خلف الشيخ ماء العينين تراثا ضخما في شتى أنواع المعارف والعلوم وبلغ عدد مؤلفاته ثلاثمائة كتاب لم تغادر فنا من فنون عصره إلا أحاطت به، حتى ظن من وقف له على إسهام في مجال من المجالات أنه لا يحسن غير ذلك المجال، على أن التأليف لم يستوعب جميع تراث الشيخ الذي أسس حركة جهادية أقضت مضاجع المستعمر وقوضت آماله، فكتب بالسيف مثلما يكتب باليراع
وجاز بَحر الكد إلى بَرّ المجد متخذا منهما القارب والشراع، فصدقاه إلى أن استوى على عرش النبوغ ملكا متوجا، ولا نغفل جانبا مهما ينضاف إلى ما تقدم حين نعرض لسيرة الشيخ وتراثه، فقد حظي بحضور ملفت للانتباه في الدراسات الاستشراقية والأبحاث الأكاديمية الجامعية، ولا يقصر حضوره في الأدب والشعر عن أهمية حضوره الوازن في باقي مجالات البحث التاريخي والفقهي واللغوي وغير ذلك مما برع فيه الشيخ وشكل مادة مغرية للعلماء من معاصريه ومن جاء بعدهم إلى يوم الناس هذا.
هو محمد المصطفى بن الشيخ محمد فاضل بن مامين، وأمه (مَنَّ) بنت المعلوم ولد عام 1246ه وتوفي عام 1328ه الموافق لعام 1910م بتيزنيت، وخلاف كل العلماء المتقدمين والمتأخرين لم يرحل محمد المصطفى في طلب العلم خارج موطنه، ويجمع الدارسون على أن جل علومه حصلها بملازمة والده الشيخ محمد فاضل الذي كان نسيجا فريدا من المعارف، حرص الشيخ فاضل على تربية ولده ماء العينين ولمس منذ سنوات ابنه الأولى نبوغه وتفوقه على أقرانه فخصه بعناية مضاعفة، وقيل إنه كان يدعو الله ألا يطيل عمر أولاده ما لم يحفظوا كتاب الله فبَدَهي أن يكون أول منبع يروي ظمأ ماء العينين للمعرفة هو الدرس القرآني فهو مائدة العلوم التي تحوي من كل فن زبدته فليس أعظم أثرا من القرآن في تقويم لسان المتلقي وتنمية مواهبه اللغوية، ولا تكاد تخلو آية من آياته من درس حديثي أو حكم فقهي أو موعظة أخلاقية أو قصة تاريخية، ولسنا نضيف جديدا إذا قلنا أنه تناول مسائل الكسور في آيات المواريث بدقة فاقت ما كان يبلغه علم الحساب زمن نزوله وأنه أعطى تصورا لتخليق الأجنة في الأرحام أزرى بأبحاث الطبيعيات حينها، ثم إن الدروس المنهجية التي يختزنها القرآن تغني عن غيرها من الدروس، وهكذا فالشيخ خريج المدرسة القرآنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى فما كاد يبلغ سن الرشد حتى تأهل للإفتاء كامل العدة والعتاد.
يقول الشيخ محمد عبد الله بن مختار بن تكرور: «فلما كان القرن الرابع عشر الهجري بعث الله على رأسه شيخنا الشيخ ماء العينين بن الشيخ المجدد الشيخ محمد فاضل بن مامين فكان مجدد الدين، وما قلت ذلك انتصارا أو تعصبا مني ولا تشيعا بخطبة عشواء، لأن العلم لا يثبت بذلك وإنما يثبت بالتحري والصدق فلعنة الله على الكاذبين، وأعوذ بالله من الإطراء بالكذب، بل إنما قلت إنه مجدد بتبصر وإمعان طويل وصحبة كاشفة لا لبس فيها».
ويقول الشيخ محمد فاضل بن الحبيب في كتاب «الضياء المستبين في حياة الشيخ بن مامين»: «الشيخ ماء العينين قبل ذهابه من عند والده إلى الحج فوتح وكوشف بعلم التفسير من معرفة ناسخه ومنسوخه وفي علم الحديث رواية ودراية، وعلم الأصول والقواعد والفروع، وأنواع العلوم العربية وأشعارها وآدابها ولغتها ونحوها، وفي المنطق والبيان، وسائر الفنون العقلية والنقلية» وصرح الشيخ محمد العاقب بن الشيخ عبد الله في كتابه «مجمع البحرين في مناقب الشيخ ماء العينين» أن ماء العينين تلقى كل علومه على والده، لم يتغرب إليها ولم يغادر مدرسة والده قط، وأما إنتاجه العلمي فقال عنه ابنه مربيه ربه «وقد ألف كثيرا من الكتب في ريعان شبابه وأثناء جولاته، وربما بقي بعضها في المكان الذي ألفت فيه» ومن كتبه «اللؤلؤ المحوز الجامع ما في الجامع الصغير والراموز» و صلة المترحم على صلة الرحم» جمع فيها ما يقارب خمسمائة حديث في صلة الرحم، ومنظومة فيما يطلب من معرفة الذات والمعاني والأفعال، ومختصر لكتاب الشاطبي في الأصول عبارة عن منظومة شعرية و«الأقدس» في الأصول «هداية المبتدئين في النحو» وغيرها مما لا يتسع المقام للحديث عنه، كما أنه كان شاعرا مفلقا مكثرا لهذا يحتاج الحديث عن إنتاجه الشعري لوحده إلى عدد من المؤلفات، ونسوق من شعره هذه الأبيات الجميلة التي يصف فيها مكابدته لتباريح الغرام، فهي أقوى دليل على رهافة حسه ورشاقة نظمه:
وبت وأحشائي تقطع بالهوى ومن حرق الأشواق باتت صواديا
وبت وقلبي من لظاها بجنة
وجنة ذكراها تذكر ناسيا
تضوع منها نشر بنت غزالة
إذا الطيف أبدى نشرها والغواليا
وبالإضافة إلى نشاطه في التأليف عني الشيخ بتدريس الشعر والبيان والمنطق وسائر العلوم العقلية والنقلية سواء بمسجده أو ببيته حتى بلغ عدد طلبته عشرة آلاف نسمة.
هذه بإيجاز لمحة عن حياة ماء العينين العلمية والأدبية أو لنقل هذه السيرة التي خطها بيراعه على جبين المجد ناطقة بأنه عالم فذ لا تجود الأيام بمثله إلا فيما ندر، وأما السيرة التي كتبها بسيفه فلا تقل أهمية عن سابقتها وما كان لدولة العلم عنده أن ترفع هامتها لولا مدافعته عنها بالسيف، ويحدثنا التاريخ أن ضياع جملة من مؤلفاته كان بسبب إحراق المستعمر لمكتبته وقد يبدو للوهلة الأولى أن جهاده صرفه عن العلم والحق أنه لولا مواقفه البطولية ما كنا لنطلع على شيء من تراثه والدليل أنهم عمدوا إلى إزالة مآثره حين سنحت الفرصة لفعل ذلك.
حاول المستعمرون استمالة ماء العينين لما يعلمون من عظم مكانته في قبائل الصحراء فاستسلام الشيخ معناه أن الصحراء صارت طوع إرادتهم ومن مراسلات الإسبان معه تتضح أهمية استمالة الشيخ لصفهم.
جاء على لسان «غونز اليس» ممثل إسبانيا في إقليم واد الذهب في رسالة وجهها للشيخ ما نصه «وأؤكد أيضا بأنني حاضر لأفعل كل ما يرضيك وتحب... ثم أخبرك وأثبت لك أن تجارة إسبانبا كلها بيدك وتحت أمرك في كل مكان وزمان» ومع أهمية الإغراءات التي عرضت عليه وجسامة المخاطر المترتبة عن معارضة إرادتهم فإن الشيخ رفض أن يكون ذنبا للاستعمار، ومثلما رفض عروض إسبانيا رفض عروض فرنسا لينطبق عليه بذلك شقا الرحى وليجد نفسه في مواجهة قوتين استعماريتين مدججتين بكل أنواع السلاح.
أجبر الشيخ ماء العينين على مغادرة السمارة واللجوء إلى تيزنيت بعد تلاحق الهجمات الاستعمارية ولم يفت ذلك في عضده فراح يجمع قبائل سوس والصحراء ونظم غارات منظمة على معاقل المستعمرين كمثل هجومه على مركز أكجوجت عام 1908 م الذي قتل فيه القبطان «ريبوكس» وعدد من أتباعه ومواجهته لقوات «موانيي».
في قصبة أولاد زيان، عاجلت المنية الشيخ ماء العينين وهو يحرض القبائل على القيام بواجبها الديني في مقاومة الغاصبين، لكن جذوة المقاومة لم تنطفئ فقد حمل ولده «أحمد الهيبة» لواءها وقام بجهد محمود لاستنقاذ مراكش من أيدي الغاصبين فكان امتدادا لمدرسة والده في العلم والعمل معا وكان الشبل الذي ورث أوصاف الأسد، أو ليس ماء العينين من وُصف بالهزبر في شعر مربيه ربه
تلقى الهزبر الشيخ ماء العينين بخ
حدث ولا حرج عن البحران
كمل الليوثة والفخار مؤيدا
بالنصر والتمكين والبرهان
ثبتا هصورا صمة صمصامة
ويصيح في الميدان من يلقاني
التعليقات (0)