السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشريعة العقلية
رأينا فيما سبقت الإشارة إليه - راجع كتاب "الجبائيان" للمؤلف:”علي فهمي خشيم"، قبل الصفحة 270. - كيف برزت النزعة العقلية في تفكير المعتزلة حتى عمَّموا حكم العقل في كثير من المسائل المتصلة بالمعرفة والتكليف، وكيف تناولوا القضايا الكبرى بتحرر عقلي فريد سار بعضهم معه إلى "شريعة عقلية.. تقوم على أنَّ في الإنسان علمًا فطريًا يؤدي بالضرورة إلى معرفة إله واحد حكيم".
ومن الضروري أنْ نقف عند هذه النتيجة التي أشار إليها "ديبور" ونتبيَّن إلى أي حد كان المعتزلة جادين في احتضان الشريعة العقلية واعتناقها. فإنَّ من المُسَلَّم به أنَّ من يقول بهذا القول يكون قد بلغ الغاية القصوى في تعظيم العقل وتقديسه.
أمَّا من حيث عناية المعتزلة بالعقل وإحلاله المكانة السامقة فهو ما يبدو لنا بوضوع من خلال درس مذهبهم وتعقب آرائهم، وهي سارية في هذا المذهب على وجه العموم. وهم على نقدهم للمحدِّثين واعراضهم عن كثير من الحديث – كانوا يتمسكون أشد التمسك بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:”أول ما خلق الله العقل فقال له: اقبِل؛ فأقبل، ثم قال له: ادبر؛ فأدبر. ثم قال الله عز وجل: وعزني وجلالي! ما خلقت خلقًا أكرم منك. بك آخذ وبك أعطي وبك أعاقب". وهم يتمسكون به ليدللوا على قيمة العقل ومكانته.
وهم يقدمون العقل أيضًا في مجال معرفة الله سبحانه وتعالى – كما رأينا – ويذكر القاضي عبد الجبار أنَّ أول أنواع الدلالة أربعة: حجة العقل، والكتاب، والسنة، والاجماع، ثم يقرِّر أنَّ معرفة الله عز وجل "لا تنال إلَّا بحجة العقل" وهي التي نصل بها إلى معرفة الله بتوحيده وعدله فرعًا عن هذه المعرفة.
غير أنَّ هذا التمجيد للعقل ودوره في المعرفة كان يقابله – كما سبق – واجبات عقلية وتكليف عقلي. فلا مفر للإنسان من أنْ يؤدي حق تمييزه عن سائر الخلق، ولذا فإنَّ الناس في مذهب المعتزلة محجوجون بعقولهم، أعني أنَّهم مسؤولون عن أفعالهم بمجرد أنَّ الله منحهم العقل وإنْ لم يكن هناك وحي.
من جملة هذه الآراء والأقوال نشأن شريعة عقلية في أساسها، معتمدة على الفكر حتى قبل ورود السمع – كما رأينا عند معظم شيوخ الاعتزال –، وتكون الشريعة العقلية في مقابل المعارف التي ينزل بها الوحي.
على أنَّ أشهر نص جاء في هذا الموضوع هو ما يحكيه الشهرستاني عن الجبائيين – ونلاحظ أنَّه لم يروه عن سواهما – من أنَّهما "أثبتا شريعة عقلية. وردَّا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر".
هذا هو النص الذي عزا للجبائي وابنه القول بالشريعة العقلية، أو الديانة الطبيعية دون سواهما. لكن ألم تكن هناك مقدمان لهذه الديانة القائمة على العقل؟ أليست هي سوى نتيجة للمقدمات العقلية الجلية في تفكير أهل الاعتزال، خاصة بعد اتصالهم بالفلسفة وانفتاح عالم العقل المتحرِّر أمامهم؟
لا ريب في هذا مطلقًا. وإذن فنحن إنَّما نناقش رأي الجبائي في الديانة العقلية على أساس أنَّه امتداد لآراء سابقيه من أهل المذهب- على اختلاف في القصد والغلو. وسنرى أنَّ شيخنا كان في هذه النقطة بالذات من أشد الغلاة في الاعتزاز بالعقل ودوره في المعرفة والحكم على الأشياء والأفعال. فكأنه كان النتيجة عن آخر نفخة من نفخات العقل المعتزلي البديع، وعصاره أقوال المعتزلة عبر عشرات السنين.
يقول القاضي عبد الجبار حاكيًا رأي الشيخ في بعثة الرسل: إنَّ أبا علي " يُجَوِّز بعثتهم للدعاء إلى ما في العقول، وتأكيد العلم والعمل بذلك من دون تحمل شريعة". وهذا النص العام يعني بوضوح أنَّ هناك علمًا في العقل يصل إليه، وما دور الرسل – في بعض الأحيان – إلَّا دعوة إلى ما يراه العقل علمًا وعملًا. أعني نظريًا وعمليًا، وتأكيدهما دون حاجة إلى أنْ يأتي هذا الرسول بشريعة موحى بها، فإنَّ ما يدل عليه العقل من معرفة الله وصفاته وشكر نعمته والتمييز بين الخير والشر كاف لحياة الإنسان من حيث المبادئ الأساسية لهذه الحياة.
هذا هو مفهوم الشريعة العقلية في مجمله. ولعل الجبائي يكون بتقريره لها قد سبق إلى ما نادى به أفلاطونيو كبمردج، في القرن السابع عشر الميلادي وعرف باسم "الديانة الطبيعية" وما دعوا إليه من استقلال العقل بدين لا يعتمد على الوحي في أساسه. ولا بأس هنا من بعض الإحاطة بفكرة المدرسة ومدى مشابهتها لفكرة المعتزلة.
فقد ارتأى افلاطونيو كمبردج أنَّ في الإمكان تأسيس دين طبيعي يستنبطه العقل الذي هو ملكة الإدراك والحكم على الأشياء. وأنَّه ما دام العقل على هذه القدرة فإنَّه لا بد من أنْ يصل إلى معرفة الله الذي هو "أعرف الأشياء في العالم"، ويتوصل بالتالي إلى دين طبيعي تتلخص حقائقه في أنَّ الله موجود وخير وحكيم وعادل.
غير أنَّ الحقائق عامة يمكن أنْ تنقسم قسمين: حقائق طبيعية، وحقائق موحى بها. ولكن هذا ينبغي أنْ يعني أنَّ ما جاء في الكتب المنزَّلة متفق تمام الاتفاق مع عقولنا ومناسب له. وبهذا لا يوجد تعارض بين الدين الطبيعي والوحي. ومن الممكن ملاحظة الشبه القريب بين تصور كل من أفلاطونيي كمبردج والمعتزلة للوحي والعقل وتقديم كل منهما للعقل واحتفائه به.
ولعله من الطريف أنْ تتخذ هذه المدرسة اللاهوتية الإنجليزية موقفًا من الكنيسة يقارب الموقف الذي اتخذه أهل الاعتزال من السنة، وأنْ يعين المعتزلة خمسة أصول لا يكون المعتزلي معتزليًا إلَّا بها، ويُحَدِّد هربرت أوف تشربري خمسة مبادئ كأسس للديانة الطبيعية تشابه كثيرًا ما يذهب إليه أهل العدل والتوحيد. هذه المبادئ التي حدَّدها هربرت أوف تشربري هي:
1- يوجد كائن أعظم هو الله.
2- نحن مدينون له بالتعظيم.
3- أفضل طريقة لتعظيمه في الفضيلة مع التقوى.
4- يجب على الإنسان أنْ يندم على ذنوبه.
5- إنَّ خيرية الله وعدله يقتضيان ثوابًا وعقابًا في هذه الحياة والحياة الأخرى.
وعلى كل حال فنحن لا يمكن أنْ نقطع بأخذ افلاطونيي كمبردج عن المعتزلة، وإنْ كانت كتب الفلسفة والكلام الإسلاميين قد وصلت إلى أيدي الفلاسفة ورجال اللاهوت الأوربيين منذ وقت طويل، ومن المحتمل أنْ تكون الترجمات اللاتينية قد حملت بين طياتها آراء المعتزلة ومذاهبهم وعرف رجال الفكر الأوربي ما عندهم بما فيه من احتفاء بالعقل وتقدير لمكانته.
ولنعد الآن – بعد هذا الاستطراد القصير – إلى شيخنا أبي علي فنرى أنَّه على الرغم من تأكيده أهمية المعرفة العقلية وقوله بشريعة العقل لا يتعمد إنكار ضرورة النبوة وأهميتها. فإنَّ للنبي مهمة كبيرة هي تبيان "مقدرات الأحكام ومؤقتات الطاعات لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر"، وهو يعني إيضاح العبادات وكيفياتها من صلاة وصوم وزكاة وحج ونحوها، وتعيين مواقيتها. وهي أمور لا تدخل في نطاق النظر العقلي أو التأمل الفكري الذي تنحصر مهمته في معرفة الخالق وصفاته والتمييز بين الحسن والقبيح. كما أنَّ بعثة الرسل أيضًا قد تكون تأكيدًا للرسالات السابقة إلى جانب أنَّها تأكيد لما يصل إليه العقل. أو كما يعبِّر الإيجي:”لتقرير الواجبات العقلية وتقرير الشريعة المتقدمة".
وليس في هذا تعارض مع الشريعة العقلية، إذ أنَّ شرط هذه الأخيرة كونها قبل ورود السمع، فإذا جاء السمع من الواجب اتباعه، وبهذا يجتمع التكليف العقلي والتكليف السمعي ليكملا الوجود الإنساني من جميع نواحيه.
وعلى كل حال، فإنَّه يبدو أنَّ هذا القول من شيخنا كان ممَّا اشتهر عنه ولم يثبته في كتاب له "ولم يكن ذلك بمذهب مصرح لأبي علي ومن جرى مجراه" كما يقول القاضي عبد الجبار.
ولعل ما قاله القاضي يرجع إلى دفع تهمة أبي بكر الباقلاني والقائلة بالشبه بين المعتزلة والبراهمة في موقفهما من النبوة.
فإنَّ عبد الجبار يؤكد أنَّ أبا علي وصحبه ما ذهبوا هذا المذهب إلَّا حين كلموا البراهمة الذين زعموا أنَّ ما في العقول مخالف للشرعيات. فكان رد المعتزلة: أنَّ النبوة تأكيد لما في العقول ودعاء إليها "فدفعوا بذلك قولهم بقبح البعثة أصلًا".
كتاب الجبائيان، من صفحة 270 – 278.
التعليقات (0)