نادرا ما يتاح للإنسان تنفيذ مشروع يكون العلامة المميزة لحياته كلها، ويستحق بالتالي أن يطلق عليه ( مشروع العمر ). إذ إن مشروع العمر يحتاج أولا إلى تفكير عميق في البحث عنه وتصيده ثم إلى جهد عظيم لإنجازه محفوف بتوفيق رباني في كل شأن من شؤونه. مشروع العمر هو مشروع ذو مواصفات مختلفة، حيث يخاطب حاجة ماسة علمية أو ثقافية أو اجتماعية أو غيرها، ويتسم بالجدة والابتكار، ويرتقي لدرجة أن يكون معيارا لما يليه من مشاريع مماثلة.
والشيخ الأميني هو واحد من أولئك النوادر الأفذاذ الذين وفقهم الله – وهو أعلم بأهل توفيقاته - لاقتناص مشروع العمر. ألف الشيخ الأميني العديد من الكتب في التفسير والفقه والأصول والسيرة وغيرها، ولكن خلود ذكره بقي مرتبطا بكتابه الغدير، فما إن يذكر اسمه حتى يذكر كتابه هذا. بل يمكننا القول إن الشيخ الأميني استطاع أن يؤسس لدلالة التزامية بين اسمه وبين حادثة وقعت قبل ولادته بأكثر من 1300 سنة، ونعني بها حادثة الغدير التي وقعت في أواخر السنة العاشرة للهجرة.
فما الذي فعله الشيخ الأميني حتى وصل إلى ما وصل إليه؟
قبل أن أجيب على هذا السؤال، أود أن أذكر ملاحظة تتعلق بعلاقتنا مع عظمائنا في حياتهم وبعد ارتحالهم. ففي كثير من الأحيان لا يحظى العظيم في مجتمعاتنا بما يليق به من مكانة، فلا تهيأ له الظروف لإنجاز ما يطمح إليه، بل ربما وضعت في طريقه العراقيل، واضطر للاشتغال بأمور جانبية أو هامشية على حساب مشروعه. وهذه سمة من سمات التخلف حيث يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، أو – وهذا هو الأسوأ – يُقدم الذين لا يعلمون فيطلب الذين يعلمون المساواة فلا يعطونها.
ما أردت أن أقوله بأن الشيخ الأميني لم يكن بدعا من العظماء، وطريقه لم يكن مفروشا بالورود، ولم تكن الأموال تحت تصرفه، ولكنه – وهنا سر عظمته – كان فوق الظروف بإرادته الصلبة وعزمه وتصميمه وثقته بربه.
وعودا على السؤال السابق يمكن أن نوجز ما فعله الشيخ بالتالي:
1- العمل بحب: فرق كبير بين أن يؤدي الإنسان عملا انطلاقا من إسقاط الواجب وأداء التكليف، ومن يؤديه مؤمنا به وبأهميته. وفرق بين من يعتبر عمله رسالة ومن يعتبره وظيفة. ونظرا لتعلق الشيخ الشديد بعمله، فقد كان يستسهل في سبيله كل صعب. لم يكن يكترث للحر والبرد والجوع والعطش، وتحمل المعاملة السلبية والصد من الآخرين بصبر واحتساب. يتحدث الشيخ عن إحدى معاناته في مكتبة أحدهم الخاصة قائلا: دخلت المكتبة وشاهدت الغبار يعلو جميع أجزاء المكتبة، والكتب مبعثرة هنا وهناك، وكأنها مهجورة منذ زمن بعيد ولم تمسها يد منذ أشهر وربما سنين، تركني صاحب المنزل وحدي ونزل، عند ذلك فتحت حزامي، ووضعت عمامتي وقبائي فيها وغطيتها عن الغبار، وابتدأت بتنظيف الكتب، وإزالة الغبار وعزلها، وأنا أتصبب عرقا من شدة الحر والجو الخانق، لا مروحة، ولا ماء، حتى ولا طعام، واختلط الغبار بالعرق على رأسي ووجهي وأطرافي، وأنا مشغول في مطالعاتي واستنساخي حتى العصر، وأخذني الإعياء. ويتحدث عن معاناة أخرى: عندما وصلت في تأليفي إلى الجزء السادس من "الغدير " احتجت لبعض الأحاديث والروايات المهمة في كتاب "ربيع الأبرار " للزمخشري، وهذا الكتاب - قبل أن يطبع وينشر - كان خطيا ونادرا ولا يوجد منه إلا ثلاث نسخ خطية، واحدة منها عند الإمام يحيى في اليمن، والثانية في المكتبة الظاهرية بدمشق، والنسخة الثالثة عند أحد الآيات العظام في النجف الأشرف، ولما توفي هذا العالم (رحمه الله)، ورث المكتبة - بما فيها هذا الكتاب - ولده. قصدته بنفسي وطلبت منه أن يعيرني كتاب "ربيع الأبرار " ثلاثة أيام، فامتنع، قلت له: أعرنيه يومين، امتنع، أو يوما واحدا، امتنع. بعدها قلت له: أعرنيه ثلاث ساعات، امتنع، وأخيرا قلت له: اسمح لي أن أطالعه عندك في دارك، امتنع كذلك ! !
هذا غيض من فيض معاناته. يصف نجله الشيخ رضا علاقة أبيه بعمله المضني في موسوعة الغدير وسبب تحمله للمشاق قائلا: كل ذلك ولهاً منه، وتعشقاً إلى رسالته الخالدة في الدفاع عن ناموس الإسلام، ورد كيد الباغين عليه، وأداء للمسؤولية الدينية التي كان يحس بها.
في درب الواله العاشق تكون للصعوبات لذتها التي لا يدركها إلا أمثال الشيخ الأميني.
2- التفرغ التام للمشروع: من يريد أن ينجز مشروع العمر عليه أن يعطيه من عمره ما يستحقه من الوقت، وقد أعطى الشيخ نصف قرن من عمره الشريف له، وهذا هو الدرس الثاني. فالعلامة الأميني – كما يذكر نجله - رأى أن موسوعته الخالدة "الغدير " تطلب منه التفرغ له بكله، وبذل جل جهوده في سبيله، وليتسنى له إخراجه إلى عالم الوجود. لذلك ترك البحث والتدريس، وغلق على نفسه باب التردد على الأندية والمجتمعات، وجلس في داره معتكفا بمكتبته الخاصة، متفرغا للجهاد في هذا الميدان الديني المقدس، محتما على نفسه الكتابة والمطالعة ست عشرة ساعة في الليل والنهار.
3- البحث عن الحق والحقيقة: ما أسهل أن يدعي الإنسان أنه يبحث عن الحقيقة، ولكن ما أصعب أن يطبق ذلك. لقد تطلب كتاب الغدير من الشيخ الأميني مطالعة عشرات الآلاف من الكتب المطبوعة والمخطوطة مطالعة تمحيص وتدقيق. ولم يقتصر الشيخ على مكتبة بعينها أو بلد بعينه، فقد بدأ بمكتبات النجف العامة والخاصة يقضي بها معظم وقته ويستنسخ منها ما يحتاجه لبحثه، ثم انتقل إلى المكتبات الأخرى الخاصة والعامة في المدن العراقية الأخرى في بغداد والكاظمية وكربلاء والحلة والبصرة، ثم سافر إلى خارج العراق مبتدئا بالهند ثم سوريا وأخيرا تركيا. وكان يضطر في أحيان كثيرة إلى استنساخ جملة من الكتب بقلمه، فقد استنسخ من مكتبة واحدة فقط هي المكتبة الظاهرية بدمشق ما يناهز 1800 ورقة كبيرة. كل ذلك بحثا عن الأدلة في مظانها المختلفة من أجل الوصول إلى الحقيقة المنشودة.
4- الموضوعية: من يطالع التقريظات والثناءات التي وردت إلى صاحب الغدير، خصوصا من الشخصيات العلمية والأدبية السنية من مختلف البلاد الإسلامية، سيدرك أولا مدى التجرد الذي بلغه الشيخ الأميني في بحثه وتحقيقه، وثانيا مستوى الأسلوب الذي يخوض به الشيخ غمار بحث في غاية الحساسية. فلغة الشيخ كانت علمية رصينة بعيدة عن الإسفاف المذهبي والتشنج الطائفي، مما جعل الكتاب محل احترام وتقدير من كل منصف حتى من غير المسلمين.
وأعتقد أننا بحاجة في هذا الظرف بالذات إلى هضم وتمثل أدب لغة الغدير في حواراتنا المذهبية التي أصبحت غير ذات قيمة لأنها تبدأ بالشك والتخوين وتنتهي بالقطيعة التامة.
5- التركيز على الوحدة الإسلامية: يتساءل الشيخ الشهيد مطهري في تقريظه لكتاب الغدير: هل تأليف ونشر كتاب كالغدير يعد مانعا دون تحقيق الوحدة الإسلامية؟ ثم يجيب جوابا مطولا يتلخص في تعريف الوحدة وأنها لا تعني إلغاء الآخر، وإنما الوقوف صفا واحدا ضد أعداء الأمة والمتربصين بها. ثم ينقل نصوصا من الغدير حول الهدف الوحدوي للشيخ الأميني، كقوله: "إن هدفنا من نقل ونقد هذه الكتب ( الطائفية ) هو أن نبين للأمة الإسلامية الخطر المحدق، وننبه المسلمين إلى أن هذه الكتب تجلب أكبر الأخطار للمجتمع الإسلامي، لأنها تهدد الوحدة الإسلامية، وتشتت صفوف المسلمين".
إن الدعوة للوحدة الإسلامية لا تتناقض أبدا مع بيان الموقف العقائدي أو الفقهي لطائفة من الطوائف الإسلامية وتعريفه للآخر، بل إن ذلك يمكن أن يساهم في التقارب من خلال فهم المباني والأصول العقدية والفكرية لكل طائفة. وهذا ما يشجع على تأسيس العلوم الدينية المقارنة.
6- الموسوعية المتقنة: من يقرأ الغدير سيجد نفسه أمام شخصية موسوعية نادرة، يكتب بمهنية عالية في تخصصات عدة كالتاريخ والتفسير والحديث والرجال والأدب والعقائد والفلسفة والفرق والمذاهب. ولذا يجد كل صاحب فن فيه بغيته، فالأديب يراه كتابا أدبيا رفيعا، والتاريخي ينبهر بعمقه وسبره لأغوار التاريخ، وهكذا المفسر والرجالي والمتكلم وغيرهم.
هكذا كتب الشيخ الأميني مشروع العمر، وتركه لنا أمانة مطلوب منا صونها بالقراءة الواعية ونشرها خدمة للدين والإنسان.
التعليقات (0)