الشيخ حسين بن عبد الرحمن الموسى ( 1285 – 1366 هـ )
بشاشة وجه المرء خير من القرى فما بالك بمن يأتي به وهو ضاحك...
لم يكن يُخفى على القادمين إلى الإحساء في بدايات القرن الرابع عشر الهجري بأن في المدينة رجل يُدعى حسين الموسى، فلم يكن يتوجب عليهم آنذاك أن يكلفوا أنفسهم مجرد التفكير في البحث عن مكان يجدون فيه الكرم وحسن الضيافة، فالأمر عند أغلب الزائرين محسوم والمكان معلوم، حتى مطاياهم كانت تسير نحوه بخطوات واثقة من كثر التردد عليه . لقد ذكر أحد الفضلاء من عائلة الدامر المعروفين، بأن للشيخ حسين مجلساً معتبراً كمجالس الحكّام، وأن ضيافته كانت تعج بالزوار ليل نهار، من وجهاء وأمراء وشيوخ قبائل وغيرهم . فلا غرابة فالكرم الأصيل سمة لازمته منذ صباه حتى شيخوخته، فلم يذكر أحد أن أُغلق له باب قط، أو خلا مجلسه يوماً من الضيوف، رغم المتغيرات وعوادي الأزمان. كما لا يخفى على أحد بأن الضيافة المفتوحة على الدوام هي من الأمور التي لا يستطيع النهوض بها إلا نفرٌ قليلٌ من الرجال، بسبب توفر الموارد والتي كانت في ذلك الوقت أقرب إلى الشح منها إلى اليسر، وعلى الرغم من ذلك فقد حافظ على هذا الموروث، وتفانى في التضحية من أجله، وبرهن للقاصي والداني أنه صاحب الأيادي الندية، والنفس العالية الكريمة، شهد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.
كان - رحمه الله - من أولئك الرجال الأفذاذ البارزين وأحد النجوم المضيئة في سماء الإحساء، كريماً شهماً شجاعاً مكللاً بالحكمة والحزم، حافظ على مركزه ومكانته الاجتماعية وعلى علاقة متينة بالحكم السعودي قبل وبعد فتح الإحساء. بل كان يحتفظ بعلاقة شخصية مع المغفور له الملك عبدالعزيز والذي كان يُطلعه على أدق التفاصيل المتعلقة بسير المعارك التي كان يخوضها مع خصمه الأول ابن رشيد، كما جاء في نص الوثيقة (35) : حيث تضمن نصها على تقرير مفصل عن تعبئة الجيوش للمواجهة مع ابن رشيد، كذلك الوضع العام للتحالفات القبلية آنذاك والتي لها تأثير ملحوظ في حسم المعركة.
كذلك الوثيقة (1 ) والمؤرخه عام 1333 هـ وهي رسالة موجهة من عبدالعزيز عبدالرحمن الفيصل إلى حسين بن عبدالرحمن الموسى. تحتوي على معلومات تكتيكية وفي غاية السرية، لكونها تتعلق بتحركات ومواقع جيوش الملك عبدالعزيز في مسرح العمليات في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ المملكة، كذلك تحمل دلالات قاطعة على عمق تلك العلاقة الإستراتيجية التي بينهما، فمضمون ما ورد في الوثيقة هو بمثابة عن تقدير للموقف العسكري وعن نتائج المعارك والتحركات المستقبلية.
انتقلت إلى الشيخ حسين وجاهة الموسى من الشيخ محمد بن عبد الله بن سالم بعد أن تقدم به السن. واستطاع بحنكته وبراعته الإبقاء على نسيج من العلاقات الوطيدة مع مختلف الأطياف، حيث كان يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف المتصارعة في المنطقة آنذاك، وكان يحظى باحترام وتقدير من قبل آل سعود من جهة والأتراك من جهة أخرى، وكذلك العجمان الرقم الصعب في المعادلة.
فتج الاحساء ...
قُبيل فتح الإحساء من عام 1906م وتحت جنح الظلام، كانت طلائع جيش عبدالعزيز على مشارف الإحساء بحجة تأديب بعض القبائل لتأمين طرق القوافل، الأمر الذي استحسنه كل من الإنجليز والأتراك على حدٍ سواء، ومكث في مكان يسمى المجصّة شرق قرية الطرَف، على بعد خمس ساعات من الهفوف. كان الهدف الغير مُعلن لهذه العملية الاستطلاعية هو تقدير الموقف العسكري وجس نبض الخصم . ثم لم يلبث عبدالعزيز أن بدء في إرسال رسائل إلى أعيان البلد، فقد جرت العادة عند كبار الفاتحين القول بأنهم جاءوا بناء على طلبٍ من الأهالي ! فأرسل الرسائل إلى وجهاء الإحساء وكان على رأسهم الشيخ حسين الموسى، طالباً منه الوقوف بجانبه وتأييده ضد خصومه الأتراك، إلا أن الشيخ حسين أعتذر له وبكل لباقة، وأبلغه بوجود عهد بينه وبين الأتراك، وأنه لن ينقض ذلك العهد مهما كلف الأمر، مكتفيا بإرسال له رسالتين هامتين، الأولى عينية وهي عبارة عن رفادة كبيرة تليق بمقامه كسلطان منتصر وملك قادم، والثانية ضمنية مفادها بأننا رجال كرماء نحافظ على العهود والمواثيق ولا ُنفرط فيها حتى في أصعب المواقف، وقد قدرها الملك عبدالعزيز وحفظها له لاحقاً.
لم يمكث عبدالعزيز طويلاً على مشارف الإحساء حيث توجه شمالاً لملاقاة ابن رشيد في روضة مهنا، تاركاً في الإحساء قادة ومندوبين عنه، مثل ابن معشوق أحد القادة المخلصين، والذي تعاظم أمره وأصبح يسير في وسط النعاثل ويستعرض بحراس من خلفه وأمامه وأعدادهم تتزايد يوماً بعد يوم، مما حدا بمتصرف الإحساء سعيد بيك، بإرسال رسالة إلى القائم مقام في البصرة، يبلغه فيها بأنه بات لدينا في الإحساء دولة داخل دولة! كما عيّن ابن سعود لاحقاً ابن شلهوب نائباً عنه في الهفوف، ينظر في مشاكل الناس ويقضي بينهم.
في اليوم الرابع من مايو من عام 1913 م عزم ابن سعود على فتح الإحساء، وأصبح صقر الجزيرة قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه واسترداد ملك أجداده، الذي بات كما يقول يتصارع عليه الغريب مع الغريب! فدعا جنوده إلى اجتماع والذين كان جلهم من الحضر، وشرح لهم المتاعب التي عاناها من الأتراك، واستفتى المشايخ في جواز مقاتلتهم وإخراجهم من الإحساء فأفتوه بذلك، بل عاهدوه على الموت تحت رايته . ثم طلب من قادته فرز 300 مقاتلاً فقط. فزحف باتجاه الكوت حيث لم يدم الأمر طويلاً ، فاستسلمت الحامية في نفس اليوم واستسلم المتصرف التركي في ظهر اليوم التالي.
الملك عبدالعزيز والانجليز
لقد فاجأ عبد العزيز الانجليز بهذا العمل الجريء رغم التحذيرات التي تلقاها من شكسبير، حيث كانت سياسة الانجليز تقضي ،بأن تبقى الإحساء في ثلاجة الأتراك! حتى يأتي اليوم الذي يتقاسمون فيه تركة الرجل المريض، أمّا عبدالعزيز فهو يعلم سلفاً باتفاق تركيا على التنازل عن كافة حقوقها في الخليج بما فيها الإحساء ، وقد أخفى علمه عن شكسبير. ومكث يتحين الفرصة السانحة ويترصد مثل الصقر العتيد، وعندما حان الوقت اختار اللحظة القاتلة التي لم يكن يتوقعها لا الأتراك ولا الإنجليز، واستطاع ضم أغنى وأغلى بقعة على وجه البسيطة. والتي أصبحت فيما بعد سبباً في رخاء وازدهار مملكته.
بايع أهالي الإحساء الملك عبدالعزيز والذي حل ضيفًا على المفتي الشيخ عبداللطيف الملا، فأرسل الملك عبدالعزيز رسالة إلى الشيخ حسين يطلب منه المبايعة، فلم يتردد وكان من أوائل الناس الذين قدموا إلى بيت البيعة في الكوت، فقال له الملك عبدالعزيز وهو يصافحه "عاذرينك عاذرينك ياحسين" في إشارة إلى رده على رسالته السابقة قبل خروج الأتراك عندما طلب منه التأييد واعتذر، أي أننا نتفهم موقفك ونجد لك العذر. وهذا دليل على فطنة الشيخ حسين ورجاحة عقله في إدارة وتطويع العلاقات مع مراكز القوى المختلفة، وفي نفس الوقت بقي محتفظاً بمكانته وهيبته أمام الجميع، ولاحقاً عندما كان في طريقه إلى الحج التقى بالملك عبد العزيز في الرياض، فرحب به وأكرمه وخصّص له مكاناً مع كبار الضيوف ، وقبل أن يغادر أرسل له ابن جميعة المسئول عن المراسم آنذاك ومعه السجل الذي تدون فيه العطايا والهبات، وقال له ... الملك عبدالعزيز يقول لك اطلب يا حسين؟ فرد عليه قائلاً : بلّغ جلالة الملك بأني أطلب له السلامة وطول العمر، فألحّ عليه ابن جميعة قائلاً : هذه فرصتك فلا تفوتها؟ إلا أن الشيخ حسين ليس ممن يؤسّسون علاقاتهم طلباً للهبات والمنفعة . والمرجح أن عزة نفسه وشموخه منعه من قبول ذلك العرض، فلما غادر الرياض أبلغ ابن جميعه الملك عبدالعزيز بذلك، فقال لمن عنده كنت أتوقع هذا الرد منه! أي أن هذا الطراز من الرجال الكرماء، المال عندهم مجرد وسيلة وليس غاية .
معركة كنزان ...
ربما بدا فتح الإحساء للوهلة الأولى عملاً سهلاً ، إلا أن التحضير المسبق له من ناحية ، والاحتفاظ به لاحقاً لم يكن كذلك. حيث سرعان ما تبدلت الأمور وبدأت مراكز القوى تتشكل، فبرز العجمان ومن معهم لمواجهة الفاتح الجديد وحلفائه، الأمر الذي تطور فيما بعد وانتهى بنشوب معركة في عام 1915 م والتي تعتبر من أخطر المعارك في تاريخ الملك عبدالعزيز ألا وهي معركة كنزان . أُصيب فيها إصابتين بليغتين، الأولى مصرع أخيه سعد في المعركة، والثانية شظية أصابته وأسفرت عن سقوطه جريحاً، لقد تعرضت هيبته في هذه المعركة لأكبر وأصعب امتحان لها.
لقد اتخذ الشيخ حسين موقفاً إزاء الحكم السعودي وفي هذه المعركة بالذات واضحاً كل الوضوح. فلقد كان رجلاً حذراً كيّسا كما يجب أن يكون الحكماء، فكأنما لسان حاله يقول ، متى ما غادر الأتراك الإحساء فأنا في حلٍ من أمري، وقد انتهى العهد الذي بيني وبينهم، والآن وبعد أن غادروا لكم مني يا آل سعود الولاء والسمع والطاعة. وبالفعل قرر وبدون تردد، فاتخذ له مكاناً في معركة كنزان في أوائل صفوف الجيش السعودي، وقاتل وبكل شجاعة حتى أصيب وأسر من قبل العجمان، فتعرف عليه أحد الرجال البارزين في العجمان يُدعى الشيخ شعيفان أبو شقرة ، والذي يُذكر بأنه كان رجلاً شهماً كريماً شجاعاً وفي نفس الوقت خفيف الظل وظريفاً بما فيه الكفاية. وعلى الفور بادر وبدون تردد وأسعفه وهو مثخنٌ بجراحه، وحمله إلى مخيم العجمان، ومكث عندهم يومين ضمدوا خلالها جراحه ثم حملوه إلى منزله معززاً مكرماً ! هذا الموقف النبيل والمثير للدهشة، خصوصاً في خضم تلك المعركة الشرسة، يقدم برهاناً أكيداً على مكانة الشيخ حسين لدى العجمان، أيضاً بمثابة شهادة ناصعة في جبين الشيخ شعيفان بل والعجمان ككل ، لوفائهم وحفظهم للجميل تجاهه حتى في أحلك وأصعب الظروف. كما أن هذا الموقف يعكس عمق العلاقة التي كان يحظى بها الشيخ حسين لديهم، فلم يتغير موقفهم منه على الرغم من أنه كان يقاتل في الصف المقابل لهم.
الملك عبدالعزيز والشيخ حسين الموسى ... وثائق تارخيه ..
لقد امتدت وترسّخت تلك العلاقة بين آل موسى من ناحية، والعجمان من ناحية أخرى، وتوطدت أكثر فيما بعد،و توثقت أواصرها عن طريق النسب والمصاهرة ، حيث تزوج محمد بن الشيخ حسين من وضحى بنت الشيخ حسين بن عبدالله الدامر، وأنجبت نورة بنت محمد بن حسين الموسى ، حرم الشيخ راشد بن عبدالرحمن الراشد، رجل المال والأعمال الغني عن التعريف، والذي أسس لنفسه مكانة معتبرة داخل وخارج المملكة . أيضاً زوّج الشيخ محمد بن أحمد الموسى إحدى بناته ( لطيفة ) لشيخ العجمان راكان بن ضيدان بن خالد بن فيصل بن حزام آل حثلين رحمه الله، وأنجبت بنتاً واحدة فقط اسمها نوف.
عندما وضعت الحرب أوزارها وأحكم الملك عبدالعزيز السيطرة على الإحساء، حافظ الشيخ حسين على علاقة وطيدة معه وكذلك مع عبدالله بن جلوي حاكم الإحساء القوي، حيث كان الأخير يعتمد عليه في المشورة وفي تسوية المنازعات وضبط الأمن بين الناس. كما أن هنالك العديد من الرسائل الهامة، بين الشيخ حسين والملك عبدالعزيز،والتي تدل على حجم وقوة العلاقة والصلة الوثيقة بينهما، كما يؤكده نص الوثيقة (4) المؤرخة في 8 شوال من عام 1331هـ والمرسلة من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى حسين بن عبدالرحمن بن موسى، يبلغه فيها بعد السلام عليه، بأنه قد وصل إلى ربوع البلاد وكذلك يهنئه بحلول عيد الفطر المبارك.
كما لا بد هنا أن نشير إلى علاقة النسب التي تجمع بين الملك عبدالعزيز والشيخ حسين من جهة الأم. فالملك عبدالعزيز أمه سارة بنت حصة بن مهنا آل نويران بينما الشيخ حسين أمه سبيكة بنت حمد بن مهنا آل نويران . فيلتقيان في حصة وحمد لكونهما أخوان. لذا فحصة التي هي جدة الملك عبدالعزيز لأمه، هي أيضاً أخت حمد جد الشيخ حسين لأمه.
خيول ال ثاني ...
كان الشيخ حسين يتمتع بجاه ومكانة غير عادية، فهناك العديد من المواقف الموثقة فعلى سبيل المثال لا الحصر. فلقد كان لآل ثاني حكّام قطر خيل أصيلة قد سلبت من قبل العجمان، وقد حاولوا استعادتها بالاستعانة بشيوخ القبائل والوجهاء ولكن بدون جدوى، فالعجمان كما يقال إذا أخذوا شيء فلا يسترد إلا بالقوة ! وحاول آل ثاني مع كل من يعرفون ولا يعرفون، وبعد أن أعيتهم السبل أشار عليهم أحد العارفين باللجوء إلى الشيخ حسين ، فهو الرجل الذي إذا طلب من العجمان طلباً لا يمكن أن يردوه، وبالفعل استعانوا به وتدخل بجاهه لدى العجمان واسترد خيلهم وأرسلها لهم. وقد حفظ آل ثاني له هذا الجميل عندما ذهب عبدالعزيز بن عبداللطيف الموسى إلى قطر، وعرفوا صلة القرابة بينه وبين الشيخ حسين ، فأكرموه حتى أنه كان مريضاً بالسل في ذلك الوقت فأرسلوه على حساب الدولة للعلاج في لبنان .
عبد ال خليفة الشجاع الوفي ...
كذلك يُذكر أن الخليفة العائلة الغنية والمعروفة في المبرز، قد اشتروا عبدين أسودين من أصول أفريقية من أحد الرجال المعروفين في عتيبة، بغرض الاستفادة منهما في أعمال الفلاحة وغيرها،فرفض أحدهما وعصى أمر أسياده بعد أن طلبوا منه تنظيف الزريبة، محتجاً بأنه ليس خادماً كسائر العبيد، بل كان عبداً لدى شيوخ عتيبة لا يعرف إلا الكر والفر وصهوات الخيل! ولا يمكن أن يقوم بعمل كهذا مهما كلف الأمر. فتصرف الخليفة بحكمة وأوكلوا إليه حراسة أملاكهم، فصار يسهر على حراستها وعندما يقبض على السارق يقول له أنا أعلم بأنك لا تعلم بوجودي هنا، لذا سوف أطلق سراحك هذه المرة ! على أن لا تعود مرة أخرى . بعد ذلك أصبح وضع هذا العبد محيراً، فالناس آنذاك يشترون العبيد للخدمة وليس للحماية والذود عن الأملاك والتي هي من مهام الأسياد وليس العبيد، فقرر مجموعة من شبان الخليفة تأديب هذا العبد وكسر شوكته ، لكي لا يتطاول عليهم وينسى بأنه مجرد عبد عندهم. فأقبلوا عليه ذات يوم وأخذوه على حين غرة ، فصارعوه إلا أنهم لم يستطيعوا التمكن منه، فهرب وجاء إلى الشيخ حسين وقال أنا داخل على الله ثم عليك.. فإما أن تشتريني أو تعتقني ؟ فقال له أنا حسين الموسى أملاكي محمية ولا أحد يستطيع المساس بها و لست في حاجة لك، فالعبيد عندي كثر ولكن خذ هذا المبلغ قيمة عتقك، فوعده أن يرد المبلغ خلال ستة أشهر، فقال له لا تحرص على ردها فلم أعطيك المبلغ لكي أسترده منك ! إلا إن هذا الرجل الشهم قدّر الموقف الكريم للشيخ حسين ورد المبلغ خلال ثلاثة شهور .
التعليقات (0)