في ميادين التحرير الشعب يريد إسقاط النظام, كل النظام ولا شيء غير النظام. نظام لم يبنه الشعب, ولم يُستشر يوما في بنائه. لم يباركه ولم يشاركه. نظام قام في غفلة منه منتحلا اسمه. نظام فاقد للشرعية الشعبية, ولم يكسبه الأمر الواقع أية شرعية. نظام بنى على الاضطهاد والقمع والاستبداد قاعدته, واتخذها وسائل لحمايته. نظام أخرج الشعب كليا من الحياة السياسية, وحوله إلى مجرد رعية. نظام في قمته ووسطه وقاعدته الزعيم وعائلته وحاشيته. نظام جعل من الاستهتار و احتقار الإنسان وحقوقه وقمع حرياته وانتهاك المقدسات سياسة ومنهجية. نظام صور وتماثيل زعيمه تحل محل الرايات والرموز الوطنية, وطقوس تبجيل شخصه محل الاحتفالات القومية. نظام صوّر هزائمه انتصارات وافتعل معارك وهمية. نظام قزّم الوطن ليختزله بزعيم. وجسد الدولة, الشخصية الاعتبارية, بشخص الزعيم. "الدولة أنا" وأنا الدولة, سيادتها من سيادتي, حملت اسمه وكأنها مولود جديد يحمل اسم أبيه. وكأنه سابق على وجودها تاريخا ونسبا وأمجاد.
نظام ألغى من قاموسه السياسي كل المفردات العصرية مثل: السيادة, الديمقراطية, المؤسسات, الحرية. التعددية, المواطنية, التداول, القيم, الأخلاق, الكرامة, الاستقامة, النزاهة الشهامة, المسؤولية, المال العام, الحقوق, العدالة, المساواة ,التآخي, التضامن, حقوق المرأة, حقوق الاطفال. واستحدث مفردات دخيلة على الأخلاق و القيم وعلى اللغة و آدابها والسياسة وأصولها وعلومها, لوصف مواطنيه المتحفظين على تأليه شخصه والرافضين لطقوس الخضوع لحكمه, مثل: الخيانة, العمالة, التآمر, الكلاب الشاردة, الجرذان, الأنجاس, المندسون, قلع العيون. قطع اليد, بيت الخالة (إشارة للسجون) الدولاب, بساط الريح, البلطجة والتشبيح ... إضافة إلى أخرى لا يمكن كتاباتها ولا قراءتها....
نظام يميز بين مكونات شعبه, فيضرب هذا بذاك مستعملا الدين والقومية والطائفية والفوارق الثقافية والاجتماعية أورقا سياسية في خدمة بقائه, مستلهما سياسة فرق تسد ومطورا لها بأساليب محلية. يتهم بالعمالة الأجنبية والخيانة الوطنية والخروج على القانون وعلى النظام العام, ويُجرد من شرفه وقيمه و تاريخه ويشكك في انتمائه للوطن, كل من يشير إلى بعض من خبائثه السياسة, والسرقات المالية, أومن لا يرى في شخص الزعيم ما يجسد العصمة والقدسية.
نظام يجتمع زعماؤه في قمم دورية مخصصة لمعالجة القضايا العربية المصيرية فيتخاطبون بلغة "سوقية" ويخرجون منها أحزابا وطوائف ــ تربأ الشعوب بنفسها عن حضيض يُسمّي قمما ــ ومع ذلك يتبايعون ويتعاهدون, صراحة أو ضمنا, على أن يشد بعضهم أزر بعض في الشدائد منعا لسقوط دعامة من هيكل النظام, ليس وفاء للساقط أو الايل للسقوط, وإنما خوفا من السقوط الكبير لكل الدعائم.
أليس عدلا, والحال هذا, أن يُسقط الشعب النظام؟ كل مكونات النظام؟. وان يستعيد صاحب السيادة سيادته بعد طول اغتصاب؟. أليس ضروريا أن يسقط مع النظام كل افرازاته من اتباع وأزلام؟.
افرازات النظام خطيرة وكثيرة ومتشعبة في كل المجالات أخطبوطية الامتدادات. افرازات عمرها عقود. ولضيق المجال تكتفي السطور التالية بالإشارة إلى إفراز واحد منها "طليعي" : المثقفون. ونسارع حتى لا "يجفل" المثقفون الحقيقيون من الوهلة الأولى, ولرفع كل لبس أو اشتباه, نسارع لإضافة كلمة السلطة, أي أن المعنيين هم"مثقفو السلطة" وخدمها والناطقين باسمها بمواهبهم ــ وأية مواهب !!! ـ وإخلاصهم وضمائرهم المرنة جدا. و نعني هنا المفهوم السائد والواسع للمثقف والثقافة.
وضع الثوار الشباب, المعتصمون في ميادين التحرير والساحات العامة, المطالبون بإسقاط النظام, مثقفي السلطة على قوائم العار, قوائم سوداء طويلة طويلة, ونادوا عليها بالإسقاط. يا لنباهة الشباب.
قد يدافع المرؤوس المجرم عن نفسه, حين يواجه بجريمته, بأنه كان ينفذ أوامر رئيسه, أي أنه مجرد منفذ أوامر خطية أو شفهية. ولكن:
ـ كيف يبرر مثقفو السلطة أمام الشباب والقادم من الأجيال, ما كتبوه من كتب ومقالات, وما أجروه من بحوث ودراسات وحوارات, في تبرير الطغيان والاستبداد والفساد؟, هل كانوا ينفذون أوامر رؤسائهم, وببلاغة يفتقدها هؤلاء, وبفلسفات ليس لهم فيها, ولم يطلبوها, ولا يدركوها, و بحماس كبير وهوس منقطع النظير!!!؟.
ـ هل كان الشعراء الذين تفانوا في مديح الزعماء بقصائد عصماء, زاخرة بالصور الشاعرية والمشاعر الجياشة في نفاقها وتصنعها, مكرهين على ذلك او مجبرين؟, هل كانت توضع في أفواههم الأشعار والأبيات والاهزوجات؟.
ـ هل كان على الفنانين تسخير مواهبهم وقدراتهم على التمثيل لتشخيص هذا الكم من الولاء والإخلاص بالصوت والصورة؟ كيف يبررون أمام الشباب, والقادم من الأجيال, إشعال شموع ليس لتنوير المكان وإنما للإضاءة على الصور الباهتة, وتضليل المشاهدين بالخدع التصورية, والمستمعين بدبلجة الفساد بلغات وطنية ورومانسية؟.
ـ كيف يبررون أمام الشباب المجتمع بالملايين في الميادين والساحات العامة قفزهم فوق الواقع بآلامه وقسوته, ليسطوا على التاريخ فيزيفوه بمسلسلات سبعينية الحلقات بأجزاء تتبعها أجزاء تخديرية تقوم على إضحاك المشاهدين, وحل المشاكل بما يراه الخيال المبدع للمخرجين, وتزيين الواقع الاليم واظهاره على انه ليس من فعل فاعل؟.
ـ ماذا يقول مثقفو السلطة بأنواعهم لشباب ميادين التحرير, عند التحرير, عن المهرجانات الثقافية الدورية التي تحل في كل العواصم عاصمة عاصمة وتدق أبواب المنتفعين بابا بابا, وتبارك الزعماء زعيما زعيما؟ . وعن سعيهم لان تُفتتح الثقافة باسم الزعيم متعدد المواهب راعي المهرجان, وخلال المهرجان وأعمال اللجان تُدرّس أفكاره واستراتجياته وانجازاته وتصوراته , وفي الختام يتم, ببيانات وتوصيات وتظاهرات (بحت ثقافية), حمده وشكره على رعايته وكرمه وعطاياه؟..يا للثقافة !!!.
ـ بما يجيب مثقفو السلطة شباب ميادين التحرير حين يُسألون بأي حق اعتمدتم القذافي مثقفا ومفكرا تقيمون لكتابه الأخضر ونظريته الثالثة المهرجانات والندوات وتدرسونها في الجامعات ,وتكتبون على حواشيها الشروح وشروح الشروح , وتضيئون على إبداعاته الدافقة, وبلاغته في التعبير ورقي الكلمات والعبارات التي يبدأها ويختمها بـعبارته الشهيرة "طز"؟ ( والتي تصلح خاتمة لزعامته) ـ أي سمو في الآداب والأخلاق!!! ـ.
ـ بما يجيب مثقفو السلطة من أساتذة الجامعات ورؤسائها وعمدائها, وزعماء الاتحادات والنقابات والمجالس والجمعيات, وأئمة المساجد وكهنة الكنائس, حين يسألون من شباب التحرير عن تصفيقهم الطويل دون انقطاع, كأبناء المدارس الابتدائية أو نواب الشعب, وغيرهم من أعضاء المجالس, وتلويحهم بالصور والرايات وترديد الشعارات المكتوبة رغم حفظها عن ظهر قلب, والهتاف الذي يشق عنان السماء بالروح بالدم نفديك يا زعيم؟.
ـ بما يجيب المعلقون النجباء من كتاب ومحللين سياسيين وإعلاميين من المترددين يوميا على شاشات الفضائيات للتعليق والتركيب والتحليل (تحليل سفك دماء الشهداء !!!), حين يسألون يوم الحشر من قبل شباب التحرير, عن مساندتهم, المواربة أو الصريحة, للقمع والاعتقال, و بأي حق يبرؤن القاتل من دم القتيل؟, وهل في تحليلاتهم الموضوعية بالأساليب العلمية العصرية, تصبح المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية جرائم يُعاقب عليها بالقتل بالرصاص الحي, او في قضاء سنين وسنين في غياهب السجون؟.
ـ بما يجيب المحسوبون على الثقافة والمثقفين حين يسألون في ميادين التحرير عن بيع ضمائرهم بأبخس الأثمان, وتسويق الفساد والاستبداد والطغيان, والتثقيف بثقافة السلطان؟
ـ بماذا يجيب مثقفو السلطة حين يسألون بأي ذنب يلاحقون المثقفين من أبناء جلدتهم, وعلى ماذا يؤسسون تهم الخيانة والعمالة؟, على وقفة حق مع أبناء شعوبهم في قضايا الحرية والعدالة وحقوق الإنسان؟. وعما إذا كانوا قد سمعوا, صدفة, عن مثقفين وقفوا ضد السياسات العدوانية الظالمة لحكوماتهم و ساندوا بقوة حقوق شعوبهم والشعوب الأجنبية بالاستقلال والحرية, هل سمعوا, صدفة على سبيل المثال, بأسماء مثل سارتر وفلسفاته وكتاباته في الحرية لشعب الجزائر والشعوب المستعمرة. وجاك فرجاس ومرافعاته الشهيرة في محاكم دولته دفاعا عن المجاهدين الجزائريين. وعن مظاهرات مليونية شارك في تنظيمها والسير فيها مثقفون ملتزمون بالقضايا الإنسانية في بلدانهم وخارجها, ولم يُتهموا بخيانة أوطانهم. الم يرفع هؤلاء المثقفين دولهم إلى مصاف دول حقوق الإنسان؟.
قوائم العار التي يسطرها المتظاهرون والمعتصمون في ميادين التحرير والساحات العامة ستطول وتطول أكثر مما توقعه الثوار.
هل سيكتفي شباب ميادين التحرير والساحات العامة بإسقاط الرؤوس دون الأذناب؟.
الجواب في عهدة الشباب.
د.هايل نصر
التعليقات (0)