إذا أنطلقنا من أن " الشعر يعيد للغة قدرتها على تسمية الأشياء" كما عبر هيدجر عن ذلك فإن وظيفة الشعر الأساسية تتمثل في مدى قدرته على الإبداع والتجاوز المستمر وكأن الشعر يعيد بعثرة أبجديتنا في شكل فوضوي سديمي ليأخذ على عاتقه إعادة تركيبها في معاني وصور جديدة تصل إلى مستوى الخلق بما يحمله من حركة تتجه من العدم إلى الوجود إنه الexnihlo الذي يهب الشاعر القدرة على تسمية أشيائ قصيدته في لغة شعرية تعيد ترتيب بيت الشعر الذي إنتبذ مكانا قصيا للإقامة فيه يمارس فيه طقوس الخلق الشعري يصحبه نداء الوجود وإذا كان الشعر هو من يمنح اللغة القدرة على نداء الموجودات بأسمائها فإن من حق الشاعر أن يوقع شعريته الخاصة وأن يحلق بقصيدته في فضاءته النثرية في مناطقه الحرة يلهو بحدوسه الشعرية ويلعب بصوره الخيالية في فعل تصعيدي لمكبوتاته الفنية ليقول بلغة رمزية مكثفة ما يجب أن يسمعه الجميع :
بأن الشعر تأسيس للوجود، والشعراء رعاته وحماته. وبفضل الشعر تتحول اللغة من امتلاك الموجود إلى انكشاف الوجود. وكما يقول هولدرلين "ما يبقى يؤسسه الشعراء" فالشعر لا يؤسس الوجود فحسب، بل يؤسس التاريخ أيضا، وهو مأوى الوجود ومسكنه ومن هذا المنطلق من حق الشعراء أن يؤسسوا في كل آن وحين و أن يحددوا طريقة سكنهم في الوجود فإذا كان الشعراء القدامى قد اختاروا الوجود سكنا لهم من خلال القصيدة العمودية فذلك لتأثرهم بنمط سكنهم الوجود كصحراء وخضوعهم لمنطق وقيود المجتمع القبلي الذي يتميز بصرامة قيمه ومعاييره فلم يكن الشاعر يلعب من وظيفة أكثر من كونه لسان حال القبيلة الذي يجب أن لا يغادر أرضية قيمها ومعتقداتها وحياته الجماعية فيها ومن هنا لم يكن بإمكان الشاعر أن يفكر خارج النمط المتعارف عليه والجماعي فالشعري لا يمكن أن يتشكل بمعزل عن البيئة التي ينشأ فيها ومن هنا حتى
طريقة تسمية الأشياء في القصيدة متأثرة بالمناخ الصحراوي القاسي لذلك نجد في المعجم اللغوي للقصيد نوعا من الخشونة
في إستعمال الكلمات فجاءت قصيدتهم معبرة أيما تعبير عن هذا النمط المعيشي
لذلك من الظلم أن نحاكم شعرنا المعاصر بمعايير ومقاييس الشعر القديم وما يسمى بشعر التفعيلة والقافية و أن نلزم الشعر
المعاصر الالتزام بقواعد لم يساهم في صياغتها فما وضع من قواعد شعرية هي مجرد مواضعات اتفق عليها شعراء ونقاد
ذلك العصر تماشيا مع متطلبات عيشهم فلا نفهم لما ينكر البعض اليوم على الشعراء المعاصرين صياغة نماذجهم الشعرية
التي تستجيب لنمط حياتهم والعصر الذي ينتمون إليه وما يميزه من ازدهار الفردانية و اتساع أفق الحرية وتحرر الشاعر من سلطة الجماعة فالفردانية المعاصرة أدخلت الذات في متاهات ذاتها الهائمة في ذاتها وما تعيشه من صدام مع مصيرها المجهول ومع واقع متشظي التهمت التقنية روحه وتركت إنسانه تائها بين شيئيتها وعدميتها ومن هنا تأتي خصوصية التجربة الشعرية وضرورتها فنحن نعيش عصر العولمة وانفتاح الثقافات على بعضها البعض بدرجة يستحيل منع التأثر والتأثير فيما يتعلق بعلاقة الثقافات ببعضها البعض ونحن نعيش عصر التشظي والانكسارات وتداخل المعقول باللامعقول والغموض بالوضوح وتداخل المتناهي مع اللامتناهي والأسطوري بالعلمي والمقدس بالمدنس والسماء بالأرض فبأي حق نمنع عن الشعراء المعاصرين أن يأخذوا مكانا قصيا من هذا الوجود وأن يقتطعوا قصائدهم من عتمة هذه الفوضى فمن البديهي أن يأخذ النثر مكان العمودي لأنه أكثر حرية وتحررا لقول الوجود وإعادة تسميته وفق طريقة سكننا لهذا العالم ففي الشعر النثري توجد مساحات لقول الوجود والعدم ولإخراج العدم من الوجود وإخراج الوجود من العدم وما تلك المساحات البيضاء إلا تعبيرا عن حالة العدم التي تعتري الوجود الإنساني فلكل زمن شعريته الخاصة ومن حق كل عصر أن ينشد المعاني وفق ما يشعره ويحسه لا بإحساس الآخرين الماضي ومثلما تمكنت القصيدة العمودية التقليدية في زمن ما من صياغة قموسها وتحديد قوانينها فإنه من حق الشعر المعاصر أن يؤسس نموذجه الشعري ويختار قاموسه الخاص وقوانينه التي تلائمه إذ تظل مسألة الذوق الشعري مسألة نسبية وبالتالي كل ما يصاغ من نظريات في هذا السياق يظل متعلقا بأحكام ذاتية لا موضوعية ومن هذا المنطلق علينا أن نترك للأجيال أن تختار ذوقها الشعري ومدونتها الشعرية التي تعبر عن روحها هي وتطلعاتها وذوقها وفق ما تراه قادرا على التعبير عن أحاسيسها ومثلما هناك من يعشق الشعر العمودي فإنه هناك من يعشق الشعر النثري ويجد فيه نفسه ويعتبره الأقرب للتعبير عن وضعياته القصوى التي يعيشها اليوم فلنترك اللغة تقول الوجود كما نعيشه ونسكنه شعرا عبر التجارب الشعرية المتنوعة ولنقر بحق الاختلاف في مستوى الذوق الشعري فبه يصبح الوجود الإنساني أكثر ثراء وتنوعا ونعوض الفقر والتصحر الوجودي الذي دخل فيه العرب في مستوى علاقتهم بالإبداع بعد أن أصروا على إقصاء مستميت لكل حديث واعتبروه دخيلا يجب مطاردته كرجس الشيطان وما التستر بغطاء الهوية إلا سترا لعورة لم يعد يسترها مثل هذا القول ذلك أن مفهوم الهوية مفهوم معقد حيث حدد الفيلسوف الفرنسي إدقار موران الهوية "كهوية مركبة" بمعنى تحمل الكثرة والتنوع وكل إدعاء يرفض التنوع والاختلاف بدعوى المحافظة على الهوية إنما هو بصدد إفقار هذه الهوية وإحداث أزمة داخلها لذلك نقول إن الشعر النثري المعاصر لا يمثل تهديدا للهوية الشعرية العربية بل إثراء لها وفتحها على الإبداع والإخصاب والتنوع وما التركيز على مسائل شكلية تتعلق بالوزن والقافية وربط تخلي القصيدة النثرية عنها بتشويه الشعر العربي وتلويث السمع إلا هروبا من مقتضيات التحديث والحال أن الوجود برحابته اللامتناهية لا يمكن أن تقفل وتقبض عليه في بعض الإيقاعات فثمة إيقاع أعمق وميزان شعري أهم إنه إيقاع الوجود وهو الإيقاع الحقيقي أما ميزان الشعر الحقيقي هو حكمته وعمق فكرته وحركته اللامتناهية لأن يكون نصا متعدد التأويلات لا يعلم تأويله حتى يبقى نصا متجددا لا يمكن قراءته بنفس الطريقة مرتين بل يعبر عن حرية تأويلية وتعدد واختلاف يستوعب كل عابري الوجود ولا يموت بموت العصر الذي أنتجه وهنا أحيي الشاعر العالمي منير مزيد لانضوائه ضمن حركة الشعر المتجدد وهو بتجربته الشعرية الثرية والعميقة يفتح طريقا جديدا وتقليدا شعريا عربيا جديدا يؤسس لمدرسة شعرية تؤمن بحق الاختلاف الشعري وبحق الشعراء المعاصرين أن يسموا أشياءهم ويقولون تجربتهم الشعرية بكل حرية فحينما يعمل الفنان على النظم والتركيب لما هو قابل للنظم والتركيب فإنما هو بصدد نظم الوجود في قصيدة وفي هذا السياق تفهم عبارة موزارت المشهورة "أنني أبحث عن أنغام تقع في هيام بعضها البعض".
نفهم مما سبق أن الفن في أرقى صوره شعر. وبما أن الفن حسب تعريف هيدجر هو تهيئ لانكشاف الحقيقة، فإنها لا تنكشف سوى بتكثيفها وهذا هو معنى الفعل... (Dichten)
وفي الأخير أختم بقول الشاعر الكبير نزار قباني في حديثه عن علاقة الشعر القديم بالحديث قائلا "في مواجهة القديم المتععصب لحولياته وألفياته يقف جيل اليسار –ويقصد المحدثين- بكل طفولته ونزقه وجنونه . إنه جيل مفتوح الريئتين للهواء النظيف مبهور بهذه التيارات الفكرية الجديدة تهب عليه من كل مكان فتعلمه أن يثور وأن يرفض وأن يحفر بأظافره قدرا جديدا إنه جيل يقرأ التاريخ ولكنه يرفض أن يبتلعه ضريح التاريخ".من كتاب "الشعر قنديل أخضر".
فلتتركوا لنا مصيرنا وقدرنا نحفره ب"أظافر جنون الشعر". ونصنع هويتنا الشعرية المعاصرة بنا مثلما صنع سابقونا هويتهم الشعرية الخاصة بهم فليس من المنطقي أن نطلب من إنسان خلع لباسه الذي فصله على مقاسه ليلبس لباس آخر فصل على مقاس غيره.
التعليقات (0)