لا وجه للغرابة أبدًا ونتيجة لارتهان الوعي المجتمعي بالمؤدلجات والتشدق السياسي أن تتفجر الأزمات العميقة بين الحين والآخر، وتتضاعف وتيرتها مع المنعطفات التاريخية الكبيرة، وليس ثمة أبلغ من كل ذلك ما يشهده العالم العربي من ثورات شعبية سيظل تأثيرها ضاغطًا ومستمرًا باتجاه التغيير والذي ما زالت الشعوب العربية تعيش فصوله الأولى من سلسلة طويلة في مضمار العدالة والحرية والديمقراطية. وكما الشعوب العربية الأخرى قد استلهمت الدور من ثورتي مصر وتونس، على نحو موازٍ أيضًا كان للحكومات استدراكاتها للأمور، كما هو الحاصل في ليبيا أو اليمن وسوريا وكذلك البحرين. فهذه الحكومات -وبنسب متفاوتة- تقمصت أدورًا عديدة من أجل الالتفاف على مشروعية مطاليب شعوبها، فما كان كان مقيّدا في (الفقه والسياسة) بأن لا شرعية لمن يخرج على ولي الأمر، رأيناه مطلق الأمر تجاه حكومة القذافي، فوجب إسقاطه، على العكس مما يجري في البحرين، يأتي (الفقه نفسه ورجال السياسة أنفسهم) وبالمطرقة العسكرية يحاصر أكثر من نصف الشعب باسم الطائفيّة؛ وفق سياسة: يُذبح القطيع فداءً للراعي!.
عند المنعطفات التاريخية تنقلب الصورة؛ فما يكون محرمًا في الفقه، يصبح حلالا في السياسة، والعكس صحيح، إنه أسخف انقلاب على القيم؛ فالمصالح تتقدم على درء المفاسدـ ولا غرابة إذا ما كشفت المحنة الأخيرة التي تعصف بالعالم العربي تحديدًا عن تحالف "رومانسي" عتيق ما بين (الديني والسياسي) ولو توفر العديد من المعطيات التي تؤشر إلى عدم التماهي ما بينهما في الرؤية والهدف؛ هذا لا ينفي نقطة التماس البرغماتية والتي تُعد القاسم المشترك ما بينهما في الواقع، فكما في السياسة لا عداوات دائمة وكذلك لا صداقات دائمة، في المقابل تصير اللغة الفقهية بوصفها ذات طابع متماسك قد أخذت إلى منحى مغاير لما هي عليه في العادة.
و حسب مبدأ الاتفاق والاجماع، ما كان واجبًا طاعته من ولاة الأمر برًّا كان أم فاجرا، يصبح مثل هذا الرأي بين العلماء المعاصرين محل تضعضع ونزاع، فقد أجاز بعضهم الخروج على ولي الأمر في سوريا وليبيا في الوقت الذي هو في عداد الحرمة في بلاد أخرى كالبحرين مثلا، وفي سياق متصل ومن الوجهة السياسيّة يتم تجييش الجيوش العربية لمؤازرة الثوّار في ليبيا للإطاحة بنظام القذافي، بينما لا نجد لمثل هذا التحرك ظلالا في دولة عربية أخرى يتفرد نظامها بمحاصرة وقمع المسالمين بذرائع واهية، تارة باسم الإرهاب وأخرى باسم الطائفيّة!.
المفارقة في الأمر بين كل ما يحدث هو (صناعة الدجل) الإعلامي الذي أصبح شريك في الجريمة وفبركة الحقائق، والمتاجرة بالثورات وتشويهها، ومواجهة مقدرات الشعوب ومصيرها، يحدث هذا عندما يكون الإعلام رهينة أخرى مضافة للبعض من المنتفعين من العلماء، فكلاهما يفقد مضمونه ويسقط حين يكون كالدمية بيد السياسيين، الأمر الذي يساعد على فتح شهية هذه الأنظمة لاستخدام القوة المفرطة تجاه شعوبها، ومحاصرتهم في أبسط حقوقهم الطبيعية، ومطاليبهم السياسية المشروعة. ومعظمنا يعرف تمامًا حجم الدور الذي تلعبه البرغماتية الدولية في إدارة الأزمات والصراع في منطقة الشرق الأوسط، فقد تُسرق الثورات وتشترى ويُقايض بها أيضًا حتى لو كان ذلك على حساب حرية الإنسان وكرامته، المهم أن يتم توفير كافة السبل الشرعية واللاشرعيّة وبغطاء إعلامي مُدجج؛ لأجل إبرام الصفقات تلو الأخرى، والتي لاتخدم في النهاية إلا المنتفعين من ذوي النفوذ والمصالح.
مبدأ المصالح وحده هو الذي يتصدر ملف إدارة الأولويات والأزمات والتحالفات بين الدول، ولا نذيع سرًا القول بأن مشكلات العالم العربي المعقدة هي ليست بمنأى ومعزل عن إسرائيل والمصالح الأمريكية، بدءًا بالعراق ومرورًا بما يحدث اليوم في سوريا، وانتهاءً بالجهود المشبوهة التي ساهمت في تقسيم السودان. نعم؛ المستفيد الأكبر من أزمات العالم العربي اليوم هي الإدارة الأمريكية وحليفتها إسرائيل، فهذا التحالف بالرغم من أنه مسكون بالقلق حيال ما يجري في مصر من تطورات إلا أنه استطاع وإلى حد كبير في اشعال فتيل الأزمة ما بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، والعزف على وتر الطائفية والمذهبية، وجدنا ذلك واضحًا في الحرب مع الحوثيين، ومؤخرًا التدخل العسكري ضد أكثر من نصف السكان في البحرين، بينما نجد المعادلة مقلوبة رأسا على عقب في ليبيا، فالمصلحة تقتضي في هذا البلد إسقاط نظام القذافي، في الوقت الذي لم يحن ذلك في اليمن على الرغم من أن اليمنيين ما تزال صدورهم العارية تتلقى طلقات الرصاص الحي من قبل أزلام نظام علي عبد الله صالح!.
إذ لا يمكن مناقشة أية مشكلة في المنطقة العربية وتكون إسرائيل والمصالح الأمريكية بمعزل وبمنأى عن ذلك، وقد اقتضت المصالح في المرحلة الماضية اللعب على وتر (الصراع السني الشيعي) ولم تفلح إلى حد كبير، سواء كان ذلك في العراق أو في لبنان وفلسطين، بل على العكس ونتجة للعلاقة المطّردة ما بين إيران والمقاومة الشيعية في لبنان والسنية في فلسطين، كل ذلك ساهم في قطع الطريق أمام تحالف دول الاعتدال العربي – السنيّة - مع أمريكا ضد إيران – الشيعيّة - .
لم يكن من السهل اختراق الظرف آنذاك خاصة ومن خلال حرب تموز 2006م في لبنان وصمود أهل غزة بعدها بالقدر الذي أحرزت جبهة الممانعة فيها انتصارًا تاريخيًّا على إسرائيل، فهي في الوقت نفسه قلصت حظوظ المصالح الأمريكية والإسرائيلية إزاء العزف على أوتار (الطائفيّة) باعتبارها جزءًا لا تتجزأ من مشروع تقسيمي لمنطقة الشرق الأوسط، وهذا ما كشفته العديد من التقارير آنذاك وما عززته وثائق ويكليكس مؤخرًا.
الإدارة الأمريكية ونتيجة للتحالف التعاقدي مع إسرائيل لم تكن لتهدأ حيال ما يشهده إيران، هذا البلد والذي هو برغم الحصار الاقتصادي الدولي وحجم التضييق السياسي والدبلوماسي استطاع أن يكون ضمن منظومة الدول التي تمتلك الطاقة النووية، وبالإضافة لدخوله في تفاهمات وتعاقدات في العديد من الملفات العسكرية والاقتصادية مع دول كالصين وروسيا أيضا استطاع وفي فترة قصيرة أن يدخل في تحالف إقليمي مع تركيا وسوريا، الأمر الذي يعزز من دوره في إدارة الأزمة مع إسرائيل وأمريكا معًا، سواء من خلال نفوذه في الجنوب اللبناني أو في غزة، ولا يمكن أن نتغافل دوره في الخليج والعراق تحديدًا.
لا يخفى ونظرًا للطبيعة السيوسولوجية التي يعيشها الناس في العالم العربي والإسلامي ولما تلعبه الأيدلوجيا والتمظهرات الدينية؛ فقد يأخذ الصراع الدائر ما بين أمريكا وحليفتها إسرائيل من جهة، وإيران كطرف استراتيجي من جهة أخرى أشكالا وصورًا متعددة؛ دينيّة أو طائفيّة أو مذهبيّة أو فكريّة. إلا أن ذلك لا يخرج عن كونه صراعًا سياسيًّا بامتياز، بل وتفوح منه رائحة المصالح أكثر منها سائر الأمور والاستحقاقات الأخرى، والثورات الشعبية التي حدثت في أكثر من بلاد عربية مؤخرًا كانت محل اختبار لدول الممانعة والاعتدال على حد سواء، بعد أن كشفت النقاب عن إزدواجية في المعايير وتباين في المواقف من الأطراف كافة، كلنا أدرك تمامًا موقف الإدارة الأمريكية وسياسة الكيل بمكيالين إزاء الثورات العربية، والشمس لا يمكن أن تغطى بالغربال، فالثورة لها صفتها المشروعة في سوريا، بينما هي في البحرين ما هي إلا عبارة عن تمردات، والعكس صحيح أيضًا بالنسبة للإدارة الإيرانيّة بل أكثر من ذلك على اعتبار بأن كل ما يجري من مظاهر احتجاج في سوريا ما هو إلا جزء من مؤامرة تستهدف دول الممانعة بأسرها.
في نهاية المطاف، ليس ثمة تساوٍ ما بين الضحيّة والجلاد، بقدر ما هو تساوٍ في المضمون المثالي للمصالح، فكل طرف من أطراف هذه اللعبة القذرة يُدرك تمامًا بأن المضي في هذا المسار يسترعي تقديم القرابين والبحث عن أكباش فداء، مهما صغرت دوائرها فغالبًا ما تصل إلى الدائرة الأوسع، بالتالي تكون الشعوب هي في موقع الأضحية التي لا يتوانَ الديني أو السياسي أو الاستراتيجي من تقديمها إذا ما أرغمته المصلحة فعل ذلك. مع ذلك يظل الرهان متوقفًا عند يقظة الشعوب ورؤيتها الثاقبة لمشهد الأحداث، وما الحراك الشعبي الأخير والمتدفق في شريان الإنسان العربي والرافض لكل أشكال العبودية والقهر والإذلال إلا جريان باتجاه التغيير إلى الأفضل، واقتفاءً لأثر الأخلاقيات والنظم التي تؤمن الحد الأدنى من العيش الآمن والكريم للشعوب العربية باعتبارها باتت بوعي وإدراك تواقة للحرية والعدالة والمعاني الديمقراطيّة. هذه الشعوب وحراكها الإنساني اليوم، هو أصدق مثال للتحرر من سياج التابوات الدينية والسياسية وما يُدبر لها من مصائب ومكائد، خاصة وأن لعبة المصالح باتت لعبة مكشوفة ولم تعد تنطلي عليها.
علي آل طالب
a.altaleb@yahoo.com
التعليقات (0)