الشيخ محمد بن أحمد الموسى ( 1310 - 1406 هـ)
≈ ســـــــيف الدولة ≈
لقد نشأ الشيخ محمد شاباً يتيماً فقد أباه وهو في سن مبكرة، و كان يُدعى باليتيم , كما كان والده أحمد بن عبداللطيف بن سالم يتيماً أيضا فقد والده على صغر. وقد نُصّب أحمد بن عبدالله بن سالم الموسى وصياً عليه عام 1282 هـ. كان جده لأمه الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الوهيبي، خال أبناء وبنات الشيخ عبداللطيف بن حسن آل الشيخ ، حيث تزوج الملك عبدالعزيز ابنته الأولى وأنجبت الملك فيصل والثانية تزوجها أخيه سعد وأنجبت فيصل بن سعد بينما تزوج أخيه محمد من الأخرى وأنجبت فهد بن محمد، فبالتالي يصبح جد الشيخ محمد لأمه خال أم الملك فيصل.
هذا الشاب الرائع لم يستسلم لظرف الذي سببه اليتم المبكر، وبدأ يشق طريقه في الحياة، تحدوه الآمال الكبار وهو في مقتبل العمر. كان يجالس الوجهاء والكرماء الذين ينعشون لديه حب الكمال، وعلى وجه الخصوص مجلس الشيخ عبدالرحمن الراشد والشيخ محمد العجاجي والشيخ حسين الموسى، حيث كان الأخير يتمتع بعلاقة وطيدة مع عبدالله بن جلوي الحاكم القوي، والذي كان يحكم أغنى وأهم أقاليم الحكم السعودي ألا وهي الإحساء.
رأى الشيخ حسين الموسى في هذا الشاب الحكمة والفطنة وحسن التدبير، فبدأ يسند إليه بعض المهام المسندة إليه أصلا من ابن جلوي، كرئاسة بعض لجان تسوية المنازعات بين الناس، وتقديم الرأي والمشورة التي تمليها الظروف في ذلك الوقت، وقد أثبت على الرغم من صغر سنه، بأن له قدرات غير عادية في حل أصعب القضايا وأكثرها تعقيداً، فذاع صيته بين الناس بمن فيهم ابن جلوي نفسه، الذي بدأ في الاعتماد عليه مباشرةً، وبذلك بدأ هذا الشاب يشق طريقه إلى بلاط الحكام وصناعة القرار.
لقد كان الشيخ محمد العجاجي آنذاك رجل دولة وشخصية بارزة ويرأس أملاك الدولة في الإحساء، والتي كانت تعتبر من أهم الروافد الأساسية لخزينة الدولة السعودية. وعندما تقدم في السن صدر أمر جلالة الملك رقم (5085 ) في 21 شعبان 1355هـ بتعيين الشيخ محمد بن أحمد الموسى مديراً لأملاك الدولة في الإحساء. (الوثيقة100) والتي تمتد حدودها من الكويت حتى عمان .
لم يكن - رحمه الله - مجرد شخصية اجتماعية عادية، بل كان رجل دولة، له هيبة الحاكم ودهاء الحكيم وجاه السلطان. وله حضور ومكانة لا يستطيع أي إنسان مهما كان إلا أن يقف أمامها بكل تقدير وإجلال. حتى الشارع الذي يسكن فيه سُمي بشارع الموسى نسبةً إليه. لقد اكتملت فيه جميع عناصر الوجاهة، ومن السهل على أي شخص أن يستشفها بمجرد النظر إلى هيئته العالية ذات الفخامة، وخطواته المتأنية والواثقة، وكلامه القليل الموزون، ونظراته الآمرة والتي كانت كفيلة بأن توصل ما يريد قوله ! يخيل إليك أنه سيف الدولة الذي وصفه المتنبي في أشعاره.
لقد أسس داخل العائلة – الموسى - بيتاً يشبه بيت الإمارة من حيث الشهرة، حيث أصبح هذا البيت في ذلك الوقت وبكل جدارة، الواجهة الوحيدة لعائلة الموسى وأيضا واجهة للإحساء ككل. هذا البيت الجليل خدم عائلة الموسى فرداً فرداً من خلال تطلعاتهم وهممهم العالية، وتضحيتهم بالمال والوقت، من أجل رفعة مكانة أسرتهم التي نقلوها من المحلية لتصبح معروفه ومشهورة على نطاق واسع، بل وفي طليعة الأسر اللامعة في المملكة. ولكن هذا لا يقلل من دور العديد من رموز الأسرة الأجلاء ممن كان لهم دور فعال ومؤثر في الفترات التي عاشوا فيها . لقد كانت سيرته تفيض بالهيبة والوجاهة حتى الملوك قصدوه وزاروه في بيته لما له من أهميه ومكانة بين الناس. لقد كوّن الشيخ محمد بن أحمد إرثاً عائلياً مشرفاً حري بنا جميعاً أن نحافظ عليه، ليكون حافزاً لنا وللأجيال القادمة.
كما لا يفوتني أن أنوه عن البعض، من رجال الإحساء البارزين، على سبيل المثال لا الحصر، فكل واحد منهم يستحق موضوعاً منفصلاً، من أمثال الشيخ عبدالله السعدون المُلقب بـ (الباشا) وهو الوحيد في الاحساء الذي مُنح هذا للقب من قبل الباب العالي. والشيخ محمد بن عبدالعزيز العفالق الذي اشتهر بالزعامة وقوة الشخصية، وعبدالوهاب بن عبدالله العفالق الرجل الشجاع القوي ولكن كليهما لم يمهلهما القدر. كذلك ممن تجمعهم علاقة خاصة معه من أمثال، الشيخ عبدالله الشهيل والشيخ حمد الجبر الغنيين عن التعريف، العالم الجليل الشيخ محمد ال عبدالقادر، وصديقه الحميم الشيخ يوسف بن راشد المبارك عالم السيّر والتاريخ. الشيخ سعد القصيبي الذي كان سخياً مع المحتاجين، الشيخ عبدالله بن بودي الذي كان كريم النفس واليد، أنيقاً في مظهره، وحكيماً في سلوكه، كلامه عذب فيه متعة فريدة، عندما يتحدث يخيل إليك أنه يغرف من بحر هادئ. أيضاً الشيخ سليمان بالغنيم التاجر العريق والشيخ عبدالعزيز البراك، الشيخ خليفة الملحم، الشيخ عبدالوهاب الصويغ، بالإضافة إلى الشيخ عبدالله بن محمد آل الشيخ الذي تجمعه به صداقة وعلاقة قربى وغيرهم .
زيارة الملك سعود للاحساء ..
زار الملك سعود الإحساء للمرة الأولى عام 1954 م وأقام له الأهالي حفلا كبيراً في عين أم سبعة ، وكان الشيخ محمد والشيخ عبدالله الشهيل والشيخ حمد الجبر أعضاء اللجنة المنظمة للحفل ، وألقى كلمة الحفل الشيخ عبداللطيف الجبر، كما كما ألقى خالد بن محمد ال عبدالقادر قصيدة للعالم الجليل الشيخ محمد آل عبدالقادر أبياتاً عبرت عن أجمل وأروع وصف لهذا الموقف :
بوادر الخير من يمناك تبتدر - لا أم سبعة ولا النيل الذي ذكروا
آل السعود على حافتها نزلوا - سعود نجم تليه الأنجم الزهرو
فماؤها واصفرار الشمس يصبغه - كخدود غيد علاها الورس والخفر
وقد كرر الزيارة عام 58 و 59 م وحلّ في كلتا الزيارتين ضيفاً في منزل الشيخ محمد، وأخذت الاستعدادات والترتيبات لهذه الزيارة تسير على قدم وساق، ومن بين تلك الأشياء المهمة التي يتوجب التحضير لها وإعدادها بشكل متقن وتليق بهذا الموقف، نص الكلمة التي سوف تُلقى على مسامع الضيف الكبير، التفت الشيخ محمد آنذاك وجال ببصره وبصيرته في من حوله، فلم يجد أحداً مؤهلاً لهذه المهمة الصعبة والحساسة ! سوى عبدالرحمن الموسى – أبي عوف- فهو يتعاطى الأدب والشعر منذ نعومة أظفاره، ولديه إلمام بعلوم اللغة والقران، فوقع الاختيار عليه وكلفه بكتابة الكلمة. كذلك اختار ابنه عبدالعزيز لإلقائها والذي كان حينها شابا يافعا وسيما لماحا وذا طلعة بهية. استهل النص وكالمعتاد بالأبيات التالية :
على الطائر الميمون يا خير قـــــادمــــــــــ - وأهلا وسهلا بالعلا والمكـارمــــ
قدمـــــــت بحمد الله أكرم مــــقدم مـــــدى - الدهر يبقى ذكره في المواســـــــــم
وكالمعتاد لم تخلُِ تلك الزيارة من بعض الفكاهة والمرح! فالشيخ أحمد الموسى -أبو طارق - ومحمد بن عبدالوهاب الموسى - أبو خالد - الصديقان الحميمان لأبي عوف ، هؤلاء الثلاثة قد عاشوا ترّهات الحياة سويا، في أيام قد خلت، عندما كان الشباب مطيّة اللعب ومحسّن الصعب. وجد أحمد ومحمد في هذا الموقف فرصةً وصيداً سميناً للتندر على أبي عوف، وأخذا يراقبانه عن كثب، وهو جالس في إحدى زوايا المجلس منهمكاً في الكتابة، بينما جلسا في الناحية الأخرى، يتهكمان عليه تارة ويعلقان تارةً أخرى، فحمى الوطيس وبدأ التراشق وكأن الشياطين تتطارد في كل إتجاه ! وضجّ المكان بالسخرية والضحك على هذا النص الخطابي، يصفونه بالممل والمكرر، وأن ليس في جعبته سوى ترديد تلك الأبيات العثمانية البالية ، التي عفا عليها الزمن وأصبحت مقدمة لكل نص خطابي يكتبه! أما أبو عوف فكان يحاول جاهداً وبدون جدوى، الرد عليهما، وفي نفس الوقت تجميع أفكاره التي شتتها وبعثرتها تعليقاتهما. وأخيراً ضاق ذرعاً بهما وبلغ السيل الزبى، ورمى بالقلم وغادر المكان تاركاً الخطاب ملقىً على الأرض، متهماً كلاً منهما، بأنه هو السبب وراء تعطيل كتابة النص. بيد أنه كان هناك على الجانب الآخر، شخص آخر يقوم بمهمة في غاية الظرف والأهمية ! ألا وهو فهد الحادي ذلك الرجل الأنيق الذكي، والذي كان يطوف عليهم بين الحين والآخر، مسترقاً السمع، وهو سريع في نقل الإخبار، ربما أسرع من هدهد سليمان ! وعلى الفور يدنو من الشيخ محمد خلسة ، وبكل لباقة يصب الخبر في أذنه ويقول .. بأن أبا عوف قد توقف عن الكتابة وغادر المكان، بسبب السخرية التي تعرض لها من قبل أحمد ومحمد، فينادي عليهما غاضبا وينهال عليهما بسيل من التوبيخ والتأنيب، متوعدا إياهما بالويل والثبور وعظائم الأمور، لتعطيلهما كتابة الخطاب، ثم يتصل بأبي عوف ويطلب منه الاستمرار، ويستجيب بدون تردد، ويعاود الكتابة ويتكرر هذا السيناريو عدة مرات، وفهد الحادي يؤدي نفس الدور! ويبدو أن أبا عوف أعد خطة دفاعية لمواجهة هذا الموقف ،فكلما راق له أن يرى الشيخ محمد "يغسل شراعهما" تظاهر بالزعل وتوقف عن الكتابة ! وهكذا دواليك يستمر الوضع بين مد وجزر.. وفي النهاية اكتمل ذلك الخطاب الذي أثنى عليه الملك وعلى الشاب المتألق الذي قرأه على مسامعه .
عبدالله ابن جلوي ( وثيقة تاريخيه)
كان الشيخ ياسين بو خمسين الرجل الثري والمعروف في الإحساء، لديه بستان مجاور لأحد بساتين الأمير عبدالله بن جلوي ، فشعر ذات يوم بالظلم لعدم حصوله على الحصة التي يستحقها من مياه الري ، والسبب في ذلك أنها قد ذهبت إلى جاره (ابن جلوي) والذي كما يقول قد ظفر بحصة الأسد على حسابه. فلم يجد ياسين أمامه سوى أن يشكو حاله إلى ابن جلوي، الذي على إثرها أصدر خطاباً ( الوثيقة 90) في غاية الأهمية والحساسية، بل ليس من المبالغة بمكان بأنه يستحق أن يدرج من ضمن المواثيق الهامة في تاريخنا المعاصر. فالخطاب هو عبارة عن أمر بتكوين لجنة بعضوية كل من الشيخ عبدالرحمن الراشد والشيخ محمد الموسى والشيخ حسين العرفج وآخرين. كما حثهم في الخطاب بتوخي العدل والأمانة والحكم بما يرضي الله سبحانه وتعالى.
إن غياب السلطة القضائية في ذلك الزمان، الذي كان مصاحباً لنشأة الدولة، جعل حكّام الأقاليم يعتمدون على رجال من أهل الرأي والحكمة والنزاهة في حل المنازعات بين الناس، من خلال تكوين لجان يتم اختيار أعضائها بعناية فائقة من قبل الحاكم . شرعت اللجنة بالنظر في هذه القضية الغير مسبوقة في تاريخ الدولة السعودية، والتي قد تستدعي حفيظة المنقبين عن وقائع تاريخية متناقضة . فوجد الأعضاء أنفسهم أمام مشكلة عويصة وفي موقف كمن يحاول نزع فتيل قنبلة موقوتة ! فالهاجس الماثل أمامهم، بأن قول الحق سوف يجلب سخط بن جلوي عليهم. بل إن أكثر ما أستأثر اهتمامي، هو أن يأمر حاكمٌ عربيٌ إبان ذلك الزمن الغابر ( الوثيقة 9 ) بالشروع في محاكمة يكون هو نفسه الطرف الأول، بينما الطرف الآخر فيها أحد رعاياه! , ليس ذلك فحسب، بل إن الحكم الذي توصلت إليه اللجنة جاء ضده ! وذلك عندما وجدوا أن وثيقة الملكية تنص على أن البستانين كانا في الاصل بستاناً واحداً من أملاك ابن ماجد، الذي باع نصفه لابن جلوي والآخر لياسين وقسّم الماء بينهما بالتساوي حسب ما ورد في نص الوثيقة. كما أنه صفحة بيضاء ومشرقه في سجل هؤلاء الرجال أعضاء اللجنة، لشجاعتهم في الوقوف إلى جانب الحق. فالشيخ عبدالرحمن الراشد لم يكن كأحدٍ من سائر الناس،بل كان وجيهاً من الطراز الأول ، يُعتد به وبآرائه السديدة على نطاق واسع ، أسس لنفسه ثروة طائلة ومكانة اجتماعية مرموقة بإصراره وصبره وكفاحه الدؤوب. كذلك الشيخ حسين العرفج الذي كان فارع الطول عظيم الجثة وضخم الأطراف و يتمتع بالدهاء وبسعة الحيلة وأيضاً بالطرافة وخفة الظل. هؤلاء الرجال الأخيار ضربوا مثلاً رائعاً في حمل الأمانة وتحقيق العدالة وبعد النظر،كذلك الشيخ ياسين لشجاعته وإصراره على الوقوف في هذا المأزق الخطير في زمن كان البعض يعتبر مجرد الوقوف أمام ابن جلوي أشبه بالصعود إلى الباخرة تايتانك !
إذا كان ما أقدم عليه ابن جلوي يوم 25 جمادى من عام 1355 هـ هو بدافع تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، ولم يكن مجرد حادثة تاريخية انتقائية أو من النوادر المتقطعة في سجل حياته الحافل بفرض السيطرة، فنحن إذاً بصدد وثيقة في غاية الأهمية، يستحق صاحبها التبجيل كما ينبغي، لسيطرته الشخصية على ذاته، ولإصراره على أن تأخذ العدالة مجراها ولو كان على نفسه. فلم يُعرف هذا الرجل عند العامة بالعدل بقدر ما عُرف باستخدام أقسى درجات العنف ضد المخالفين لأوامره، وبتغليب الشبهة مكان اليقين، معتمداً على الحدس العقلي الذي غالباً ما يفضي إلى نتيجة مؤداها التسرع في الحكم والمبالغة في العقوبة، فالزيادة والنقصان، والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء، إذا لم يكن بينها برزخٌ يحفظ لها الاعتدال بوجه عام. فتداعيات تلك الأمور قد جيشت النفوس ضده، فشاعت في عصره قصص وحكايات تشبه الإسرائيليات، اختلط فيها الصدق مع من سواه. فمن المرجح أن سجله قد خلا من حادثة ظلم بواح واحدة، هذا على اعتبار أن ما ينتج عن التسرع والمبالغة في العقوبة ليس ظلماً متعمداً ! بقدر ما كان وسيلة ردع.علماً بأن الظلم قد يقع حتى بين الأتقياء، ناهيك عن حاكم يريد بسط الأمن في محيط مضطرب. ولكن ينبغي أن نُشير وبإلحاح إلى الظروف السياسية والأمنية في تلك الفترة ، والتي كانت تعصف بإقليم الإحساء من كل جانب، متمثلة في جهات كانت تصارعه على السلطة حفاظاً على كيانها القبلي، وأخرى ترى في السلب والنهب طريقاً وحيداً لطلب الرزق، وآخرون أصحاب مصالح وأملاك يريدون حمايتها. فربما تلك الظروف مجتمعة قد ألقت بظلالها على طريقته في التعاطي مع الأمور. لذا لا ينبغي أن نسقط عليه فهمنا الحالي لقيم العدل والتسامح من دون أن نضعها في إطارها العام لعصره وبيئته. فثمة شيئان رئيسيان في سيرته ومن الصعب الاختلاف حولهما ، الأولى بأنه لم يجمع ثروة، والأخرى لم يكن يحابي أحد على حساب أحد، فالناس عنده سيان. يقال أن الحكماء قد أجمعوا على أن الفضائل أربعة هي " الحكمة والعفة والشجاعة والعدل" فهل غابت عن بطل المصمك الأول ؟ هذا مجرد رأي وليس موقف، ولعلني ذهبت فيه مذهب من يريد التوضيح لا مذهب من يريد الغلبة والجدال. ولكن المدهش في الأمر كيف لحدث بهذا الحجم أن يثير فينا هذا القدر الضئيل من الاهتمام ! بل كاد أن يتوارى من أرشيف الذاكرة ويسقط في بحر النسيان. رحم الله ابن جلوي رحمةً واسعة وجميع أولئك الرجال.
المربوع ..
كانت الدولة السعودية ناشئة للتو ومنهكة بفعل الحروب الشرسة التي خاضها الملك عبدالعزيز من أجل توحيد أقاليم كيانها الكبير والمترامي الأطراف، ناهيك عن شح الموارد، حيث كان المأمول من الإحساء أن تأتي بحصة الأسد منها . شرعت الدولة في الضغط على حكام الأقاليم وعلى وجه الخصوص عبدالله بن جلوي، الذي كان يحكم أغنى الأقاليم قاطبة للبحث عن مصادر أخرى للمال لسد العجز الحاصل في ميزانية الدولة. عندها أقرّ ابن جلوي نظاماً للضرائب بحيث يتوجب على أصحاب الأملاك، بدفع ضريبة أربع مرات في السنة والذي عرف في ما بعد بـ (المربوع ) الأمر الذي أثقل كاهل الناس، حيث لم يخفِ الكثير منهم شعوره بالضيم والتذمر مثل عائلة الخليفة الثرية والمعروفة في المبرز، وغيرهم ممن جاؤوا للشيخ محمد يناشدونه التدخل لوضع حد لهذا الأمر، وأنه لم يعد أمامهم سوى تسليم أملاكهم للدولة. فحضروا عنده و سمع منهم شكواهم وأبلغهم بأنه مدرك تمام الإدراك لحجم المشكلة التي يعانون منها هم وغيرهم من أصحاب الأملاك، أيضاً مدرك بأن البلد برمتها أصبحت على موعد مع كارثة اقتصادية، ووعدهم خيراً وذهب لمقابلة ابن جلوي، ذلك اللقاء الذي يتمنى كل إنسان الخلاص منه بأي ثمن ! فما بالك بمن يأتيه ليطلب منه التراجع عن أمر هو أساساً قد أقره ! فقدم إلى مجلسه المهيب، ذلك المكان الذي يكاد فيه الناس أن يسيروا على أطراف أصابعهم خشية أن تخدش خطواتهم هيبته، فجلس بجواره وهو يكاد يحبس أنفاسه، محاولاً أن يصوغ في ذهنه أقوالاً، أو مستغلاً أدنى انفراج في مزاجه لجره إلى مشاعر أفضل تجاه ما ينوي أن يقوله. فطال انتظاره .. ولم يكن هناك مجالا لأي مجاملات لتخترق الصمت . ثم اتجه إليه وسلمه السجل قائلاً له " بأن الناس لا يستطيعون تحمل تبعات وأعباء المربوع، وأنه إذا استمر الوضع كما هو عليه، فمن المؤكد أن الناس سوف يخسرون معظم أملاكهم " فاشتعلت عيناه غضباً واحتقن وجهه وتهدج صوته من شدة الغيظ، ثم ران الصمت للحظات، فهب واقفاً وأمسك بالسجل ورماه باتجاه الشيخ محمد، ثم التفت إليه بنبرة نهائية تنم عن نفاد الصبر قائلاً ... تصرف كيفما تشاء ! أي أنني قد تراجعت عن قراري بشأن "المربوع" وبذلك وضع الشيخ محمد نهاية لهذه الضريبة الجائرة وخلص البلد منها إلى الأبد. كما أن هذا الموقف يسلط الضوء على جانب مجهول في شخصية ابن جلوي، وذلك بتراجعه عن رأيه من أجل هدف سامي ألا وهو دفع الضرر عن الناس.
المسألة الشيعية..
إرادة التعايش السني الشيعي حقيقة أم وهم ؟
مجالس الاحساء ..
في الإحساء ومنذ القدم تعتبر المجالس مرادفاً للمكانة الاجتماعية، وما يُمارس فيها ما هو إلا مرآة لتوجهات أصحابها، فلقد عُرف العديد من رموز عائلة الموسى من خلال مجالسهم وعبر تاريخهم الطويل في الإحساء ، بقدر ملحوظ من الممارسات المبنية على التسامح فيما يخص المسألة الشيعية. فعلى الرغم من الاختلاف الطائفي والتعدد المذهبي الذي تزهو به الإحساء، بقي الوضع السائد بين السنة والشيعة إبان تلك الفترة، مرضياً إلى الحد الذي يكفي إلى تهدئة النفوس. وهذا بطبيعة الحال لا ينفي وجود الحاجز المذهبي، والذي لا يكاد يطفو إلى السطح، إلا في بعض المناسبات الدينية مثل عاشوراء وغيرها. بينما في المقابل بقي الحاجز الاجتماعي كخط وهمي يظهر ويختفي تبعاً لمناطق التواجد، صحيح أن لدى الناس ميل إلى التجزئة الجغرافية حسب انتمائهم الطائفي، فيبدو للوهلة الأولى كأنه نوع من الفرز الاجتماعي، إلا إنه في حقيقة الأمر ليس كذلك. وعلى أي حال، فثمة شيء ما بدواخلهم محاطاً بسياج، ساهم في وضعه المناخ السائد والمقبول آنذاك،فلا غرابة ! فهم أقلية في دولة سنية! فالرضا من عدمه يتأرجح، بقدر مداراتهم عن ذلك السياج الذي نصبوه. ولكن بوجه عام كانت العلاقات والمصالح بين الجميع مشتركة ومتشابكة، تمليها عليهم الحاجة التي تجمعهم وقلما تفرقهم .
مجتمع لا سني ولا شيعي ...
أرشيف ذاكرتي حافل بالشواهد على ذلك، فأختي الكبرى تعلمت القرآن على يد المعلمة الشيعية فضة، وكانت معظم الطالبات من السنة،كذلك كان السيد ياسين الموسوي معلماً فاضلاً ورجلاً خيّراً، تعلم على يديه العديد من أبناء السنة،وقد استعان به الشيخ عبداللطيف العفالق، في تدوين علم الفرائض. كما كنت أشاهد عبدالمحسن المحيسن يحضر كل يوم جمعة قبل الصلاة في مجلس خالي محمد الكثير، وكان لدى الخال العديد من الأصدقاء الشيعة، يمازحهم ويمازحونه، بطريقة فيها الكثير من الجرأة والمرح، والقليل من الجد والحساسية. ومن الطريف أنه دُعي إلى الحسينية في أيام عاشوراء، وكان الشيخ يخطب بلهجة عراقية مع العلم أنه إحسائي،فالتفت الخال إلى الحاضرين مستنكراً : لماذا هذا الرجل يتبغدد علينا ؟ أي يخطب بلهجة عراقية؟ فرد عليه أحدهم "لكي يدخل الإيمان في قلبك" فضحك هو أولاً وضحك الجميع، واستأنفوا سماع الخطبة وكأن شيئاً لم يحدث،فكما يقال بين الأصحاب يسقط العتاب. ولست أنسى دكان الرجل الطيب أبي كنّان الذي يحلو له أن يشاكسنا بإضافة قرشين إلى قيمة أي سلعة،فعندما تسأله عن السب؟ يقول القرشين أولا ! لأن القرشين هما الأهم والضامن لباقي القيمة. أيضاً بين الحين والآخر نذهب إلى الخياط حسين الشبيبي،ولم نكن ندفع له على الطربيزة! بل يسجلها في أرشيفه الذهني،فذكاء هذا الرجل مكّنه من اجتياز امتحان سنوات المتوسطة الثلاث في سنة واحدة! وأذكر جيدا بأن زملائنا الشيعة في الثانوية يدعوننا إلى الحسينية أيام عاشوراء وكنا نذهب ولم نسمع ما يخدش مشاعرنا. وكنا نذهب في رحلات مدرسية إلى الرياض فيتعاملون معنا على أننا جميعاً شيعة ! ولم نكن نفلح في جرهم إلى تقبّل أن الإحساء هي خليط من السنة والشيعة.أما دكاكين الصاغة فكانت منتشرة في زوايا السوق،فهؤلاء حرفيون ماهرون، كذلك عرفوا بحس دعابة متطور. يقال أن أحد الوجهاء الأغنياء ذهب إلى صائغ بغرض شراء حلي،فرحب به وأراد أن يظهر له مدى اهتمامه، فنادى أحد أبنائه وطلب منه أن يُحضر كأساً ثميناً من الزجاج ليقدم فيه الشاي لضيفه المهم،وقبل أن يذهب الولد أمسك به وضربه وحذره من كسر الكأس، فقال له الضيف مستنكراً، لماذا ضربت الولد وهو لم يكسر الكأس بعد؟ فالتفت الصائغ إليه قائلاً .. أحسنت! ما الفائدة من ضربه بعد أن ينكسر الكأس؟
الاحساء والانسحاب من الخطر ...
ومما يثير الاستغراب بأن هذا البلد بتاريخه الطويل، قد نجح ولعدة مرات في الانسحاب من الخطر وفي العودة للتعافي بفعل أزمات لها أسباب ودواعي مختلفة. فلست هنا معنياً بالخوض في كل الأسباب التي أدت إلى تجاوز هذا البلد لتك الأزمات، فهي ليست موضوعي، ولكني أزعم بأن السبب الرئيس يعود إلى تضافر جهود العديد من الرموز السنية والشيعية المؤثرة في المجتمع آنذاك . بيد أن هؤلاء الرجال عاشوا في فترات زمنية هي بمنأى عن الفتن الطائفية الحقيقية،فالحياة كما أسلفت كانت بسيطة وأقل تعقيداً مما هي عليه اليوم، فعلاقات الناس كانت تسير بطريقة طبيعية مع استثناءات طفيفة لا تكاد تذكر. لكن هؤلاء الرموز قد تراخى تأثيرهم وتراجع دورهم اليوم، بسبب ظهور المؤسسات الأمنية والمدنية، كذلك الانفتاح على العالم الخارجي، وإن كان التصاق الشيعة برموزهم الدينية أكثر مما هم عليه السنة، بسبب طبيعة المذهب.
الثورة الايرانية والازمة الطائفية في الاحساء ...
استيقظ الناس ذات يوم وهم على أعتاب الثمانينيات من القرن الماضي، وإذا بالأزمة تُطل برأسها على البلد،فبادر البعض إلى التعامل معها على أنها خطر قادم يحمل في طياته بعداً خارجياً، على الأقل هذا ما يحلو لطرف أن يدعيه ضد الآخر،مستشهدين بأقوال وأفعال من هنا وهناك. فساد لدى هؤلاء شعور بأن الثورة الإيرانية أحدثت تياراً قوياً في شتى أرجاء المنطقة،واعتبروا أن الإحساء من المناطق التي تسرب إليها قدر ملحوظ من جراء ذلك التأثير، فتولّد لديهم انطباع بأن إيران لا ترى العالم وفقاً لمصلحتها السياسية، بل وفقاً للتقسيم الطائفي! فداهم الناس خوف مبني على تكهن أحداث مستقبلية، تبين فيما بعد أنها لم تحدث! كالحديث عن تصدير الثورة وعن منظمات سرية هدفها زعزعة الوضع القائم. والأخطر أن البعض منهم صعّد الموقف إلى حد التشكيك في الولاء. هذا الفريق لديه أسبابه والتي ربما حازت على القبول لدى الأغلبية السنية. تلك الأسباب بطبيعة الحال قد رفضها الطرف الآخر، والذي بدوره أرجع أسباب الأزمة إلى التضييق على كل من الحرية المذهبية والحقوق المدنية، وبالطبع حازت رؤى هذا الفريق أيضاً على القبول عند الأغلبية الشيعية،وبنفس الطريقة وجهوا أصابع الاتهام إلى تيار آخر دخيل، قد هب قادماً من غرب الإحساء! جلب معه أراء منفرة، وتزامن أيضاً مع زخم سلفي قادته سفينة الصحوة وأذكته كرامات الجهاد في أفغانستان. حينها تكاثفت سحب سوداء، منذرة بهبوب أعاصير عاتية، فتشبع الجو العام بالاحتقان وبنظرية المؤامرة، والإنسان بطبعه قد يستجمع أكثر التفاصيل تفاهة ليبني منها نظرية متماسكة ومفصلة عن سبب وجود مؤامرة تحاك ضده، فما بالك بمن يعيش تحت وطأة تلك الظروف الاستثنائية، في مجتمع يوصف بأنه متحضر ولكن بالمفهوم الضيق لهذه الكلمة، بينما فعلياً هو بعيد كل البعد عن التمدن كفكر وأسلوب حياة. ففي معظم الأحيان النزاع الطائفي لا يبرز في المجتمعات المتمدنة، لكونهم منهمكين في المدنية. هذا الأمر أحدث انقساما وحزّ حزّاً عميقاً في قناعات تبناها المجتمع الإحسائي الطيب منذ مئات السنين، فجيّشت النفوس وحل الحكم على النوايا بديلاً عن الحكم على الأفعال ! بينما في حقيقة الأمر لو كشف الله الغطاء عن ضمائر الناس لما سلم منهم أحد.
بينما على الجانب الآخر، كان الشيخ محمد يراقب هذا الموقف بعقلانية ولكن أيضاً بقلقٍ وحرصٍ شديدين، فهب على الفور إلى استثمار علاقاته الواسعة مع أصحاب القرار من جهة، وأصحاب الشأن في المجتمع الشيعي من جهة أخرى، حيث كانت ترتكز فكرته على أمرين هامين، الأول هو إقناع أصحاب القرار بإمكانية نزع فتيل الأزمة عن طريق التفاهم والحوار الصريح والمباشر، والآخر هو إقناع وجهاء الشيعة بنفس الفكرة وبأن الحل لا يمكن أن يأتي إلا من خلال رجال ينتمون إلى نفس الطائفة. فنجح فيما ذهب إليه،وقد أثمرت جهوده عن تحقيق لقاءات وصفت بأنها كانت إيجابية إلى حدٍ كبير. حيث كلّف الشيخ محمد ابنه عبدالعزيز بالتنسيق لتلك الاجتماعات، لكونه رجل متعلم وخريج أمريكا ،كذلك مطّلعٌ على حيثيات الأمور، وأيضاً لديه مخزون ثقافي هائل. كما كما رافق الوفد الشيعي من الاحساء الى الرياض حفيده رياض، وكان على رأس الوفد، الشيخ عبدالمحسن العيسى،الذي عُرف بأنه شخصية قيادية وحكيمة.وبالفعل تمخضت تلك الاجتماعات عن نتائج أدت إلى تهدئة النفوس واحتواء الأزمة بالقدر الذي سمحت به الظروف آنذاك. فمن الصعوبة بمكان إدراك مدى صعوبة ما تم انجازه،بمعزل عن تفهّم الإطار الزمني للقضية، فلقد كانت البلد تمر بأزمة غير مسبوقة بلغ فيها الاستقطاب الطائفي حدوده القصوى، كما أن الجو العام كان مشحوناً ولم يكن مهيئاً لاتخاذ أي خطوة إيجابية. مع ذلك أصر الشيخ محمد على موقفه وفكرته، على الرغم من صعوبة المكان والزمان، ماضياً في طريق ربما لم تطؤه الأقدام من قبل، أو على الأقل قرر السير في طريق هو الأقل سلوكاً ولكنه أيضا الأكثر أمناً للمجتمع.محافظاً على قيم التسامح حتى في أوج الأزمة. فليس من السهل أن يُحسب للإنسان موقفاً عادلاً وإيجابياً تجاه قضية شائكة، من المفترض أن تكون طائفته طرفاً فيها! ما لم يكن الشخص هو نفسه، مهيباً في النفوس، جليلاً في الصدور وموقراً في المجالس، وقادراً أيضاً على إذابة الفوارق بين الناس.فالعبرة ليست في الكلام وحده أو في مضمونه حتى لو كان له مضمون، طالما كان بمنأى عن الممارسة ! فالمحك الحقيقي إلى أي مدى يمكن لسلوك شخص، أن يكون ترجمة حقيقية لأفعاله؟ فأونصة من العمل تعادل طن من الكلام، والأهم بأنه قام بهذا العمل الجليل بأقل قدر من التنظير ! ولو تأملنا بتمعن فيما يمارسه الشيخ محمد يومياً في مجلسه، لوجدنا أن ما يقوم به ليس مجرد دليل على الصدارة الاجتماعية فحسب. ولكنه أيضاً مسلك أخلاقي يُغني عن ما يكتبه الكتّاب ويقوله الوعاظ بشأن التعايش السلمي ونبذ الطائفية، فلقد سبق هؤلاء المفكرين المنشغلين بهذا الموضوع، الذي طال الجدل حوله هذه الأيام في الإعلام والصحافة والمؤتمرات الحوارية. على الرغم من أن قضية الخلاف السني الشيعي من أكثر القضايا تعقيداً في مجتمعاتنا، ولم تعد مثلما بدأت، مجرد خلاف حول من هو أحق بالخلافة أبو بكر أم علي؟ بل باتت أوسع وأعمق من ذلك بفعل كرّ السنين، وظل تاريخنا يسحبها وراءه لأكثر من ألف عام. كما أن الحل الذي جاء به الشيخ محمد ليس مشروعا معداً سلفاً من قبل الدولة ويراد ترويجه على الطرف الشيعي أو العكس، فمن المعلوم أنه لم يكن حينها يشغل أي منصب حكومي، لذا فالحل هو عبارة عن مبادرة ذاتية هدفها فسح الطريق أمام الطرفين للقاء والتفاهم . ولعلي أستدرك هنا لإزالة أي لبس، بأنه لم يكن منشغلاً بمسألة التقارب المذهبي، فتلك مسألة دأب ذوي الاختصاص في البحث عن حل لها ولم يفوزوا ببارقة أمل إلى يومنا هذا.فمن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن العلاقات التي كانت تربطه بالشيعة، لم تكن نوع من الترف الاجتماعي، أو وليدة اليوم، بل هي بالنسبة له موروث عائلي تحدر منذ مئات السنين .كما أن ترأسه فيما مضى لإدارة أملاك الدولة، فتح المجال أمامه لترسيخ تلك المبادئ، فسجله حافل بقصص وشواهد تنم عن التسامح وحسن النوايا وأيضاً العزوف عن الترجيح الطائفي.
صحيح إن نتائج الحل الذي جاء به الشيخ محمد قد خفت آثارها في زماننا هذا، ربما لأسباب عديدة، من أهمها بأن تلك الخطوة التي أتت بثمارها الآنية، لم تُستثمر كما يجب من قبل المعنيين، فيبدو أنهم اقتنعوا حينها بمجرد نزع فتيل الأزمة، فلا يمكن لأي عمل أن يُستكمل من دون حرص ومتابعة متواصلة.كما أن الإصلاح الاجتماعي بمجمله ليس عملاً فردياً محضا، بل يحتاج إلى تحرك جماعي يحمل صفة الديمومة ويتوارثه جيلاً بعد جيل . وعلى أي حال تبقى حقيقة ماثلة أمامنا، بأن هذا الرجل ، استطاع على الأقل، في يوم من الأيام ، أن يُخرج البلد من الزاوية الطائفية الضيقة، وأن يمهد الأرضية المناسبة، التي لو صادفت وعياً جماعياً لربما قادت المجتمع إلى تحقيق التعايش المشترك.
من اعلام الشيعة ..
كما لا أريد أن أبخس رجال أفاضل من رموز الشيعة حقهم، ممن كانوا على صلة وثيقة معه، ولعبوا دوراً مؤثرا في حل تلك الأزمة، وكانوا لا يقلون عنه إصراراً وحرصاً على هذا المبدأ ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، العديد من رموز عائلة الخليفة في المبرز، الشيخ عبدالمحسن العيسى الشخصية البارزة في العمران،الذي عُرف بوجاهته المبهرة وكرمه وحبه وإخلاصه لوطنه، كذلك كل من السيد علي والسيد جواد الهاشم، والشيخ علي العلي، والسيد محمد الناصر الغزال، وكل من الشيخ إبراهيم وياسين أبو خمسين وغيرهم.
كما أن علاقات الشيخ محمد لم تكن محصورة بشيعة الإحساء، بل امتدت إلى العديد من وجهاء القطيف وصفوى، من أمثال الشيخ منصور الخنيزي، والشيخ عبدالله النصر الله، والسيد عبدالله الذي كان أول قاضي جعفري في القطيف، والسيد عبدالهادي العبدالهادي الرجل الكريم والمعروف في صفوى. وللعلم فلم تكن علاقات الشيخ محمد مع هؤلاء الرجال، سواء في الإحساء أو في القطيف، مبنية على المجاملات فقط. بل كانت تتسم بالتقدير والود والاحترام المتبادل.
صاحبة السمو الملكي الاميرة سارة بنت عبدالعزيز ال سعود
توفيت لجعة بنت خالد آل حثلين وهي في الطريق من الإحساء إلى الكويت ولها بنت ولدت للتو، هي صاحبة السمو الملكي الأميرة سارة بنت عبدالعزيز، فأشارت أحد النساء القريبات من أمها، بأن تُبقي الأميرة سارة في رعاية الشيخ محمد، والذي كان يتمتع بعلاقة قوية واحترام من قبل كل من الملك عبدالعزيز وآل حثلين على حد سواء. لقد كان من أولئك الرجال النبلاء، الذين يأمنهم الناس على أموالهم وأعراضهم وهم مطمئنون. عاشت الأميرة سارة في بيته العشرة شهور الأولى من عمرها، ورضعتها عائشة بنت عبد اللطيف الموسى الزوجة الأولى للشيخ محمد. وكانت تنادي الشيخ محمد بأبي، حيث استمرت تلك العلاقة وتوثقت معها ومع زوجها الأمير فيصل بن سعد، والذي كما أسلفنا تربطه صلة رحم مع الشيخ محمد عن طريق جده لأمه الشيخ عبدالرحمن الوهيبي. كذلك تجمعه نفس القرابة مع سمو الأمير فهد بن محمد بن عبدالرحمن، الذي أصبح أيضا صديقا حميما له. وقد زاره عدة مرات في مزرعته القليبات، المكان الذي يستقبل فيه ضيوفه عندما يكون الجو معتدلاً، فلم أشاهد بأم عيني مكاناً تتجلى فيه الوجاهة والفخامة مثل هذا المكان. حتى أن الأمير فهد لم يستطع أن يخفي مشاعره في يوم من الأيام، عندما أخذ يتأمل في روعة المكان وصاحبه، فقال مخاطباً الشيخ محمد" ألا ليت الأعمار تُشترى لاشتريت عمراً وأهديته لك"
رشيد عالي الكيلاني ضيفاً عليه في مزرعته "السبخة"
لقد حضر في مجلس الشيخ /محمد بن أحمد الموسى العديد من المشاهير ليس على الصعيد المحلي، بل والعربي أيضا . وكان رشيد عالي الكيلاني واحدا من هؤلاء، فقد حل ضيفاً عليه في مزرعته ( السبخة) عام 47 م وكان رشيد آنذاك من أشهر رموز الحركة الوطنية في العالم العربي، رفع لواء التحرير هو والحاج أمين الحسيني وكانا مناوئين للحلفاء وتوجهاتهم الاستعمارية في المنطقة. ترأس رشيد الحكومة في العراق ثلاث مرات وكان مناهضاً للإنجليز ولهجرة اليهود إلى فلسطين. شكل حكومته عام 1941 م بعد هزيمة خصومه الحركة الليبرالية بزعامة نوري السعيد، الذي كان يدعمه كل من الإنجليز والوصي على العرش الشريف عبد الإله، وعلى إثرها اضطر نوري وعبد الإله إلى الهروب خارج البلاد، فقرر الانجليز خوفاً على مصالحهم , التدخل العسكري واحتلال أجزاء من العراق وإسقاط حكومة رشيد الذي هرب إلى ألمانيا، وأثناء إقامته هناك التقى بهتلر ولكنه لم يمكث طويلا في منفاه، بل انتهى به الأمر أن هرب من ألمانيا بطريقة مدهشة وغامضة إلى تركيا ومنها إلى سوريا. ثم التقى بالملك عبدالعزيز في قرية مرات في وسط نجد لقاءاً مفاجئاً،وكان يرافقه جميل المردم، فمنحه اللجوء السياسي الذي أثار غضب الإنجليز وبقية دول الحلفاء، وعُين صالح ابا الخيل مرافقاً له حيث ابلغه الملك عبدالعزيز " بأن يخافوا منه ويخافوا عليه ايضا" فلم يكن يُخفى على الملك عبدالعزيز تبعات هذا القرار الخطير وما قد يسببه من عقد واحتقان سياسي، ألا أنه أصر ولم يتراجع على الرغم من المحاولات المضنية التي بذلها من فاجأهم هذا التصرف، والذي لم يكن سوى تحدي لرغبات تلك القوى المهيمنة آنذاك. أما على الصعيد المحلي، فقد وجد الناس في "زبنة رشيد" مادةً دسمه وممتعة، بل دخلت " زبنة رشيد" القاموس الشعبي للأمثال، كناية عن اللجوء الدراماتيكي والمضمون معاً ! بل إنها أثارت قريحة الشاعر منصور المفقاعي، فأنشد أبياتاً أصبحت فيما بعد من الأغاني المشهورة :
يا حبيبي حكمت وخلي حكمك عدال - سوي بي ما تشاء وافعل على ما تريد
الله اللي عطاك وصورك بالجمال - فارق بالبهاء والملح فرق بعـيد
من تجي راس ماله ما يبي راس - مال إن حيا جنته وإن مات يكتب شهيد
ليت من ينهبه يا سعود ذاك الغزال - ثم يزبن عليهم مثل زبنة رشيد
آه من فات عمره ما اهتنى بالوصال - راح عمري بلاش وعشت عيشة شريد
جل من صورك وكملك بالكمال أشهد - أن اللي ينالك ذاك حظه سعيد
يا حسين البهاء ما عاد فيّ احتمال - باح صبري وحبك كل يوم يزيد
ثم صار رشيد صديقا حميماً ومستشارا للملك عبدالعزيز طيلة حياته. كما أنه زار سعود بن جلوي في الإحساء من ضمن الجولات التي كان يقوم بها للإطلاع على المناطق الحيوية في المملكة بغرض تنميتها. فاقترح عليه ابن جلوي أن يزور أولاً الشيخ محمد للاستفادة من رأيه وحكمته، وبالفعل تردد رشيد على مجلسه مراراً وأقام له وليمة، دعا إليها الكثير من وجهاء وعلماء الإحساء ،منهم الشيخ محمد بن عبدالله العبدالقادر،الشيخ يوسف بن راشد المبارك، الشيخ عبدالله الشهيل والشيخ حمد الجبر. وقد أعجب رشيد بحكمة الشيخ محمد وبالمكانة الاجتماعية التي يتمتع بها ، كذلك لم يخفي دهشته وإعجابه، عندما شاهد المياه العذبة تنساب بين أشجار الخوخ والرمان ومختلف الثمار، حيث قال رشيد حينها "هذه جنة الله في الأرض"
أزمة فلاحين .. قصة إنشاء مصنع التمور في الإحساء..
ما أحلاها عيشة الفلاح - مطمئن قلبو مرتاح !
بكل تأكيد لم يكن الفلاح في الإحساء يردد تلك الأبيات التي غناها محمد عبدالوهاب على لسان الفلاح المصري أيام الخديوية، فالفلاح الإحسائي لم يعرف الراحة ولا الطمأنينة، فلقد فاجأته الطفرة الأولى بخيرها وشرها، فهجر العمال المزارع متجهين إلى أرامكو أو إلى ممارسة التجارة والمقاولات، حيث الدخل الأعلى والجهد الأقل. بينما بقي الفلاح متمسكاً بأرضه ولكنه كالقابض على جمرة، فاليد العاملة أصبحت شحيحة وباهظة الثمن، فبات الفلاح في مأزق حقيقي، فإيرادات ما تنتجه الأرض لا تكفي لدفع أجور اليد العاملة. فكيف يمكن له أن يدفع يومياً 200 ريال للعامل بينما سعر تمر الرزيز الذي يعتبر الغلة الرئيسة انحط إلى 80 ريالا للمن ( 240 كلغم ) ؟! كما أن العمالة الأجنبية لم تكن متاحة في ذلك الوقت، عندها أصبح الفلاح أول ضحايا الطفرة وصار مستقبله مهددا بالضياع في الهواء الطلق.
كان الشيخ محمد متابعا عن كثب زخم التحولات التي يمر بها المجتمع،فضلاً عن كونه أيضا أحد الملاك، فأصبح الملاك يتوافدون إلى مجلسه وهم في حالة فزع، مثل بحارة استيقظوا أثناء عاصفة! يُذكر أن أحدهم بلغ به اليأس، أن دخل مجلسه ورمى بصكوك أملاكه أمامه قائلاً ... خذوا أملاكي وأطعموني! عندها بدأ الشيخ محمد يفكر في حل لهذه القضية التي بدأت تعصف بشريحة عظمى في المجتمع، ولكن ما هو السبيل ؟ فسعر التمر لا يمكن التحكم فيه سواء من قبل الحكومة أو الناس، لكونه خاضع للسوق والعرض والطلب، ونفس الشيء ينطبق على أجور العمالة . والأهم من ذلك أن الجو العام والسائد آنذك زاد من الأمر تعقيداً، فخطة التنمية في ذلك الوقت كانت تسير باتجاه تطوير البنية التحتية والصناعة، أما الزراعة فنصيبها كان ضئيلا، باستثناء القمح ولكن في مناطق خارج الإحساء. فبات إقناع الحكومة بالتدخل ضرب من المستحيل وأشبه بالسباحة عكس التيار.
أخذ الشيخ محمد بزمام المبادرة، فهو ليس من النوع الذي يكتفي بالكلمات ويبقى متفرجا وهو يرى وقع الأزمة على الناس، فاجتمع بأصحاب الأملاك وتشاور معهم واقترح عليهم تعيين لكل جهة شخص يمثلها، حيث تم اختيار ممثلين عن كل من الهفوف والمبرز والقرى الشرقية وأيضا القرى الشمالية. ثم طلب من كل ممثل أن يرسل برقية تم الاتفاق على صيغتها إلى المقام السامي. لكن تلك البرقيات لم تقدم حلا بل مجرد محاولة لجعل جرح الإحساء مكان اهتمام لدى أصحاب القرار بغية التوصل إلى حل، كما أن التوصل إلى حل قد لا يكفي، فوضع الحل حيّز التنفيذ يحتاج إلى الكثير من الوساطة والأكتاف العريضة.فكر الشيخ محمد مليا، ولم يجد في رفع زيادة الإعانات التي تقدم بها البعض من الفلاحين، تمثل حلاً جذرياً للمشكلة. ثم بدت خيوط الخطة تتجاذب في رأسه، مستخدما علاقاته الواسعة والمؤثرة مع أصحاب القرار الذين لم يكونوا أقل حيرة من الفلاحين أنفسهم في البحث عن فكرة أو قرار ينهي هذه الأزمة . فاقترح الشيخ محمد على معالي وزير الزراعة آنذاك عبدالرحمن آل الشيخ , والذي كانت تربطه به علاقة ود واحترام، أن تُنشأ الدولة مصنع تمور في الإحساء يقوم بشراء المحصول من الفلاحين بأسعار مجزية، بحيث يرسل إعانات من الحكومة إلى فقراء العالم الإسلامي، بدلاً من الإعانات النقدية التي كانت تقدمها الدولة للدول المحتاجة.كما اوضح الشيخ محمد للوزير بأن الفلاحين سوف يدفعون الزكاة المقرره لخزينة الدولة، وبذلك يستفيد كل من المواطن والدولة. اقتنع الوزير بالفكرة وأيدها، كما استطاع الشيخ محمد أيضا من إقناع كل من سمو الأمير فيصل بن سعد وصاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز. عندها أصبحت فكرة الشيخ محمد أقوى وأكثر وضوحا، فتقدم بها الوزير إلى الملك فهد، يسانده كل من الأمير فيصل والأمير مشعل، فتمخضت عن صدور قرار بإنشاء مصنع التمور بالإحساء عام 1401 هـ والذي وضع حداً لمعاناة الفلاحين في الإحساء آنذك. حيث تفيد الإحصائيات بأن المصنع استقبل 540 ألف طن منذ تأسيسه حسب تصريح الأستاذ احمد الجيغمان مدير المشروع لجريدة الشرق الأوسط ( 31 يوليو 2009 ).
التعليقات (1)
1 - كل مكان
صالح الاعمال - 2014-08-26 21:59:27
تسلم .......وتدوم