الشفاعة . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن الشفاعة نعمة جليلة من نعم الله تعالى على خلقه ، فهي مساعدة الأعلى للأدنى والأخذ بيده بعد أن تقطعت به السبل ، فهي من تجليات الرحمة الإلهية غير المحدودة . وهي إحدى تجليات منظومة الأسباب والمسبِّبات الخاضعة للإرادة الإلهية .
أما تعريفها الدقيق : (( قال الزرقاني : هي انضمام الأدنى _ أي لجؤوه وقصده _ إلى الأعلى، ليستعين به على ما يرويه، _ أي جلب منفعة ، أو دفع مضرة )).
[سفينة النجاة في عقيدة الأئمة الهداة ، ص 357 .].
وقال الشوكاني في فتح القدير( 1/ 743 ):(( فالشفاعة: ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك )).
والشفاعةُ قسمان : شفاعة حسنة ( تكون في أعمال الخير والصلاح ) ، وشفاعة سيئة ( تكون في أعمال الشر والفساد ) .
قال الله تعالى : (( مَن يَشْفَعْ شفاعةً حسنة يكن له نصيبٌ منها ومَن يَشْفَعْ شفاعةً سيئة يكن له كِفْلٌ منها )) [ النساء : 85 ] .
أي : من يسعى في عمل صالح يقود إلى حصول خير وتحصيل منفعة طيبة ، فإن له نصيباً وحظاً من ذلك الخير . ومن يسعى في أمر باطل يأتي بالمفسدة فعليه إثم من ذلك الأمر ، ويتحمل جزءاً من المسؤولية .
وبالتالي فليس كل شفاعة تؤدي إلى تحصيل أجر لصاحبها ، فالشفاعةُ الحسنة وحدها هي التي يؤجر عليها الفرد . (( وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه )). [فتح الباري لابن حجر ( 10/ 451 ) .].
وهكذا نجد أن الشرع قد رغّب في الشفاعة الحسنة التي تشجع على أعمال البِر والخير، وتعزز العملَ الخيري والتكافلي في المجتمع الواحد المتراص . وجعل للشافع نصيباً من الخير . كما جرّم الشفاعة السيئة التي تؤدي إلى نشر الباطل والإفساد في الأرض ، وتقطيع الروابط الاجتماعية ، وتشتيت كلمة المجتمع ، وحمّل فاعلَها الوِزْرَ .
وقد روى الطبري في تفسيره ( 4/ 188 ) عن مجاهد في تفسير الآية قال : (( شفاعة بعض الناس لبعض )). [صحّح إسنادَه الحافظ في الفتح ( 10/ 451 ) .].
وعن أبي موسى _ رضي الله عنه _ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل ، أو طُلبت إليه حاجة ، قال : (( اشفعوا تؤجروا ، ويقضي اللهُ على لسان نَبِيه صلى الله عليه وسلم ما شاء )).
[متفق عليه واللفظ للبخاري( 2/ 520 )برقم ( 1365 ).ومسلم( 4/ 2026 ) برقم( 2627).].
وفي هذا الحديث الشريف دعوة صريحة وحض على الشفاعة الحسنة التي تعكس تكافلَ أبناء المجتمع الواحد ، ومساعدتهم لبعضهم البعض . حيث الناس متفاوتون في السُّلطة والنفوذ والمكانة الاجتماعية . فحينما يساعد القويُّ الضعيفَ ، ويشفع الغنيُّ للفقير ، ... إلخ . عندئذ ستزول الشحناء في النفوس ، ويصبح المجتمعُ على قلب رجل واحد ، لا مجال لاختراقه أو تفتيته . وهذه هي نقطة القوة المركزية في التكافل الاجتماعي . فالتفاوتُ هو مبدأ كَوْني، والناسُ درجاتٌ يختلفون في قدراتهم ، وهذا البناء الاجتماعي المتفاوت يتطلب التعاون فيما بينه لكي يقدر على التحرك إلى الأمام ، فالقطارُ لا يسير إلا إذا تكاملت حركة مقطوراته بكل تناسق .
وقال الله تعالى : (( مَن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) [البقرة : 255] .
وفيه بيان أن لا أحد يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه سبحانه ، ولا يوجد إنسان يملك تأثيراً مستقلاً عن إرادة الله تعالى . وفي هذا إبطال عقيدة المشركين التي تنص على شفاعة الأصنام .
وقال الله تعالى : (( لا يملكون الشفاعة إلا مَن اتخذ عند الرحمن عهداً )) [ مريم : 87 ] .
فلا أحد يَشفع أو يُشفَع له إلا من اعتنق شهادة التوحيد . فالعهد شهادة أن لا إله إلا الله .
وعن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ : أنه قرأ : [ إلا مَن اتخذ عند الرحمن عهداً ] فقال : (( اتخِذوا عند الرحمن عهداً ، فإن الله يقول يوم القيامة : مَن كان له عندي عهد فليقم )) ، قال : فقلنا : فعلمْنا يا أبا عبد الرحمن ، قال : (( قولوا : اللهم فاطرَ السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا بأني أشهد أن لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأن محمداً عبدك ورسولك ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعله لي عندك عهداً ... )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 409 ) برقم ( 3426 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي . ] .
وإننا لنرى أهمية شهادة التوحيد في نجاة صاحبها يوم القيامة ، ونَيْله الشرف الجليل ، وحصوله على المساعدة الكبرى ( الشفاعة ) بإذن الله تعالى . فاللهُ تعالى لم يخلق العبادَ ليعذِّبهم ، بل ليدخلهم الجنة إلا من رفض ذلك . أي رفض الإقرار بتوحيد الله تعالى . وعندئذ على الفرد أن يلوم نفسَه لأن اللهَ تعالى هداه إلى طريق الخير ، لكنه استحب العمى على الهدى ، وارتضى لنفسه أن يكون عدواً لخالقه ، فعليه أن يتحمل مسؤوليةَ قراره الذي اختاره بمحض إرادته دون إجبار .
وعن عبادة بن الصامت _ رضي الله عنه _ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( مَن جاء بالصلوات الخمس ، قد أكملهن لم ينقص من حقهن شيئاً ، كان له عند الله عهد أن لا يعذبه، ومَن جاء بهن وقد انتقص من حقهن شيئاً، فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه، وإن شاء عذبه )).
[رواه ابن حبان في صحيحه( 5/ 21 ) برقم ( 1731 ).وقال الحافظ في الفتح ( 12/ 203 ) : (( وصحّحه ابن حبان وابن السكن وغيرهما )) .].
وهكذا نرى أن الصلوات هي العهد الوثيق عند الله تعالى . فالحرصُ عليها ، وأداؤها في وقتها على أكمل وجه كانت عهداً عند الله تعالى يقيه من العذاب ، أما أن انتقص منها ، وأخل بأدائها فقد خسر عهدَه عند الله تعالى ، وهو تحت المشيئة الإلهية ، إما للرحمة أو العذاب .
وقال الله تعالى : (( ولا يَشفعون إلا لمن ارتضى ))[ الأنبياء : 28 ].
هذه الآية تتحدث عن شفاعة الملائكة _ عليهم السلام _ . وأنهم لا يشفعون إلا لمن رضي اللهُ عنه ، وهم أهل الإيمان ( أهل شهادة أن لا إله إلا الله ) . وتدل هذه الآية على عظمة الرحمة الإلهية التي جعلت الملائكةَ يشفعون للمؤمنين ، ويساعدونهم في موقف هم فيه بأمس الحاجة إلى الشفاعة والمساندة .
وعن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قولَ الله _ عز وجل _ : [ ولا يَشفعون إلا لمن ارتضى ] ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( إن شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 414 ) برقم ( 3442 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
وهنا تتجلى الرحمة النبوية بالمؤمنين . فالنبي صلى الله عليه وسلم لن يترك أُمته تضيع يوم القيامة ، فتأتي شفاعته كطَوْق نجاة للغرقى أهلِ الكبائر الذين ماتوا على التوحيد ، لكنهم ارتكبوا ذنوباً عظيمة .
وفي حديث الشفاعة الطويل يقال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة : (( وقُلْ يُسْمَعْ ، وسَلْ تُعْطه ، واشْفَعْ تُشَفع )).
[متفق عليه . البخاري ( 6/ 2695 ) برقم ( 6975 ) ، ومسلم ( 1/ 180 ) برقم ( 193 ).].
ولا يخفى أن هذه الرتبة السامية التي لم يصل إليه أي مخلوق سوى النبي صلى الله عليه وسلم ، تشير إلى الكرم الإلهي الجليل ، والمقامِ النبوي العظيم . فاللهُ تعالى منح النبي صلى الله عليه وسلم شرفَ الشفاعة لأمته لإنقاذهم من النار في موقف بالغ الصعوبة ، حيث تقطعت بهم السبل ، ولا ناصر لهم سوى الله تعالى . كما يدل الحديث على مكانة المؤمنين الذين أحبهم اللهُ تعالى ، لذلك أنقذهم من النار ، وجعل لهم من همِّهم مخرجاً .
كما أن الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ أصحاب المكانة السامية لهم شفاعة تدل على منزلتهم العظيمة عند الله تعالى. ففي صحيح مسلم ( 1/ 167 ) : أن الله تعالى يقول يومَ القيامة : (( شفعت الملائكةُ ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين )) .
وعندئذ يُخرِج اللهُ تعالى من شاء من النار. فرحمته وسعت كل شيء . كما أن طاعات العباد لا تنفعه _ سبحانه _ ، ومعاصيهم لا تضره . فلو ألقى كل المخلوقاتِ في النار لما كان ظالماً لأي واحد فيهم ، ولو أبقى العصاةَ في النار خالدين لما قدر أحدٌ على إخراجهم . لكن اللهَ تعالى _ الذي خلق العبادَ _ هو أرحم بهم من أمهاتهم .
قال الله تعالى : (( ما للظالمين مِن حميمٍ ولا شفيع يُطاع )) [ غافر : 18] .
وعلى الجهة الأخرى نجد أن الكافرين لا قريب لهم ينفعهم ، ولا أحد يشفع لهم، لأنهم أضاعوا مستقبلَهم بمحض اختيارهم . والشخصُ حينما يقضي على نفسه بإرادته ، فلا ينتظر أحداً لكي ينقذه . فالكافرُ حينما يخلد في النار يكون قد ظلم نفسَه وأوردها المهالك . ولم يظلمه اللهُ تعالى الذي وضّح الصراطَ المستقيم لعباده ، فمن التزمه نجا ، ومن انحرف عنه هَلَك . وقد كرّم اللهُ تعالى الإنسانَ بنور العقل ، لكن الإنسان هو الذي يحجب ذلك النورَ بجهله وعناده وآثامه . ومن اعتقد أنه مستغنٍ عن خالقه تعالى ، وغير محتاج إلى الهداية ، فقد أهلك نفسَه ، وصار عبداً لشهواته وأطماعه الدنيوية البائسة ، غارقاً في متاهات الشك والحيرة .
والجدير بالذكر أن الشفاعة خمسة أقسام :
[ذكر هذه الأقسام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/ 35و36) . [ منقول بتصرف].].
أولها _ مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي الإراحة من هَوْل الموقف ، وتعجيل الحساب . والثانية _ في إدخال قوم الجنة بغير حساب ، وهذه وردتْ للنبي صلى الله عليه وسلم . والثالثة _ الشفاعة لقوم استوجبوا النارَ فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله تعالى . والرابعة _ فيمن دخل النار من المذنبين ، فقد جاءت هذه الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يُخرِج اللهُ تعالى كل من قال لا إله إلا الله. والخامسة _ في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها .
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)