعب السوداني برمته بداية من تلك اللقاءات الحميمية والزيارات الودية التي جمعت بين عمر البشير والصادق المهدي .... مروراً بإسكتش الحلاويين وإنتهاءاً بإعلان باريس الفانتازي.
وكما سبق وذكرناه ؛ فقد جاء الصادق المهدي بأعمدة الجبهة الثورية السبعة وهم :
1) الحركة الشعبية لتحرير السودان ؛
2) حركة العدل المساواة السودانية ؛
3) حركة تحرير السودان/ عبدالواحد .
4) حركة تحرير السودان/ مناوي.
5) الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة (الشرق).
6) الاتحادي الديمقراطي/ التوم هجو.
7) الأمــة/ (جناح) نصر الدين الهادي المهدي.
جاء الصادق المهدي بهؤلاء الأعمدة السبعة إلى عاصمة بنات الأمهرا في جوف الهضبة الأثيوبية ؛ فتلقفهم ثابومبيكي أولاً بفرحة السمسار الشريف ... وهرع إليهم لاحقاً حصان الكيزان الأبيض غازي صلاح العتباني (ئيس حزب الإصلاح والتجديد / فرع المؤتمر الوطني) وهو يلهج بأهازيج السلام .... ويا سلام يا سلام من فريع البان البيسوح نديان مِنّـو يا سلام.
غازي العتباني رئيس حزب الإصلاح والتجديد فرع المؤتمر الوطني
أهم المؤشرات على إمكانية تصدع الجبهة الثورية ؛ إن هي أوغلت في تفاهماتها السلمية بشأن الحوار ، تكمن في أفكار وردود أفعال وقناعات صقورها الثلاثة .. وهم:
1) حركة تحرير السودان / عبد الواحد .
2) حركة تحرير السودان / مناوي.
3) حزب الأمة (جناح) نائب الرئيس نصر الدين الهادي المهدي.
وذلك أن قراءة حزب المؤتمر الوطني لوثيقة أديس أبابا ، تأتي على نحو محتلف عن تلك القراءة التي تعلنها الجبهة الثورية . فقد جاء على لسان مصطفى عثمان إسماعيل أمين الأمانة السياسية بجزب المؤتمر الوطني الحاكم قوله :
" أن وثيقة أديس أبابا والتي وقع عليها الصادق المهدي تتحدث عن الحل السياسي الشامل كخيار امثل لحل مشاكل السودان . وعن وقف الحرب وإعلان وقف إطلاق النار وضمان الحريات وحقوق الإنسان الأساسية . وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وبدء الحوار والعملية الدستورية ، بعد الاتفاق على القواعد والإجراءات التي بموجبها سيتم الحوار وحرية التعبير لجميع المشاركين في الحوار . وأن يكون وفق جدولة زمنية متفق عليها ، مع توفر ضمانات لتنفيذ مخرجات الحوار والبناء الدستوري ، ومشاركة كافة الأطراف لضمان التوصل لتوافق وطني."
ويعني طرح وفهم حزب المؤتمر الوطني الحاكم المشار إليه تفريغ "إعلان باريس" من كافة محتوياته ، وإحالته إلى حبر على على ورق. وكأنك يا زيد ما غزيت.
ومن ثم تكمن المحاذير هنا في الآتي:
1) أن العضو في تحالف الجبهة الثورية "عبد الواحد محمد نور" ؛ لا يقبل من حيث المبدأ بالحوار ، والتفاوض مع نظام الإنقاذ وفي كل الأحوال .. وقد ظل عبد الواحد ثابت على هذا المبدأ حتى وهو يدرك أن تكلفته داخلياً ستظل باهظة .... ولعل أفدح التكاليف كانت إنشقاق مساعده السابق "مني أركو مناوي" عنه ، وإستقلاله بمعظم الجناح العسكري وتكوين ما عرف لاحقا بـ "الحركة الثورية – جناح مناوي" التي دخلت في تفاوض وصلح هش مع حكومة الإنقاذ ... ثم مالبث هذا الصلح أن إنكفأ على وجهه ، وعاد العداء بأشدّ مما كان عليه ؛ وتجلى صراحة في أحداث أم روابة ، وأب كرشولا ... وغيرها من حوادث صغرى متفرقة.
عبد الواحد محمد نور
وفي الوقت الذي يتمتع فيه عبد الواحد نور بتمويل راسخ من إسرائيل ... فإن تعويل نظام الإنقاذ على إمكانية إغلاق منافذ الدعم والتمويل الذي يحصل عليه مناوي من "دينكا نقوك" يبدو ساذجاً ... ذلك أنه حتى إن أفلح المؤتمر الوطني في ذلك فإنه سيكون أمراً مؤقتاً وتظل النار تحت الرماد .
مِنـِّي أركــُو مِنـّاوي
وحتماً سيحصل مناوي في حال إغلاق ماسورة دينكا نقوك .. حتماً سيحصل على دعم مالي من بعض الأثرياء العرب ... أو من إسرائيل على ذات النحو الذي حصل عليه جون قرنق بعد غزو الكويت ... وحيث لا يزال العالم العربي غضبان إلى درجة فقدان الثقة في نظام الإنقاذ بسبب تقاربه مع إيران الخميني وحماس وبشار الأسد وحزب الله اللبناني .... ثم وعلاقته المتوترة اليوم مع ليبيا .... وكذلك حال تل أبيب في تقييمها لمدى خطورة قناعات وممارسات نظام الإنقاذ الخفية تجاه مزاعم "حق إسرائيل في الوجود".
2) يأتي بعد هؤلاء "شوكة الحوت" بالنسبة للصادق المهدي وهو "الأمير" نصر الدين إبن الإمام الهادي المهدي .. وهو في صلة القرابة مع الصادق المهدي إبن عمه لأبيه مباشرة ...... وهو الذي يتفوق على سواه (بمن فيهم الصادق المهدي) بالصمود الإستثنائي في وجه العسكري الشمولي ؛ سواء أكان في مواجهة عصر مايو البائد أو حكم الإنقاذ السائد.
نصر الدين الهادي المهدي
وشخصية نصر الدين الهادي المهدي تتسم بالثبات على المبدأ . ولا ينفك يرمي بسهام إنتقاده على صدور الجميع بمن فيهم إمام الطائفة ورئيس الحزب الصادق الصديق المهدي نفسه ..
ولعل البيان الذي أصدره في أبريل من العام الجاري حول اقصاء أمين الحزب، ومسألة التوريث والتطبيل الممنهج وسط (جناح) الصادق ..... لعله يكشف المدى الذي يمكن أن يذهب إليه نصر الدين في مواقفه وإنتقاداته الساخرة فوق رؤوس الجميع ....
وربما لولا حصة ممتلكات أبناء الإمام الراحل الهادي عبد الرحمن المهدي الكبيرة في الدائرة الإقتصادية التي يقع على عاتقها تمويل نشاط حزب الأمة القومي ... ربما لم يكن ليمد الصادق المهدي لإبن عمه نصر الدين ؛ هذا الحبل الطويل من الصبر الجميل إلى يومنا هذا .
ونذكر أن البيان المشار إليه أعلاه قد صدر بتاريخ 30 أبريل 2014م ممهوراً بتوقيع "نصر الدين الهادي المهدي" وجاء في إحدى فقراته ما يلي:
إننا نعلم سبب الأزمه الحالية وهو الإختلاف فى الرؤية السياسية، فالأمين العام يمثل التيار الداعم لإسقاط النظام وهو يمثل التيار الغالب فى الحزب و يعبر عن نبض الشارع السودانى، أما رئيس الحزب فيدعو إلى المهادنة مع النظام و إيجاد مسارات آمنه لتمكين النظام من الإفلات من السقوط و المحاسبة، و هذا الخط لا يمثل إلا رئيس الحزب و حفنة من الإنتهازيين و دعاة التوريث و عملاء النظام .
عبد الرحمن (النجل الأكبر) للصادق المهدي
ونصر الدين بدوره لايخفي تطلعه لكرسي الإمام في حالة رحيل الإمام "الخامس" الصادق المهدي منتهزاً فرصة غياب خليفة حقيقي صاحب كاريزما طائفية روحانية من بين "أنجال" الصادق الكبار . الذين شغلتهم البزة العسكرية وملذات الإنقاذ عن تلاوة راتب المهدي ؛ وأفقدتهم تلك اللمسة الغامضة ، والأدمغة الخبيثة التي يتمتع بها أهل السياسة ... كما أن إرتباطهما "الوظيفي" بنظام الإنقاذ أصبح محل تساؤل وسخرية الكافة.
إن دق إسفين بين نصر الدين الهادي المهدي وبعض حلفائه في الجبهة الثورية يعني في نهاية المطاف حرمانه من رفقاء درب ، يمكن أن يساندوه لاحقاً في سعيه الحثيث للوصول إلى كرسي الإمامة ورئاسة الحزب ... والإفلاح في إعادة توحيد كيان الأنصار... وهذا لا يرضي الصادق المهدي ؛ لأنه سيأتي خصماً على فكرة التوريث التي يرغب أن تظل ملكاً عضوداً لنسله من بعده وحدهم دون غيرهم من آل المهدي.
الصادق المهدي وإلى جواره أبنه بشرى
ولعل الصادق المهدي اليوم (79 سنة) ... لعله يعض أصابع الندم على توجيهه لنجليه عبد الرحمن و البشرى للإنخراط في صفوف العسكرية ؛ بعيدا عن التمرغ في سجادة الطائفية وراتب المهدي ، والتشرُّب من سراديب ورُطوبات الممارسة السياسية الإحترافية...... وشتان ما بين أحذية العساكر وأدمغة الساسة.
لأجل كل هذه الأسباب (وبعضها يكفي) ..... نرى أن خيارات الصادق المهدي في موازنة أو ترجيح كـفتـة في علاقته التكتيكية مع نظام الإنقاذ الحاكم تظل محدودة ...
ولن يستطيع الإفلات من شباك كانت معظم خيوطها من نسج يديه طوال فترات سابقة ؛ بدأت بإسهامه المباشر (عام 1966) في شق صفوف حزب الأمة الذي كان موحداً عشـيـة تفضيل الإمام الهادي تقديم السيد/ محمد أحمد المحجوب على إبن أخيه "الصادق المهدي" لمنصب رئيس الحزب ؛ لقناعته بكاريزميته في أوساط الداخل من جهة ، ولعلاقته المتميزة مع جمال عبد الناصر والملك فيصل فرسي رهان الأمة العربية آنذاك ..... وأنه (من آخر السطر) الرجل المناسب في المكان المناسب ..... ثم ولصغر سن الصادق المهدي وقتها ؛ وحداثة تجربته السياسية وعدم نضجه ؛ حيث لم يكن عمره يتعدى آنذاك ألـ 30 سنة.
"الهادي المهدي" الإمام الرابع لطائفة الأنصار
ونتيجة لتمرد الصادق المهدي على عمه الإمام الهادي المهدي أصبح هناك بعدها ما يعرف بحزب الأمة (جناح الهادي) ... وحزب الأمة (جناح الصادق) .. ثم وليتعمق الخلاف أكثر وأكثر كلما كبرت نبتة "التوريث" في عقلية الصادق المهدي ، وتشتت بذورها في حوش الحزب.
(إنتهى)
التعليقات (0)