الشـاغـليـن فــؤادي
مصعب المشـرّف
20 مارس 2023
والبلاد على أعتاب بث قناة النيل الأزرق لبرنامج أغاني وأغاني المثير للجدل ، سواء لمناسبته في شهر رمضان الكريم أو لتبنيه ظاهرة التقليد والترديد للأغاني. وما يكتنف ذلك من ورود أخطاء فادحة في مجال نطق الكلمات ومخارج الحروف . بل ويتعدى الأمر إلى محاولة بعض هؤلاء الصِبية من المرددين والمرددات والمقلدين والمقلدات إلى تغيير بعض الكلمات في القصيدة المغناة ، وعلى نحو يعصف بالقصيدة ويفعل بها ما لم تفعله الصيحة في عذاب ثمود.
ثم وليعلم هؤلاء الصِبيَة أن الشعر هو ديوان العرب . ويرتبط بوجدانهم إرتباط الروح بالجسد الحي. وأن قواعده الراسخة ,وبناؤه الهندسي المتماسك يحول دائماً بين المرء وجهله وحتى شيطانه . وأنه ما من مفسر للقرآن الكريم إلا ويستعين بعيون من أبيات هذا الشعر لشرح وتقريب معاني ومقاصد وردت في كلام الله القرآن الكريم.
ولا يفوتنا في هذا المقام التذكير بأن شاعر المعلقات الفارس عنترة بن شداد ؛ حين تفجر في وجدانه ينبوع الشعر بعد بلوغه سن الأربعين ، تردد كثيرا وخاف كما لم يخف من كل صارم بتار ونزال . وظل يكابد خوفه من نطق الشعر زمنا حتى قال في مطلع معلقته:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم.
ويحكى في مجال النقد أن شاعر المعلقات وصنّاجَة العرب طرفة بن العبد حين كان غلاماً . حضر مجلساً لبني قيس بن ثعلبة . فمر بهم الشاعر الفحل المسيب فاستنشدوه فأنشدهم من قوله:
وإني لأمضي الهم عند إحتضاره
بناجٍ عليه الصّيْعَريّة مَكْدَمِ
فإنفجر الغلام طرفة بن العبد ضاحكا ساخراً. وقال عبارته الشهيرة "إستنوق الجمل"... ويعني بذلك أنه جعل الجمل ناقة.
وسبب سخرية طرفة بن العبد من قول المسيب لن عليس وقوله "إستنوق الجمل" فهي أن الصيعرية من سمات النوق وليست من سمات الجمال (الذكور) الفحول. وفي رواية أخرى قيل أن قائل هذا البيت هو المتلمس خال طرفة بن العبد.
وكم هو محزن ومؤلم أن يستمع الشخص إلى توسلات كبار المطربين لدينا لهؤلاء الصِبية المرددين في برنامج أغاني وأغاني يرجونهم عدم تبديل كلمة أو كلمات من أغانيهم بكلمات أخرى ؛ خوفاً وإدراكاً منهم أن هذا التبديل عن جهل وإجتهاد شخصي ، وسوء النطق وعدم التحكم في مخارج الحروف والإستعجال أحياناً والبطء في غير محلّه أحيانا كثيرة ، والجهل بالبلاغة والإعراب يؤدي إلى تحويل الأغنية ومراميها إلى مسخ ويصيبها بتلوّث لا يمكن التداوي منه. خاصة وأن معظم النشء من الجيل الحديث وأبناء المغتربين وأنصاف المتعلمين لايدرك حقيقة أن هذا الشاب الذي يغني أمامهم ويتراقصون على إيقاعات فرقته الموسيقية الصاخبة، ليس صاحب هذه الأغنية ، وإنما هو محض مردد غير أمين لها بوإن كان يقتفي أسلوب مطربها ومبدعها الأصيل الذي عانى ما عانى في سبيل إجادتها وصبغها بصبغته الكثير من عصر القلب ومدافعة خلجات النفس وحرق الأعصاب.
إستمعت مؤخراً إلى المطرب المجتهد عصام محمد نور وهو يردد أغنية "الشاغلين فؤادي"
أغنية الشاغلين فؤادي من كلمات الشاعر علي المساح . ألحان وغناء إبراهيم الكاشف . تظل بمثابة إمتحان عسير لكل من يتصدى من صغار المطربين وكبارهم للغناء بها على حدٍ سواء . نظراً لإحتواء القصيدة على كلمات لاتقبل الأخطاء في النطق الذي ينحرف بالمعنى وأطروحات البيت وربما القصيدة بأكملها فيفعل بها الأفاعيل.
وهناك في الساحة الغنائية مشاهير وأصحاب باعٍ طويل في مجال الأغنية إستشكل عليه فهم معنى أو المراد من كلمة "المائقين" ، و "المائق" بوصفها أبرز الفخاخ اللغوية والبلاغية التي جاءت في قصيدة هذه الأغنية التي نحن بصدد تجربة هذا المنحى النقدي على بساطها ؛ متشبثين بتلابيبها ومتعلقين بأذيالها.
وللمائقين خاصة في هذه القصيدة أكثر من معنى يتسق مع موضوعها العام وبيت قصيدها. ولكن يظل هناك معنى يتفوق على المعنى الآخر . وهذه ميزة من مميزات الشعر الجيد الذي يمنح الوجدان فرصاً أوسع للسعادة من باب كل يغني على ليلاه.
ولكن جميع ذلك يستلزم النطق السليم للكلمة وعدم تغيير الكلمات في القصيدة . وهو ما درج عليه للأسف المرددون للأغاني في العقود المتأخرة وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا.
ومن أبرز من تعثر في نطق المائقين و المائق ، بسبب عدم معرفة المعنى كان المطرب الشاب الراحل نادر خضر الذي يبدو أنه وصلت به الحيرة إلى نطقها "الما يقين" . وبذلك أخطأ المفصل وأبعد النجعة كونه سعى ولم يظفر بالمراد . لأنه أوصلها إلى أذن المستمع من الجيل الحديث قاصداً بها هنا "عدم اليقين"
فالبيت الذي جاءت فيه هذه الكلمة والأبيات السابقة والتالية له ، والقصيدة جميعها أبعد ما تكون عن حالة "عدم اليقين " التي ظنها.
وهذه الأبيات:
الشاغلين فؤادي
تائهين فائقين
بكفي البيّ ذارف
دمعَ المائـِقِـين.
وكذلك لم يحالفه الحظ في نطق "المائق" فنطقه "مايـك".
الفنان الكاشف نطق المائـقـين بصيغة الجمع وهو النطق السليم حتى وإن جانبه الصواب في نطق القاف المعطشة التي ينفر منها اللسان العربي السوداني ربما كسـلاً أو خوفاً من إيجاع الحلق أو ربما لسبب آخر . ونطق المائقين بالجمع سليم . ولكنه ربما يضعف المعنى والمراد الذي قصده الشاعر في تعبيره عن حالته النفسية الخاصة به . وربما لا يضعف المعنى المراد في نظر البعض إذا كان الشاعر يقصد الربط بين حالة إستثنائية شخصية دخل تجربتها هو في لحظة ضعف دون أن يكون ذلك من ثوابت خصاله وطباعه . وبين حالة أخرى عامة يتصف بها غيره. وهذا هو الذي أميل إليه من إستنتاج.
وذلك وفقاً للآتي:
أن المائق تعني السريع البكاء القليل الثبات. ويقال أيضا الأحمق
وفي ذلك يقول الشاعر الأموي "قيس بن ذريح" في قصيدته التي بدأها بقوله:
سأصرم لبنى حبل وصلك مجملا
وإن كان صرم الحبل منك يروع
حتى يأتي إلى قوله:
وحتى دعاني الناس أحمق مائِقا
وقالوا مطيع للضلال تبوع
وحيث أن المآقِ هي مجارى الدموع من العين.
عليه نتوصل للتالي:
أن المائِقِين (بالجمع) هم المسارعون بالبكاء وتسيل دموعهم دون ضابط أو مغالبة وسيطرة.
وأكاد أجزم أن هذا المعنى هو الذي أراده الشاعر المساح وسمعه الكاشف لفظاً منطوقاً فذهب إلى أدائه . خاصة وأن الشاعر قد سبق ذلك بقوله:
يكفي البي ذارف ، وعطف على ذارف بقوله دَمْعَ المائقين.
وأما المطرب عصام محمد نور الذي يعتبر نفسه تلميذاً مخلصاً للكاشف فقد نطقها (وفق مقطع الفيديو المرفق بهذا المقال بالجمع ولكنه لم يكن واثقاً في مخرج الكلمة . وكان ذلك من خلال برنامج في لقاء معه بثته قبل فترة ليست بالقصيرة قناة الجزيرة الخضراء الفضائية من مسقط رأسه مدينة ود مدني التي هي مسقط رأس الكاشف أيضا رحمه الله.
وبالعودة إلى نطق الكاشف الذي عرف عنه أنه لا يقرأ الكلمات . وإنما يسمعها سماعاً من لسان الشاعر مباشرة ، ويحفظها من فوره عن ظهر قلب بما رزقه الله عز وجل من موهبة الحفظ السريع . فالإعتقاد الراجح هنا أن الكاشف قد سمع كلمة "المائقين" منطوقة بالجمع من لسان الشاعر علي المساح مباشرة أو من بعض الغاوين الرواة.
والكاشف هنا إنما يترجم بصدق وشفافية وأمانة مقصد الشاعر المساح وسعيه الوجداني للتعبير عن ما يخالجه من مشاعر . وبذلك يكون الإتكاء على نطق الكاشف هو الأجدى بالتسليم له
وأما المرادف في اللهجة السودانية للمائقين فهو البكايين في الحب . بل وعشاق كل جميل.
حبث يوصف البعض من الناس بالقول : "الزول دا بكاي جنس بكاء !" . ويقصدون به الأحمق رهيف القلب المستغرق في العشق ، والسريع الإستسلام للحب واللهفة للركض خلف المحبوب والكبكبة أمام كل جميل من البشر ؛ وخلع ثوب الوقار وإحترام الذات. ومنهم من تستبد به حالة من اللاوعي والغيبوبة فيسجد للمحبوب في رابعة النهار وقطع من الليل في الطريق العام أو وغرفة النوم ، ويدخل في نوبات من البكاء بحـُرقـة يصحبها نحيب.
وقد كانت العرب ولا تزال تنفر من ربط بناتهن بمثل هذا الشخص البكاي . وذلك على إعتبار أنه شخص فارغ غير مؤهل لتحمل المسئولية وفاضح ومفضوح غير رزين.
وفي ذلك يردد الفنان الراحل محمد وردي هذا المعنى في أغنيته "وا أسفاي" بأسلوب ومخارج صوت ملفتة يؤكد ويكرس ويوثق بها هذا المعنى المراد عند نطقه لكلمة "بكاي" بمد الألف وتطويلها على غير المألوف في حالة لو كان الأمر عاديا:
عشـان ما تبكي ببكي أنا
وأحاكي الطرفة
في نص الخريف بـكّــااايْ.
والمعروف أن الفنان محمد عثمان وردي كان يعمل سابقا معلما في مدارس التربية والتعليم ، ويدرك جيدا ما يدور حوله من ظاهرة البكائين هذه.
والطريف أن الشاعر محمد الفيتوري في قصيدته التي قدمها محمد وردي نشيدا في ثورة 21 أكتوبر 1964م يقول:
أصبحَ الصبحُ
ولا السجن
ولا السجان باقي
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحّل هاتيك المآقِ
والمآقِ عند محمد الفيتوري هنا واضحة جاءت إسماً بصيغة الجمع ، وتعني مجرى الدمع من العيون . ولكنه كان أكثر عمقاً في التعبير السحري بلغة الضاد والقرآن المبين. حيث يستشف منه أن الدمع قد جف من كثرة البكاء ؛ ولم يعد هناك ما تبقى سوى "الحزن" في المآقِ السود بعد أن جفت الدموع... دموع الشعب.
وفي موقع آخر من قصيدة أغنية الشاغلين فؤادي أخطأ أكثر من مطرب في ترديده لكلمة مائق . وذلك عند إستبدالهم إسم المائق بالمايـك :
فقد ردده هؤلاء "والمايـك دمَع ".
في حين أن الصواب هو " والمائِق دَمَع" .
والمايك لدى أهل المغنى والموسيقى يطلق إختصاراً على المايكرفون.
وعلى هذه الشاكلة نلاحظ إقدام المطربين المرددين لأغاني الغير من الفحول والمبدعين الأوائل.
وأذكر أن المردّدة مكارم بشير قد أقدمت على إستبدال كلمة " أشـّر " بكلمة "لـوّح" في خضم ترديدها لأغنية المبدع الراحل إبراهيم عوض من كلمات العميد الشاعر الطاهر إبراهيم التي يقول فيها:
قطاره إتحرك شوية شوية
من بعيد بي إيدو شفته أشّـر ليَّ
ولكن يبدو أن كلمة "أشـّـر" لي لم ترق للمرددة مكارم بشير حيث ربطتها بحكم السـن والنشأة وظروف السودان الإقتصادية حديثاً بمصطلح "التأشيرة" التي أصبحت منذ عام 1975م هاجس كل الشباب في عصرها . فقالت(والله أعلم) في نفسها كيف تأشـر له محبوبته . وهل هي تعمل قنصل أو ضابط تأشيرة في سفارة من سفارات دول الإغتراب والمهجر أم ماذا؟
ومن ثم فقد ضربت أخماسها في أسداسها وقالت أستبدلها بكلمة "لـوّح" لي لتصبح أرقى . فجاطت المعنى وعصفت بالقصيدة وحولت المحبوبة من محبوبة إلى عدوة شرسة ، تتوعد الشاعر بالشر والويل والثبور ملوحة له بقبضة بدها.
وفي واقع الأمر فإنه لا علاقة بالإشارة هنا بالتأشيرة التي ظنتها مكارم بشير.
وفي قواعد اللغة العربية والنحو باب كامل عن "لغة الإشارة"و "أسماء الإشارة" . وتعرف الإشارة بأنها لغة ووسيلة تواصل صامتة.
ولغة الإشارة التي قصدها الشاعر هنا ليست لغة الصم والبكم . بل هي من أقدم اللغات تاريخاً وتحتاج إلى ذكاء وفطنة.
وبالنظر إلى أن شاعر الأغنية العميد محمد الطاهر إبراهيم رحمه الله من مواليد ود مدني عام 1934م فقد جاءت كلمة "الإشارة" في هذه الأغنية الشهيرة تعبيراً صادقاً واقعياً للحالة الإجتماعية التي تشبع بها في طفولته وعاصرها في النشأة وتفهمها في صباه وخضع لها ومارسها في مقتبل شبابه في تواصله مع المحبوب . حيث لم تكن العلاقة بين الفتى والفتاة على نحو ما صارت عليه في زماننا الماثل من شفافية وتواصل مباشر لم تكن تتوفر حتى 1% منها في زمان الشاعر الطاهر إبراهيم. وبذلك كانت لغة الإشارة بينه وبين محبوبته هي خير تعبير منها على مبادلتها الإعجاب والهوى في حضور أهلها. ولا ندري هل كانت المحبوبة قد سافرت مع أسرتها في إجازة قصيرة أم أن الأسرة قد إنتقلت للعيش في مدينة أخرى ؟
ومن أبرز ما قيل في الإشارة كمصطلح بهذا المعنى قول الشاعر التركي الأصل المصري المولد والنشأة "حسن الطويراني":
نعم إنما ألغزت فيه إشارةً
وكل لبيب بالإشارة يفهمُ
ولكن فما إسم ثلاث حروفه
بدت ألفاً صاداً ونوناً تكرموا
التعليقات (0)